إن كان المُتسفّر حقًّا يعتقد باحتماليّة إمكانيّة إيجاد جوابٍ مباشر على أمرٍ يشغل باله فيلجأ إلى الكتب لقطع شكّه باليقين فهذا لا يُشكّل فارقًا عن المغامرة التي يخوض فيها مُحبُّ الكتب في تعمّقه في المعنى.

التسفُّر

مقال: عمر زكريا


من مقال للنيويوركر

القراءة المتعمّقة بالكتب لا تحدث دائمًا بهدف التأويل الأعمق للنصوص المكتوبة. هُناك من يبحث بين السطور عن الأجوبة المباشرة للواقع. "البِبليومانسيا" هي أسلوبٌ فريد في قراءة الكتاب. فهو لا يتبع التقليد المُعتاد بتصفّحه من الصفحة الأولى إلى الأخيرة والقراءة سطرًا سطرًا، لأنَّ الهدف ليس مضمون ما في الكتاب بل الاستخارة والتنبؤ وأحيانًا العلاج.

بالعادة تُستخدم الكتب المُقدّسة لهذه الغاية ولهذا اشتُقَّ بالعربية لفظ التسفُّر من السّفْر. لكن عُرِفَ استخدام كُتُبٍ ليست بالأصل مقدّسة إنّما دواوين شعر كتبها أُناس لهم مكانتهم، وهذه الظاهرة ليست مقتصرةً على شعبٍ دون آخر فقد كانت معروفة في العالم أجمع.

يتم اختيار النصوص بشكلٍ عشوائي عبر وضع الكتاب الذي يؤمن المُتسفّر أنّه يحتوي على الإجابة على كعبه وموازنته ثمَّ تركه ليفتح وحده على صفحة عشوائيّة، بعدها يقوم المُتسفّر باختيار فقرة عشوائيّة وهو مغمض العينين حيث يكون قد وصل إلى إجابته.

 أحيانًا يكون الكتاب مبنيًّا بطريقة ستجعله يفتح دائمًا على الصفحة ذاتها بذلك الأسلوب لذا يقوم البعض باختيار الصفحات باستعمال أدواتٍ خارجيّة كأحجار النرد. وذهب البعض إلى اختيار الكتب نفسها بشكلٍ عشوائي أيضًا.

هذا الشكل من التنبؤ أو الاستخارة، إن كان صحيحًا أنّه التصق بهذا الأسلوب، فلا يمكن له أن يكون قد بدأ إلّا مع الكتاب الكُرّاس؛ فإن تتبعنا تاريخ الورق، فإنَّ بعض الكتب اللُّفافات كانت تصل في الطول إلى عشرة أمتار، لذا فإنَّ مدى عشوائيّة فتح الكتاب ليست موزّعة إحصائيًّا على كافّة الأسطر كتوزيعها في شكل الكُرّاس.

لكنَّ هذا التوجّه في التعامل مع الكتب لا يبتعد عن محبيّ الكتب. إن كان المُتسفّر حقًّا يعتقد باحتماليّة إمكانيّة إيجاد جوابٍ مباشر على أمرٍ يشغل باله فيلجأ إلى الكتب لقطع شكّه باليقين فهذا لا يُشكّل فارقًا عن المغامرة التي يخوض فيها مُحبُّ الكتب في تعمّقه في المعنى. كثيرٌ من القُرّاء هم باحثون عن الحقيقة أو إجابة، كثيرٌ يبحث عن أساليب ومهارات تساعدهم في يومياتهم وحياتهم، وكثيرٌ يقرأ الكتب المُقدّسة وتفاسيرها وتأويلاتها بحثًا عن يقين أو تثبيتًا له.

لكن يبدو لي المتسفّر أكثر كسلًا في خوض غمار الكتاب كاملًا ويسعى لليد الخفية، سواءٌ كانت يد القدر أم يد القدير، بالتدخّل في الإجابة عبر سلسلة الصدف في أسلوب التسفُّر التي ستقدّم له الإجابة بكل سهولة.

لكن هذا الكسل لا ينتهي هُنا، ماذا سيفعل المُتسفّر إن سأل سؤالًا عن قرارٍ حياتيّ ما وأدّت به جميع خطوات التسفُّر إلى فقرة لا علاقة لها البتّة ظاهريًّا بسؤاله؟ هل سيضطرّه هذا للبحث والتحقيق والتفكير والتساؤل وسؤال الآخرين، وربما، أقول ربما فقط، أن يستعين بكتبٍ أُخرى تفيده بفهم الرّابط بين سؤاله ونتيجة محاولة التسفُّر التي وصل إليها ويحتاجها؟

لن نستوعب نحن هذه التجربة، نحن الذين نشأنا في ظلّ جميع تلك المؤسّسات التعليمية التي تخبرنا بأنّنا إناء فارغة لا قيمة لها ما لم نُعبّئها. ثمَّ تقوم بحشونا إلى درجة التفتّق فتصيبنا بالتخمة لدرجة تمنعنا من التفكير، وتنفّرنا من القراءة. قد ينفع التسفُّر مع أصحاب تجربة من آمنوا به قبل أن يطّلعوا على أنظمة تلك المؤسسات. كثيرٌ من أبناء العالم الحديث يتمنون لو يبنون علاقة حميمة بالكتُبِ على شكل التسفُّر، لأنّهم لا يملكون الوقت لقراءتها والتمعّن فيها، فها هم حُرموا من الكتب، فإنّهم لا يؤمنون بالتسفُّر بسبب علمهم الذي حصّلوه من المؤسسات والذي أنقذهم من خرافات الماضي، ولا يقدرون على القراءة المتعمّقة (أو لا يريدونها) بسبب نوعيّة هذا العلم الذي نفّرهم منها.


خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.