لعل المظلة هدية من أحد آمري المصح أو أطبائه أو من أحد لم يعد على قيد الحياة، أو أنها مما تم التخلص منه، لكن عوضًا عن رميها مع بقية المهملات، وجدت ملجأ في العنبر الانفرادي للرقم 7! كانت أجمل ما في المصح بأكمله.

ترجمة: راضي النماصي

سدهارتا جيجو (1974 –) كاتب ومخرج سينمائي هندي من إقليم كشمير. حازت هذه القصة من تأليفه على جائزة الكومنولث للقصة القصيرة عام 2015، فرع قارة آسيا.


سدهارتا جيجو

فتح المظلة، ثم رفعها فوق رأسه عاليًا وخرج مرة أخرى من عنبره على اعتقاد بأن السماء ستمطر. كان المطر يتجنب المكان عدة أشهر، وفي المساء يُسمح للنزلاء بالخروج من عنابرهم والتمشّي في مجمّع المصح. لكنه الوحيد المسموح له بتعدّي البوابات وإمضاء قليل من الوقت في الشارع المجاور. وهذه الحرية المحدودة لم تكن عن استحقاق، بل مكافأة له من الأطباء على طاعته وهدوئه، إذ تطلب الأمر منهم عدة أشهر حتى يمنحوه هذه الحرية التي وإن قيست تنتهي عند حائط مجمع المصح البالغة مساحته مئة وعشرين مترًا، أو البضع وتسعين ياردة، طول الدرب الضيق بين البوابات والجدار الآخر. لم يكن هناك مكان آخر خلف الجدار، إذ يعد نزلاء المصح جداره بمثابة نهاية العالم، فما خلف الجدار المشيد من الطوب والحجر إلا ظلام شاسع وعزلة.

كان الرقم 7 متفائلًا إزاء المطر بقدر ما في ذلك المساء أيضًا، إذ أحس بأنه محظوظ لما عثر على المظلة ذات الخطوط الصفراء والحمراء عن طريق الصدفة، وقد صارت رفيقته. ومثله تمامًا، لم تشهد هطول مطرٍ قط. وما الفائدة من المظلة إن لم تستعمل للمطر؟ كان رقص قطرات المطر على نسيج النايلون المشدود بشرائط الألومنيوم الرفيعة حلمًا بعيد المنال، وما يعطي المظلة تعريفًا ويمنحها غرضًا وجوهرًا ومعنى، فلا نفع منها إطلاقًا بلا مطر، لكن الانتظار موجود أيضًا.. انتظار طويل ومرهق للسحاب والمطر. رأى الرقم 7 الغيوم الثقال تمر بمجمّع المصح وتحوم حوله في عدة ليال، فيفتح المظلة بسهولة ويغادر العنبر بينما يغمر الأمل قلبه وباله مشغول بالمطر على اعتقاد بأنه سيهطل.

لم تكن مظلة مختلفة، مثلما قد يظن المرء، علمًا بأن لا أحد يعلم قصة امتلاكها. فليس لدى الرجل زوار منذ سنين، ولا أي من النزلاء أيضًا، ولا أحد في المصح يتذكر كيف صارت جزءًا لا ينفصل عن الرجل، فالنزلاء يعيشون دون أي ممتلكات ماديَّة ما خلا مجموعتين من الملابس، إحداهما من قطن والأخرى من صوف. فلعل المظلة هدية من أحد آمري المصح أو أطبائه أو من أحد لم يعد على قيد الحياة، أو أنها مما تم التخلص منه، لكن عوضًا عن رميها مع بقية المهملات، وجدت ملجأ في العنبر الانفرادي للرقم 7! كانت أجمل ما في المصح بأكمله، أكثر جمالًا من خط الزهور البرية حول جدران المصح، ومجرد مرآها صباحًا يبعث على شفتيه البسمة، فيحملها عاليًا تحت شمس ما بعد الظهيرة ويتمشى في المجمع على محل، بينما ينظر إليه بقية النزلاء في عنابرهم عبر النافذة في ذهول وعجب. أرادوا حمل المظلة بأيديهم والاستظلال بها، لكن لم ينجذب أحد للجمال المدوخ في تلك المظلة المميزة بلونيها الأصفر والأحمر بقدر الرقم 7، ولم يدرك الجمال عمومًا في المصح سوى قلة.

ما عاد الرقم 7 يبالي بعد الأيام والليالي. خرج من البوابة وإحدى يديه على صدره والأخرى ممسكة بالمظلة بقوة بينما يترنم بنغمة ما. كانت مشيته غير ثابتة نظرًا للمرض الانتكاسي الذي يعاني بسببه لشهور، لكن مرضه بات أهون ما في باله، إذ لم يشعر بأي ألم جسدي أو انزعاج، وكل ما يتمناه هطول المطر. ومع ذلك، لم يحس بأي خيبة أمل حين عاد إلى زنزانته من مسيرته المسائية أو عندما يأكل بمفرده صباحًا وظهرًا وعشيًّا. كان الطعام يُقدم له في إناء من نحاس وأغلبه رز وخضار، أما اللحم فيقدم في المناسبات وليس له شهية تجاهه، إذ يترك طبق اللحم دون أن يمسه.

كان يتخيل وجود شخص آخر خلال ليالي العزلة وأنه ليس وحيدًا، إذ يرى سراب طفل، ثم يستيقظ من نومه العسير وإذ بالطفل يغمغم ببعض الكلمات من لغة غريبة، فيتخيله يحلم بكابوس، ويهدئ من روعه كما لو أنه طفله، ويطمئنه بينما يمسح على رأسه برفق قائلًا «إنه مجرد حلم. عد إلى النوم، أنا بجانبك». ثم ينام. كان يتكلم مع الطفل ليلة تلو أخرى، وما مرت ليلة دون أن يمر به قلق أو هم تجاهه، فكل ما أراده نومًا هانئًا للطفل وابتسامة على شفتيه، حتى أنه صلى في صمت وعلى قناعة أن بعض القوى ستتخلل دعواته وتبسط نعمتها على الطفل، فيقول «لست وحدك يا عزيزي». لم يدرك أنه صار أبًا وأمًا، ولم يكبر الطفل قط لسنوات خلال حياته المنعزلة في المصح، بينما كبر الرجل، وغطت الشعرات البيض وجهه، وغدت قوى عظامه واهنة.

يجلس الرقم 7 أمام الحلاق من أجل الحلاقة مرة في الشهر، ومن طبع الحلاق سرد النكت المضحكة للنزلاء بينما يحلق لهم، فيقول لرجل المظلة «أما زالت السماء ستمطر؟» عالمًا بهوسه تجاه المطر، فيرد الرجل مغمورًا بالأمل «ستمطر قريبًا».

في مساء ما، وبينما يتمشى الرقم 7 في الممر الضيق المحاط بأشجار اليوكاليبتوس الطويلة، توقف أمام المقعد الموضوع في المنتصف ما بين بوابات المصح والجدار حيث نهاية الممر. وما إن جلس على المقعد، مكانه المفضل، حتى بدأت المحادثة، وابتدأها بالتحية المعهودة.

«إذن، تكتنز للشتاء القادم يا سيد؟ هل أنت متأكد من قدومه؟»

توقف ضئيل الحجم ونظر إلى الأعلى حيث الشخص العابر دون أن يضع الحمل على الأرض، لم يترك العبء مع علمه أن الرجل جاء من أجل دردشة ودية.

رد بأعلى صوت: «ما الذي يدفعك إلى الاعتقاد أن الشتاء لن يأتي هذا العام؟ ستبقى متشائمًا على الدوام. انظر حولك. الطبيعة جميلة. انظر إلى النحل والورد وخلية النحل، والأوراق...».

«إن عدنا للواقع، فقد أحرقت خلية النحل. أتذكر؟»

«لم تحرقها، بل حلمت بذلك. الخلية موجودة».

«ذاكرتك بخير يا سيد. لكن ما فائدة الأمل أصلًا؟»

«ما أسوأ ما قلت، ظننتك مؤمنًا بمعجزات الأمل والطبيعة. ألا تؤمن بأن السماء ستمطر هنا في يوم ما فتصير الأرض رطبة وتعبق رائحة الزهور البرية؟»

«صحيح، وأنت محق، فأنا مؤمن بالمطر؛ إنما أغيظك لا أكثر».

«إنك لا تجرؤ على الخروج دون مظلتك حتى. تأمل كيف أتابعك بدقة. لكن هل أدركت في يومٍ ما بوسع المطر فعله؟ يا للدمار الذي يمكنه إلحاقه بنا نحن التعساء».

«ما السبب؟ لديك ملجأك الذي يحميك».

«صحيح، لدي ملجأ، وهو ملكي، وقد صنعته وتطلب عملًا شاقًا، ولست خائفًا».

أشارت صفارات الإنذار إلى موعد عودة النزلاء إلى زنازينهم، ودع الرقم 7 صاحبه ثم غادر.

وفي اليوم التالي، اضطر إلى الانتظار مدة أطول حتى خرج الضئيل من مخبئه.

«أين كنت؟»

«في الواقع، فاض طوفان، وغرقنا».

«لماذا؟ لم تمطر السماء بعد».

«لم تمطر عليك، لكن يمكن لقطرة ندى أن تتسبب بكارثة علينا».

«لم أفهم».

«ولن تفهم أبدًا، فأنت مشغول بعقد العُقد وحلها».

«أي عُقد؟»

«أرجوك دعني أواصل عملي، فزملائي في العمل يظنون أني أهتم بالنميمة مع الغرباء أكثر من عملي».

«لكني لست غريبًا».

«لكنك مصدر تشتيت بالتأكيد».

«أليست مخازنك ملأى الآن؟»

«ليس بعد. لا يمكن أن تكون المخازن ممتلئة، إذ علينا إطعام الكثير من العمال الجوعى».

«لكنك حر بفعل أي شيء ترغبه وتتجول دون قيود».

«أتتحدث عن الحرية؟ خلتك تأبه بالمطر فقط».

«صحيح».

«مع السلامة!»

«وداعا يا سيد».

ما كانت هناك إشارة لهطول أمطار طوال أيام. مرت لحظات نظر فيها الرجل من نافذة زنزانته وخطر بباله أن السحب تتراكم. وفي كل مساء يحمل المظلة أثناء سيره.

بعد شهور، لقي فريقًا مكون من طبيبين بابتسامة مبتهجة وفي يد أحدهما بضع أوراق، وكانوا قلما يبتسمون في غالب الأيام.

سأل الطبيب: «كم عمرك؟ هل تتذكر عمرك؟»، فنظر الرجل إلى الأطباء في حيرة، وتساءل «أي سؤال هذا؟»

قال الطبيب الآخر: «لدينا أخبار طيبة. بمقدورك الذهاب الآن، والأوراق جاهزة؛ فقد أثمرت جهودنا وأجمع أعضاء اللجنة على صحة تقييمنا لحالتك».

«اللجنة؟»، كان يخال أن اللجنة مكونة من الأشخاص الجادين الذي لا يوافقون أبدًا ولم يوقعوا على أي أوراق إطلاق سراح قط.

«قرارات اللجنة مبنية على الأدلة والحقائق وفحص جميع المرضى بدقة. هذه آخر ليلة لك في العنبر، وستصير حرًا في الغد. حظًا سعيدًا!». غادر الطبيبان بعدها.

ما استطاع الرقم 7 أن يهنأ بنومه في تلك الليلة. لكن الليل لا يتغير عن باقي الليالي، فنسي تمامًا ما يتعلق بالصباح التالي من حيث أنه يوم إطلاق سراحه والحرية المكفولة! إذ تحدث مع الطفل عن الأحلام، وأراد الطفل أن يستمع إلى قصة، فروى قصة، فنام الطفل، وسرعان ما نام بعده.

في صباح اليوم التالي، استيقظ إثر رائحة غريبة تسللت إلى عنبره من المجمع فغمرته بأريج. خرج الرجل من زنزانته ونظر في الأرجاء، فوجد بركة صغيرة والأزهار تقطر في التربة الرطبة. نظر الرقم 7 إلى السماء فوجدها غائمة.

أتى الآمر الذي تعود على جلب العشاء له بمجموعة جديدة من الملابس ووضعها على عتبة الباب، ثم أعطاه حقيبة تحتوي على ملابس إضافية وعلبة صفيح صغيرة وبعض النقود وقال: «سأفتقدك، لكني سعيد لأن حريتك بدأت في يوم ممطر. غادر في الوقت المحدد وإلا فاتتك الحافلة. سآتي وآخذك بعد فترة. كن جاهزًا».

لم يرغب الرقم 7 بالتغيير، لكنه أطاع الأوامر، فاستحمّ وارتدى الملابس الجديدة وانتظر انكشاف اللغز.

وبعد ذلك بوقت، حين أتى الآمر لمرافقته إلى البوابات، رجع إلى عادته. فرفع المظلة، هوسه الوحيد، وفتحها ثم خرج من زنزانته. لم يعرف ما عليه عمله، فأمسك بمقبض المظلة ومشى بثبات، وكانت مشيته واثقة. كان المطر قد انقضى والآن يتقافز بين البرك الموحلة الصغيرة في المجمع محاولًا تجنب اللطخ.

رآه الآمر خارج البوابات. تساءل الرقم 7 عن المسار الذي عليه أن يسلكه، إذ سد الجدار العملاق الطريق عن يمينه، ولم توجد سوى أجمة برية. رأى فتحة في الأدغال تؤدي إلى طريق لم يره من قبل.

انتظر صديقه كي يخرج بينما يحمل المظلة، لكن المطر قد ذهب بجحر النمل فاختفى الضئيل. طوى الرقم 7 المظلة بعناية واخترق الأجمة سالكًا وجهته نحو الطريق الذي ينتظره على الجانب الآخر.

ما ترك أثرًا عدا آثار قدميه المبللتين.


الترجمة خاصة بـ Boring Books.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.