إنه كتاب يتعدى عن كونه شخصيا قليلًا وهو كتاب "بطولي" بلا لبس؛ يحتفي بالاحتمالية والصدفة وصفات الزهو والسرية والشوفينية والخداع الوضيع التي لا تنتمي إلى العلم. 

اللولب المزدوج لجيمز د. واتسون

مقال روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، مايو 2016

ترجمة: عمر سلامة


جيمس واتسون، عن the times

كان جيم واتسون في الرابعة والعشرين فقط حين فك شفرة بنية الحمض النووي، "جزيء الحياة" بالتعاون مع فرانسيس كريك. كانت هذه نقطة تحول في القرن العشرين، الحل لأحد الألغاز العظيمة في علوم الحياة والذي سوف يحدث ثورة في الكيمياء الحيوية. بلا مبالغة، لا شئ في التاريخ الإنساني سيظل مثلما كان مرة أخرى.

وصل واتسون إلى مختبر كافنديش بجامعة كامبريدج خلال خريف عام 1951 باحثًا عن النجاح والشهرة وحب النساء. كان متعجرفًا وبارعًا وأمريكيًا؛ خريج من الغرب الأوسط درس علم الحيوان وكان يحلم بالفوز بجائزة نوبل. وجد واتسون نفسه، بغروره الذي كان يضاهي غموضه، يعمل في كافنديش مع رجل يفوقه عمرًا ويتم إغفاله بعض الشيء، لكنه لا يقل عنه هوسًا بالنفس. كان فرانسيس كريك، الذي كان سيصبح فيزيائيًا حيويًا، في الخامسة والثلاثين من عمره وكان قد خدم في الحرب العالمية الثانية كعالم. يصف واتسون زميله بطريقته المرحة والجلفاء بأنه "مغمور تمامًا وفي الغالب لا يحظى بالتقدير. الغالبية كانوا يعتقدون أنه يثرثر كثيرًا".

على الرغم من هذا فقد أصبحا متلازمين في الحال. اعتادا على الالتقاء في حانة النسر، وهي حانة شهيرة في كامبريدج، على بعد رمية أنبوب اختبار من معملهم. هناك حيث كانا يتمضغان بقضايا اليوم العلمية، كان كريك وواتسون كلاهما يعلمان أن بنية الحمض النووي الريبوزي المنزوع الأوكسجين (DNA) ودوره في علم وراثة الإنسان هما قمة إيفيرست الكيمياء الحيوية المعاصرة والتي لم تقهر بعد. كانت الفرق البحثية في لندن وأوروبا وكاليفورنيا قد صارعت مع هذا اللغز لعقد على الأقل، لقد كانت قصة علم ما بعد الحرب. يبدو أن واتسون قد أصبح العامل المحفِّز لإبداع كريك المثبط. بخبرتهما المتواضعة إلى حد مدهش في الكيمياء الحيوية المتقدمة، انطلق هذا الثنائي المارق ليحل معضلة القرن العشرين العظمى: سر الحياة نفسه.

إن وصف واتسون الشخصي لمسعاهما صادق بلا هوادة ومثير بشكل فذ، صورة ملتهبة لشابين يتحديان المؤسسة العلمية الأنجلو-أمريكية ويفوزان، عكس كل الاحتمالات. كما لاحظ لاحقًا بعض المشاركين المجروحين في هذه القصة، إن عجرفة واتسون الأمريكية تترجم إلى صراحة- سذاجة حتى- "جيم الأمين"، الذي يمكن لأفضل شخص أن يقول إنه تقريبًا قسى على نفسه مثلما قسى على أى شخص آخر. يصور اللولب المزدوج عالمًا شابًا سينشل جيبك الفكري بينما يحادثك على مائدة عمل مختبرك قبل أن يندفع ليلاحق شابة أجنبية اخرى في كامبريدج، أو "بوبسي" بعاميته الأمريكية. لم يخاصم كريك نفسه زميله قط إلا أنه لم يستسغ صراحة سرد واتسون المتهور – صورة فريدة ومنحازة لا تقاوم لمجتمع علمي تمزقه المنافسات والكراهيات والعداوات والطموحات. رأى بيتر مداور- أفضل كاتب علمي في الستينيات- الكتاب عملًا كلاسيكيًا في الحال.

انطلق كريك وواتسون في سباق نحو الخلود من 1951 إلى 1953. واجها منافسة شرسة لكن تشوبها النقائص. كان لينوس باولينج في كاليفورنيا وموريس ويلكينز في لندن كلاهما قد درسا لسنوات طرق لفك الحمض النووي، وكانا على مقربة من تحقيق الإنجاز. لكن باولينج كان يقع في أخطاء جسيمة على الرغم من الموارد الضخمة. على مقربة أكبر، كان ويلكينز- أحد أصدقاء كريك- في صدام مع العالمة البارعة في مسح البلورات بالأشعة السينية التي لديه، شخص دكتور روزاليند فرانكلين المضطرب. هل يمكن لانتهازيين من كافنديش مثل كريك وواتسون أن يحصلا على بيانات كافية لبدء التجربة الفكرية المتقدمة التي يتطلبها شرح بنية الحمض النووي والتحقق منها؟

استطاع واتسون- بطل اللولب المزدوج الحتمي- أن يحصل لنفسه على دعوة لإحدى محاضرات فرانكلين في لندن ليدرك في الحال أن عملها في استكشاف البلورات بالأشعة السينية يحمل المفتاح للغز الحمض النووى. بإدراك لاحق، كانت فرانكلين منكبة على عملها بحيث لم تفهم أهميته، كما كانت أيضًا في خضم علاقة مهنية سامة مع رئيسها ويلكينز. على الرغم من هذا، يبقى وصف واتسون لفرانكلين- الشخصية المأساوية في هذه القصة- بغيضًا إلى حد كبير: قاسٍ ووقح ومُنتقص من المرأة.

لاحقًا، صورت سيرة شخصية تامة النضج كتبتها بريندا مادوكس- عنوانها الفرعي سيدة الحمض النووي الخفية- الدرجة التي ساهمت بها فرانكلين- التي ماتت بسرطان المبيض عام 1958- في تأسيس سياق العمل الذي سيطوره وينهيه بانتصار بالغ كريك وواتسون، وربما كان هذا من دون قصد منها. يقر واتسون بهذا في خاتمته المتكتمة حيث يعترف أن فرانكلين "أسست بالتأكيد المعاملات اللولبية الأساسية لجزيء الحمض النووي ولتحديد موقع السلسلة النووية الريبوزية على بعد نصف المسافة خارج المحور المركزي" – وهو اعتراف حاسم.

كما يقدم أيضًا اعتذارًا متأخرًا نوعًا ما لذكراها، معترفًا كيف أنه وكريك أصبحا يقدران "نزاهتها الشخصية وكرمها، مدركين بعد سنوات من التأخر التحديات التي تواجهها المرأة الذكية كى يتقبلها عالم العلم، الذي غالبًا ما ينظر للنساء على أنهن مجرد انحرافات عن التفكير الجاد".

بتعبير كئيب عن المشاعر غاب بشكل مميز عن تصويره للمرأة التي كان يطلق عليها "روزي"، يختتم واتسون بأن "شجاعة روزاليند النموذجية ونزاهتها كانتا ظاهرتين للجميع، حيث أنها بينما كانت تعلم بمرضها المهلك استمرت في العمل على مستوى رفيع بدون شكوى حتى أسابيع قليلة قبل موتها".

كانت النظرية اللولبية تتشكل ببطء. كانت المشكلة تكمن في إثبات هذه الفرضية الفعالة والمثيرة للجدل. بالكاد ساعد رؤسائهما "كريك والأمريكي"، كما كانا يُعرفان في كامبريدج.  يكتب واتسون: "فرانسيس وأنا تم إخبارنا أن علينا التخلي عن الحمض النووي" لأنه "لم يكن هناك شئ أصيل" في مقاربتهما. يصف واتسون شعوره بأنه "في مأزق" بعد هذا القرار. يكتب أنه بحلول منتصف العام 1951 كان احتمال "أن يفك أحدهم الحمض النووي على الجانب البريطاني من الأطلنطي باهتًا". في هذه الأثناء وبعيدًا في كاليفورنيا، كان معلومًا أن باولينج يتقدم بثبات.

لكن واتسون لم يهجر سعيه من أجل المجد.  استمر في العمل سريًا على البنية اللولبية للحمض النووي لساعات إضافية في كافنديش. لم يكن باولينج قد أعلن عن شيء بحلول أواخر العام 1952. كان هذا مشجعًا. يكتب واتسون: "إن كان باولينج قد وجد إجابة مثيرة حقًا، فإن السر لم يكن ليبقى طويلًا. أحد طلابه في الدراسات العليا بالتأكيد يعلم كيف يبدو نموذجه، وكانت الشائعة لتصلنا سريعًا". كما اتضح الأمر، فإن الأخبار من كاليفورنيا كانت أفضل بكثير مما كان يمكن لفريق كامبريدج أن يتوقعه. عندما نشر بالفعل باولينج دراسته أخيرًا، كان بها خلل أساسي وجوهري. لم يكن بمقدور واتسون أن يخفي ابتهاجه: "على الرغم من الاحتمالات ما زالت تبدو ضدنا، فإن لينوس لم يفز بنوبل بعد".

بنظرة إلي الماضي، على الرغم من أن التقدم بدا طويل الأمد وغير مؤكد بشكل مؤلم، فإن إنجاز كريك وواتسون حصل بسرعة كبيرة، قاده طموحه "الأمريكي" الهوسي. لم يتوقف واتسون إطلاقًا عن اختبار فرضيات جديدة لبنية الحمض النووي في مقابل تشكك كريك الأكثر حكمة. ثم تدخلت الصدفة في النهاية. كانت محادثة عفوية بين واتسون و"عالم بلورات أمريكي"، كان قد تم تعيينه في مختبره بالصدفة، هي التي أسفرت عن بذرة الفكرة التي ستنجو من تدقيق كريك. حسب رواية واتسون، في أواخر شتاء 1953 "حلق كريك بجناحيه إلى داخل حانة النسر ليخبر الجميع أننا وجدنا سر الحياة".

في الحال، كان "اللولب المزدوج" – بتكليف من واتسون ومواجهًا كريك كنموذج في المختبر – فائق الجمال ورائع الأناقة وبسيط بشكل جوهري. بكلمات واتسون: "أدرك كريك في الحال العلاقة المكملة بين السلسلتين ورأى كيف أن تناظر الأدينين مع الثايمين والجوانين مع السايتوسين كان نتيجة منطقية لشكل أساس السكر- الفوسفات المتكرر والمنتظم".

نحو نهاية مارس 1953، بدأ كريك وواتسون كتابة مقال "نيتشر" المؤلف من 900 كلمة  والذي سيغير الكيمياء الحيوية للأبد، ويسطِّر اسميهما في سجل العلماء العظماء: "نرغب أن نقترح بنية لملح الحمض النووي الريبوزي المنزوع الأوكسجين (DNA). هذه البنية لديها مظاهر جديدة ذات أهمية بيولوجية كبيرة". نادرًا ما احتوت جملتان في اللغة الإنجليزية على هذا القدر من التواضع المبتهج.

إن مسار واتسون البحثي – الذي يصفه اللولب المزدوج – عبارة عن سرد جاحظ العينين وعاصف لإقامات جامعية قصيرة بلا تدفئة، مراسلات مكتوبة باليد، مقابلات بالصدفة في حانات أو على متن قطار كامبريدج، مكالمات هاتفية غير متوقعة- لهي بعيدة بعد عالم آخر عن علم اليوم. إنه كتاب يتعدى قليلًا كونه شخصيًا وهو كتاب "بطولي" بلا لبس؛ يحتفي بالاحتمالية والصدفة وصفات الزهو والسرية والشوفينية والخداع الوضيع التي لا تنتمي إلى العلم. إنه خام ومجازف ولا يمكن تركه. باتخاذ موضوع شديد التعقيد وتطويعه للقارئ العادي، فقد ألهم جيلًا من الكتابة العلمية المستساغة، وربما أيضًا أشاع عمل كُتَّاب مثل مالكولم جلادويل (طرفة، المتميزون) ومايكل لويس (الشيء الجديد كليًا).

فقرة بارزة

"شاعرًا بالإثارة، سرقت ورقة برنال وفانكوكين من المكتبة الفلسفية، وأحضرتها للمعمل ليتسنى لفرانسيس التحقق من صورة الأشعة السينية لفيروس تبرقش التبغ".


     * الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه