إن الربيع الصامت هو أحد كلاسيكيات مناصرة القضايا في أمريكا، كتاب أثار استهجانًا على الصعيد الوطني ضد استخدام المبيدات الحشرية كما كان ملهمًا لتشريع مسعاه كبح التلوث، وبذلك أطلق الحركة البيئية الحديثة في الولايات المتحدة.

الربيع الصامت لراتشيل كارسون

مقال: روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، يونيو 2016

ترجمة: عمر سلامة


راتشيل كارسون، عن الجارديان

إن أمريكا هي مجتمع تم تأسيسه على كلمات إعلان الاستقلال وعلى مجادلات كُتَّاب من أمثال توم بين (مؤلف الفكر السليم) وجيمز ماديسون (شارك في تأليف الأوراق الفيدرالية) وعلى الدستور وتعديلاته الثلاثة والثلاثين بالأساس. كبلد أسسه بشكل كبير المحامون والصحفيون من خلال الحبر والورق، فإنها تستمر في إعادة تعريف نفسها عبر اللغة الإنجليزية. من جيل إلى جيل، يلتفت مواطنوها –بشكل فريد– للكتب والصحف لكي يجادلوا من أجل التغيير.

إن الربيع الصامت هو أحد كلاسيكيات مناصرة القضايا في أمريكا، كتاب أثار استهجانًا على الصعيد الوطني ضد استخدام المبيدات الحشرية كما كان ملهمًا لتشريع مسعاه كبح التلوث، وبذلك أطلق الحركة البيئية الحديثة في الولايات المتحدة. وصف كاتب الطبيعة العظيم بيتر ماتيسن نثره "الشجاع والموجز" بأنه "حجر الزاوية لحركة حماية البيئة الجديدة". في فصول قليلة واضحة وأقل من ثلاثمائة صفحة، وصفت راتشيل كارسون موت الأنهار والبحار، احتراق التربة، زوال الحياة النباتية والغابات، إسكات طيور الأمة، مخاطر رش المحاصيل، تسميم الإنسانية ("ما يتخطى أحلام آل بورجيا")، التهديدات الجينية التي يمثلها كل ما بالأعلى وخاصة في مظاهرها السرطانية.

تكتب كارسون: "نحن نقف الآن في مفترق بين طريقين". هناك الطريق فائق السرعة الذي يؤدي إلى "الكارثة"، وهناك –مرددة بيت روبرت فروست- "الطريق الذي يسلكه القليلون"، والذي يمكن لمواطني الولايات المتحدة أن يجدوا صوتهم فيه وأن يُسمعوا.

كان هناك انفجارًا في الاستخدام غير المقيد للمبيدات الحشرية في أمريكا الشمالية بعد الحرب العالمية الثانية. كانت كارسون –التي منحها عملها المبكر في مكتب الولايات المتحدة للمصايد فهمًا خاصًا للتلوث البحري- واحدة من أوائل من أدركوا أن الدي دي تي (DDT) –مبيد حشري ثوري جديد– يؤدي إلى عواقب بيئية حادة. كما كتب عالم الأحياء العرقية الكبير إدوارد أ. ويلسون: "إن تأثيرات المبيدات الحشرية على البيئة والصحة العامة كانت موثقة جيدًا قبل الربيع الصامت ولكن على شكل قطع وأجزاء متفرقة في الأدبيات التقنية. كان علماء البيئة على وعي بالمشكلة، ولكن تركيزهم كان منحصرًا في نطاق معرفتهم الشخصية الضيق".

كان إنجاز كارسون هو توليف هذه المعلومات في رسالة واحدة (صورتها التي لا تنسى لـ"ربيع صامت") يمكن للعلماء والعامة أن يتواصلوا معها ويفهموها.

عندما بدأت كارسون –التي كانت قد كتبت كثيرًا عن قضايا المحافظة على الطبيعة خلال الخمسينيات– البحث وراء الربيع الصامت، لم تكن كلمة "إيكولوجيا" مفهومة تمامًا. لم يكن علم أحياء المحافظة موجودًا. تذكر ويلسون لاحقًا: "حينها، كانت الثقافة العلمية متمحورة حول نجاح الثورة الجزيئية الباهر، والتي جعلت الفيزياء والكيمياء في أساس الأحياء". لقد رأينا بالفعل مع الرقم 15 في هذه السلسلة –اللولب المزدوج– الإثارة التي ولدتها اكتشافات مثل الحمض النووي، "جزئ الحياة". لذا كان عمل كارسون في ذاك الوقت يتعدى نطاق الاهتمامات العلمية المعاصرة.

كانت كارسون أيضًا تخوض معركة مع تجديد اقتصاد الولايات المتحدة ما بعد الحرب. بحلول أواخر الخمسينيات، كان النمو الاقتصادي المنتعش والسعي الوطني الديناميكي من أجل التقدم غير المحدود يعنيان أن العلم والتكنولوجيا اجتذبا دعمًا وطنيًا غير نقدي. كان يُنظَر للتحذيرات البيئية كتشتيت مزعج عن المشروع الأمريكي. نُشر الربيع الصامت في نفس عام أزمة الصواريخ الكوبية: كانت الحرب الباردة في أوجها.

كان جزءًا غير رسمي من مجهود الحرب هو صناعة الكيماويات التي اعتنقت الدي دي تي كأساس للزراعة المحلية. نُظِر إلى كارسون على أنها خطر ثلاثي، أولًا، كانت من خارج المجال؛ ثانيًا، كانت عالمة أحياء متواضعة بلا خلفية أكاديمية؛ وثالثًا، كانت امرأة تخاطب العامة (تكتب نصوصًا إذاعية وكتبًا ضمن الأفضل مبيعًا مثل البحر الذي حولنا، 1951). بإيجاز، كانت غير مؤهلة وغير وطنية.

في مناخ فكري عدائي، كان على كارسون أن تجد الدعم أينما تمكنت. بينما غمرت نفسها في موضوع شائك، تقاربت مع كتاب وصحفيين متعاطفين لدعم قضيتها، خاصة كاتب النيويوركر ومؤلف شبكة تشارلوت، إ. ب. وايت. كانت استجابة وايت لدعوة كارسون المتقدة هي التي أدت إلى حصولها على تكليف من النيويوركر بمقال هام، النص الذي سيصبح الربيع الصامت. ساعد مجهوداتها أيضًا اندلاع "خوف التوت البري العظيم" في 1959، حيث وُجد أن محصول الولايات المتحدة من التوت البري يحتوي على مستويات عالية من مبيد أعشاب مسرطن. منح منع هيئة الغذاء والدواء الفيدرالية لمبيعات التوت البري، وجلسات الاستماع اللاحقة في الكونجرس، جماعات الضغط المضادة لمبيدات الأعشاب اهتمامًا إعلاميًا متجددًا وشجع كارسون على التركيز على الجانب المظلم لبعض برامج المبيدات الحشرية، ورغم أنها فعلت ذلك بسخط هادئ إلا أن بلاغتها كانت فعالة وتعبيرها دقيق: "لو كان داروين حيًا اليوم، لأبهجه عالم الحشرات وأذهله بتحقيقه الرائع لنظرياته حول بقاء الأصلح. إن الأعضاء الأضعف في مجتمع الحشرات يتم إزالتها تحت ضغط الرش الكيماوي الكثيف".

في خاتمتها للربيع الصامت، سمحت كارسون لغضبها -بالنيابة عن الطبيعة- أن يصبح مهيبًا تقريبًا: "إن التحكم في الطبيعة هي عبارة تكونت في صلف، ولدت في عصر البيولوجيا والفلسفة النياندرتالي عندما كان يفترض أن هدف وجود الطبيعة راحة الإنسان... إنها محنتنا المنذرة بأن علمًا في غاية البدائية قد سلح نفسه بأحدث الأسلحة وأفظعها وأنه بإدارتها نحو الحشرات فقد أدارها نحو الأرض أيضًا". 

كما كتبت مؤلفة سيرة كارسون ليندا لير ، تعمدت كارسون "التصدي لحكمة حكومة سمحت لمواد كيميائية سامة أن تلقى في الطبيعة قبل معرفة العواقب طويلة المدى لاستخدامها، بلغة يستطيع الجميع أن يفهمها وباستغلال بارع لمعرفة العامة بالتهاطل الذري كنقطة مرجعية، وصفت كارسون كيف أن الهيدروكربونات الكلورينية والمبيدات الحشرية الفوسفورية العضوية غيرت العمليات الخليوية للنباتات والحيوانات والبشر... تحدت كارسون حق الحكومة الأخلاقي في ترك مواطنيها بدون حماية من مواد لا يستطيعون تجنبها جسديًا ولا طرح الأسئلة بخصوصها في العلن".

بمجرد اكتمال الربيع الصامت، تدخلت النيويوركر مرة أخرى، هذه المرة بإصدار مسلسل قبل النشر، ساعد في دفع عمل كارسون لقمة قوائم الأكثر مبيعًا. ساعدها بشكل جزئي الغضب الذي ساد النقاش العام والذي وصل إلى حد الرئيس كينيدي والبيت الأبيض، وأيضًا الحنق الذي شعرت به الصناعة الكيميائية. شوه خصوم كارسون اسمها- بتعبيرات ليندا لير اعتبروها "امرأة هستيرية يمكن تجاهل نظرتها التشاؤمية للمستقبل أو التثبيط منها إذا لزم الأمر. كانت عاشقة للطير والأرانب، امرأة كانت تحتفظ بالقطط، لذا هي بوضوح محل شك. كانت (عانس) رومانسية يثيرها علم الجينات ببساطة. باختصار، كانت كارسون امرأة خارج السيطرة. لقد تخطت حدود جنسها وعلمها".   

على الرغم من هذا، فإنها وبشكل مأساوي لم تكن قادرة على الرد على هذه الافتراءات أو حتى المشاركة في الحملة الدعائية لكتابها؛ أصيبت راتشيل كارسون مريضة بسرطان الثدي وماتت بعد 18 شهرًا من النشر، في 14 أبريل 1964. بالرغم من هذا، فقد وضع الربيع الصامت علامة على لحظة تاريخية عميقة الأهمية، قارنه البعض من حيث الأهمية التاريخية بعمل هارييت بيتشر ستو الكلاسيكي المعارض للعبودية "كوخ العم توم".     

إن حكم إدوارد أ. ويلسون لا لبس فيه. أصبح الربيع الصامت، كما يكتب، "قوة سياسية وطنية، مسؤولة بشكل كبير عن تأسيس وكالة حماية البيئة". نتج عنه أيضًا تمرير قانون الأنواع المهددة بالانقراض في عام 1973... أهم تشريع للحفاظ على الطبيعة في تاريخ الأمة". كان هذا القانون هو الذي تكفل أيضًا بحماية القاطور الأمريكي والحوت الرمادي والعقاب الرخماء والشاهين، بالإضافة إلى البجع البني الذي يعيش على الساحل الشرقي.

اقتباس مميز

"كان الصباح فيما مضى يخفق بجوقة الفجر من طيور أبو الحناء وطيور المواء والحمام وطيور القيق وطيور النمنمة وأعداد من أصوات الطيور الأخرى أما الآن فلا صوت؛ وحده الصمت يخيم على الحقول والغابات والأهوار".


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه