ذهب أحدهم ليتمشى. كان بمقدوره أن يستقل قطارًا، ويرتحل إلى أماكن بعيدة، لكنه أراد فقط أن يتسكع في الجوار. فقد كانت الأشياء القريبة تبدو له أكثر أهمية من الأشياء البعيدة التي يُعتد بها
منظر طبيعي وتمشية
قصتان لروبرت فالزر
ترجمة: سامح سمير
منظر طبيعي
كان كل شىء يبعث على العجب والرعدة. لا وجود للسماء في أي مكان، والأرض مشبعة بالرطوبة. كنتُ سائرًا، وفي أثناء سيري، كنتُ أضع أمامي سؤالًا: هل من الأفضل لي أن أدور على عقبي، وأعود رأسًا إلى البيت؟ بيد أن شيئًا ما غامضًا كان يومىء لي، فرحتُ أتقدم في طريقي عبر السديم المُقبض، شاعرًا بمتعة ما في الحزن اللانهائي الذي يطغى على كل شىء من حولي. ففي وسط الضباب والرمادي الذي يلف كل شىء، انفتح قلبي ومخيلتي على اتساعهما. كان كل شىء شديد الرمادية. وقفتُ ساكنًا بلا حراك، مأخوذًا بما في البغض من جمال، مفتونًا بالأمل وسط هذا الغياب الكامل لكل أمل. بدا لي، وكأنه، من الآن فصاعدًا، سوف يكون من المستحيل عليَّ أن أعقد الأمل على أي شيء. لكن، مرة أخرى، بدا لي أن ثمة سعادة عذبة، وفاتنة، تستعصى على الوصف، تشق طريقًا متعرجًا عبر المشهد الحزين. وخُيل إليَّ أنني سمعتً أصواتًا، بيد أن السكون كان يعم كل شىء من حولي. كان ثمة شخص آخر يخطو عبر الغابة، وسط كل هذا الظلام المُقبض. كانت هيئته المُدثرة بالثياب أشد قتامة حتى من قتامة المشهد. من كان هذا الشخص؟ وماذا كان يريد؟ ما لبث أن ظهرت هيئات قاتمة أخرى، لكن لم يبدِ أي منها اكتراثًا بالآخرين، إذ بدا كل منها مكتفيًا بنفسه فحسب. وأنا أيضًا، لم أعد مهتمًا بما يريده هؤلاء الناس، ولا إلى أين عساهم يتجهون في هذا الظلام. كنتُ مهتمًا بنفسي فحسب، وألقيت بنفسي في أحضان تشوشي، الذي سرعان ما احتضنني، وأحكم حولي ذراعيه المبتلتين والباردتين. آه. بدا لي أنني كنتُ ملكًا ذات يوم، والآن عليّ أن أهيم على وجهي مثل متسول، في هذا العالم الفسيح، الذي يعج بالجهل، الذي يعج بطيش ولامبالاة ينذران بالشؤم. بدا لي أن الطيبة لا جدوى منها بعد الآن وإلى الأبد، وأنه من المستحيل بعد الآن أن ينطوي قلب المرء على أي نوايا طيبة. بدا لي أن كل الأشياء سخيفة، لا معنى لها، وأننا جميعًا لسنا سوى أطفال صغار، واقعين منذ البداية، بين براثن الحماقة والمُحال. ثم، ما لبثت أن أصبحت الأشياء كلها، مرة أخرى، طيبة. ومرة أخرى، رحتُ أسير بروح مفعمة بفرح لا يوصف، وسط هذا الظلام الجميل، الظلام الورع.
تمشية
ذهب أحدهم ليتمشى. كان بمقدوره أن يستقل قطارًا، ويرتحل إلى أماكن بعيدة، لكنه أراد فقط أن يتسكع في الجوار. فقد كانت الأشياء القريبة تبدو له أكثر أهمية من الأشياء البعيدة التي يُعتد بها. وهكذا، كان يعتد كثيرًا بكل ما لا يُعتد به. ونحن لا نريد أن ننكر عليه هذا الحق. كان يُدعى توبولد. لكن، بغض النظر عما إذا كان هذا اسمه أم لا، فقد كان في جيبه قليل من النقود، وفي قلبه روح جذلة. وهكذا، راح يمشي بلُطف، متقدمًا في طريقه على مهل، ليس بينه وبين السرعة المفرطة أي ود. كان يزدري العجلة. فما كان الاندفاع المحموم ليجلب له سوى الإنهاك والعرق الغزير. فلماذا عساه يفعل ذلك، راح يفكر، وهو يسير قدمًا، على مهل، وبحذر، ورضا، ولطف. كانت خطواته، متوازنة ومتناغمة، ورَخِيَّة الإيقاع بشكل ملحوظ. كانت الشمس تصب نارها الحارقة بعذوبة، وقد تلقاها توبولد بترحاب حقيقي، وصادق. لكنه كان ليتقبل أيضًا، بالسرور نفسه، وابلًا من المطر الغزير. وعندها كان ليفتح مظلته ويسير تحته كما ينبغي. بل إنه كان يتوق حتى إلى شيء من البلل، لكن لما كانت الشمس ساطعة في السماء، فإنه لم يُبدِ أي اعتراض. فقد كان يكاد لا يرى عيبًا في أي شيء على الإطلاق. والآن، خلع توبولد قبعته، وحملها في يده. كانت قبعة قديمة، يمكن أن ترى فيها بوضوح ذلك البُهت الذي تجده عادةً في قبعات الرحالة. ورغم رثاثتها، كان الشخص الذي يعتمرها يعاملها باحترام، لسبب بسيط، وهو أنها كانت مرتبطة بذكريات. فقد كان توبولد دائمًا ما يجد صعوبة في التخلي عن الأشياء البالية، والمهترئة. وهكذا، فهو يرتدي الآن زوجًا من الأحذية الممزقة. لقد كان بمقدوره، بكل تأكيد، ان يشتري زوجًا جديدًا من الأحذية، ذلك لأنه لم يكن فقيرًا فقرًا مدقعًا. فنحن لا نريد أن نصوره كإنسان معدم. بيد أن حذائيه كانا قديمين، وزاخرين بالذكريات. وكان قد مَشِيَ بهما في طرقات كثيرة. وكم من المشاق تحملاها بكل إخلاص حتى الآن. كان توبولد يحب كل ما هو قديم، كل ما هو مستعمل ومستهلك تمامًا. أجل، بل إنه، في بعض الأحيان، كان يهيم حبًا ببعض الأشياء العتيقة. فقد كان على سبيل المثال، يحب كبار السن، أولئك العجائز الذين أبلاهم الدهر. فهل يستطيع أحد أن يلومه على ذلك؟ بالكاد، لأنه كان ثمة في هذا مسحة من التقوى والورع، أليس كذلك؟ وهكذا، على مهل، خطوة تلو الأخرى، انطلق في الفضاء الأزرق البهي والمهيب. آآه، يالزرقة السماء، ويالبياض السحب الثلجي. لقد كانت رؤية السحب والسماء، مرارًا وتكرارًا، من الأشياء التي تسر لها نفس توبولد. لذلك كان يستمتع كثيرًا بالترحال سيرًا على الأقدام. ذلك لأن السائر يستطيع أن يتشرب الأشياء كلها في هدوء، وسلاسة، واستمتاع شديد، بينما لا يستطيع المسافر في القطار أن يقف ساكنًا ولو لبرهة، اللهم إلا في المحطات، حيث، في أغلب الأحوال، سوف يهرع إليه نادل يرتدي معطفًا أنيقًا، ليسأله ما إذا كان يرغب في احتساء قدح من البيرة. لكن توبولد من شأنه أن يستغني، بكل سرور، عن بضعة أقداح من البيرة، في مقابل أن يُترك وشأنه فحسب، ليمشي على ساقيه. فقد كان يجد فيهما بهجته، وفي المشي متعة تقر بها عينه. والآن، جاء طفل وألقى عليه تحية الصباح، فرد توبولد له التحية. وفيما هو سائر في طريقه، راح يفكر طويلًا في ذلك الطفل الصغير، والعزيز، الذي نظر إليه نظرة شديدة اللطف، وابتسم له ابتسامة بالغة السحر، وتمنى له صباحًا طيبًا ورضيًا.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه