«نعم، أحيانًا يكون المسافرون على هذه الحالة. ارتباكُ اللحظة الأخيرة، تعرفين. يُداهمهم الإدراك بعد فوات الأوان، ويندمون على شراء التذكرة. كان عليهم أن يفكروا مليًا في الرحلة مقدمًا».

ماري ڨينتورا والمملكة التاسعة

قصة: سيلفيا بلاث

ترجمة: مريم ناجي


سيلفيا بلاث، عن history of literature

ومَضتْ أضواء النيون الحمراء برتابةٍ وصَدرَّ صوتٌ من مُكبر الصوت. «القطار يغادر، في الممر رقم ثلاثة... القطار يغادر إلى... القطار يغادر...».

قالت والدة ماري ڨينتورا: «إنه حتمًا قطاركِ. أنا واثقة من أنه هو. هيا، أسرعي. معكِ تذكرتكِ؟»

«نعم يا أمي، معي. لكن أعليَّ المغادرة الآن؟ بهذه السرعة؟»

أجاب والدها: «أنتِ تعرفين حال القطارات». بدا غامضًا بقبعته اللبَّادُية رمادية اللون، وكأنه يسافر متخفيًا. «تعرفينها؛ إنها لا تنتظر أحدًا».

«صحيح يا أبي، أعرف».

اقتصَ العقربُ الطويل الأسود في الساعة على الحائط دقيقةً أخرى. ركضَ الناس في كل مكانٍ ليلحقوا بقطارهم، ومن فوقهم سقفُ المحطة المقوس مثل قُبَّة كاتدرائيةٍ ضخمة.

«القطار يغادر في المَمَر رقم ثلاثة... القطار يغادر... القطار يغادر...».

«بسرعةٍ يا عزيزتي». أمسكتْ السيدة ڨينتورا ذراع ماري واندفعتْ بها عبر صالات محطة الانتظار برَّاقة الرخام. تبعها والدُ ماري حاملًا حقيبتها. هرول أناسٌ آخرون إلى بوابة القطِار رقم (3). قَاد مُحَصِّلٌ يرتدي زيًا رسميًا أسودَ اللون، وطرف قبعته يُلقى ظِلًا على وجهه، الحشود عبر القضبان المتشابكة سوداء اللون نحو البوابة الحديدية إلى الرصيف من خِلفها.

قالت ماري مُتعثرةً، وهي تسمعُ هسيس المحرك الصاخب في الممر الغائر: «أمي. لا يُمكنني الذهاب اليوم يا أمي. لا أستطيع. لستُ مستعدةً لهذه الرحلة بعد».

«كلامٌ فارغ يا ماري»، قَطع والدها حديثُها ببشاشةٍ واسترسل، «أنتِ مرتبكةٌ ليس أكثر. لن تكون الرحلةُ نحو شمالًا محنةً، اصعدي إلى القطار ولا تقلقي حيال أي شيءٍ آخر حتى تصلي إلى نهاية الخط. سيُخبركُ المُحَصِّل أين تذهبين وقتها».

«هيا تعالي، يا لكِ من فتاةٍ طيبة». ثَنتْ أمُ ماري خصلةً من شعرها الأشقر الذهبي أسفل قبعتها السوداء المخملية. «ستكون رحلةً سهلة. الكل عليه مغادرة المنزل في وقتٍ ما. كلنا علينا الرحيل عاجلًا أم آجلًا».

ضعفتْ ماري وقالتْ: «أوه حسنًا، لا بأس». تركت نفسها تُساق عبر البوابات المصنوعة من الحديد المزخرف، إلى أسفل منحدر الرصيف الإسمنتي، حيث كان الهواء مثقلًا بالبخار.

«إكسترا، إكسترا»، صَرخ صبيان الجرائد بالعناوين، يبيعون الصحف على أبواب القطارات. «إكسترا... حُكِم على عشرة آلاف شخصٍ بالموت شنقًا... عشرة آلافٍ شخصٍ آخرين...».

همستْ والدة ماري بعذوبةٍ: «ما من شيءٍ، أي شيءٍ مطلقًا لتقلقي حياله». اندفعت وسط الحشود الفوضوية المتزاحمة، وتبعتها ماري في ظلها، على جانب عربة القطار الأخيرة. كان هنالك صفٌ طويل من المقاعد الحمراء الفخمة، لونها لون النبيذ أسفل الضوء الفاتح من السقف، وشقوق العربة كانت مثبتةً بمسامير نحاسية.

«ما رأيكِ في هذا المقعد، هنا في المنتصف؟»، لم ينتظر السيد ڨينتورا سماع إجابتها، بل أرجَحَ حقيبة ماري ورفعها على رف الحقائب. خطا إلى الوراء. تلمستْ السيدة ڨينتورا شفتيها المطلية بالأحمر بمنديل، وهمَّت لقول شيء، ثم توقفتْ. ما من شيءٍ باقٍ ليُقال في نهاية المطاف.

قالت ماري بمودةٍ تلقائية: «مع السلامة».

«مع السلامة يا عزيزتي. اقضي وقتً لطيفًا»، انحنت السيدة ڨينتورا لتمنح ماري قُبلةً سريعة ببالٍ منشغل.

استدار السيد والسيدة ڨينتورا وابتعدا، ثمَّ حين وصلا إلى نهاية الممر انزويا عبر المدخل المفتوح. لوَّحتْ ماري لهما، لكنهما كانا قد اختفيا بالفعل ولم يرياها. جلستْ على المقعد جوار النافذة، خلعتْ معطفها الأحمر ثم علَّقته على الخُطاف النحاسي بجانب إطار النافذة. كان بقية المُسافرين تقريبًا قد استقروا جميعًا في مقاعدهم، لكن ظل عددٌ قليل يأتي إلى الممر باحثًا عن المقاعد. توقفتْ سيدةٌ ترتدي مِعطفًا أزرق اللون، وتحمل طفلًا ملفوفًا في بطانيةٍ بيضاء متسخة، عند مقعد ماري للحظة، لكنها تابعتْ سيرها إلى نهاية العربة حيث تكثر الأماكن الشاغرة.

«هل هذا المقعد محجوز؟»، أتتْ المرأة تتمايل في الممر، لاهثةً ووجهها أحمر، تحمل بيدها حقيبةً بنيَّة اللون مثل التراب. تَعرجت عيناها الزرقاوان وسط كتلةٍ من التجاعيد، وتمدد فمها الكبير الرحب في ابتسامة.

«لا، لا أحد يجلس هنا». لم يكن بوسع ماري إلَّا أن ترد ابتسامتها بابتسامة. تحركتْ لتقترب من النافذة وراقبتْ المرأة بينما تخلع قُبعتها البنيَّة الرثَّة ومعطفها البُني القماشي.

«أوووف»، تنهدتْ المرأة وهي تغوص بثقلٍ في المقعد الأحمر الفاخر. «ظننتُ أنني سأفوِّتُ هذه الرحلة. القطار على وشك الانطلاق».

أصدر المُحرك صوتًا مثل خوار، وارتج ثم توقف. صرخَ صوتٌ من الخارج يقول: «اكتمل الصعود... الجميع على متن القطار!» صُفِقَ باب العربة مُقفلًا بطرقعةٍ حاسمة، مُحتجزهم جميعًا في باطنه.

قالت المرأة: «ها نحن ذا. نغادر». تصاعد البُخار من خلف زجاج النافذة بينما أزَّ القطار ببطءٍ على السِكة، ولم يكن في وِسعهم الرؤية من بين سحاب الأدخنة ورماد الفحم المُحترق.

مَدَّت السيدة يدها إلى حقيبة يدها وأخرجت شيئًا تحيكه، بدايات نسيجٍ ناعمٍ من صوف أخضر اللون كورق الشجر.

هَتَفت ماري: «أووه! جميلةٌ للغاية. ماذا ستكون؟»

«فستان، حين انتهي منه». تمعنت السيدة في ماري تَقيسها بنصف عين. «إنه لفتاةٍ في مثل حجمكِ كذلك».

«أنا واثقةٌ من أنها ستُحبه».

نظرتْ السيدة لماري بابتسامةٍ جَذلة. قالت: «آملُ هذا». ثم التزمت الصمت.

كان القطار ما يزال يندفعُ بسرعةٍ عبر النفق المظلم حين اشتعل النزاع في المقاعد أمامهما. جلس ولدان صغيران هناك، عبر الممر المقابل لأُمهما التي كانت تقرأ مجلة، يلعبان بجنودٍ معدنية.

قال الفتى الأكبر ذو العينين السوداوين لشقيقه: «أعطني هذا. إنه جُنديِّ أنا. لقد أخذتَ جُنديَّ».

قال شقيقه الشاحب أشقر الشعر: «لم أفعل. لم آخُذه».

«بل أخذته. لقد رأيتك». أمسك الفتى الأكبر بجندي مُصفَّح وقَرع به شقيقه على جَبينه. «هاكَ! تستحقها».

نزَّ الدم من كدمةٍ أرجوانية. وشَرع الأصغر في الأنين، وصرخَ قائلًا: «أكرهك، إنني أكرهكَ».

لبثت الأم تَقرأ مجلتها.

قالت المرأة المجاورة لماري: «تعال، تعال، هذا يكفي» انحنتْ إلى الأمام حتى ظهر المقعد. مدَّت يدها تربتْ بحنوٍ وتمسحُ الدم على جبين الفتى الصغير بطرف منديلها الكتَّاني الأبيض. «عيبٌ عليكما يا أولاد، تُثيران كل هذه الجلبة دون سببٍ بتاتًا. من أجل جنودٍ صفيحيةٍ سخيفة».

عبسا مُتجهمين إزاء هذا التطفل، وعادا يلعبان بهدوء.

استقامت المرأة من مَيلها إلى الأمام. «لا أعرف ما خطب الأطفال في أيامنا هذه. وكأنهم يزدادون سوءًا على سوء». تنهدت وعادت لما كانت تحيكه. وفي الخارج، ازدادت حدة الضوء بغتةً.

قالت ماري: «انظري. إننا نخرج من النفق».

اندفع القطار إلى المساء الكئيب الرمادي، وامتدتْ حقول الخريف الجرداء على جانبي السكة من خلف بقاع الرماد المحترق. وفي السماء تعلَّقَ قرصٌ مسطح برتقالي اللون كان الشمس.

هتفت ماري: «الهواء ضبابيٌ وكله دخان! لم أرَّ الشمس في هذا اللون الغريب من قبل أبدًا».

أجابتْ المرأة: «إنها حرائق الغابات. دائمًا يهبُّ الدخان من الشمال في هذا الوقت من العام. سيأتينا المزيد منه لاحقًا في الطريق».

ظهر كوخٌ خشبي بنوافذ موصدةٌ ألواحها على جانب السِكة ويتَضاءل حجمه في المسافة الفاصلة.

«ما الذي يفعله هنا هذا البيت بعيدًا عن كل شيء؟»

«لم يكن هذا بيتًا. كان فيما مضى أول محطةٍ على الخط، لكنهم ما عادوا يستخدمونه هذه الأيام، لذا أُغلق بالكامل؛ غدت هذه الرحلة رحلةَ إكسبريس بمرور الوقت».

ومع شعورٍ بالخمود تسلل من الإيقاع المُنضَبط لعجلات القِطار، حدَّقت ماري من النافذة. جذَبتْ عينيها فزَّاعةٌ في إحدى حقول الذرة، مع عُصيٍ متشابكةٍ ومعقوفةٍ وقشور الذرة متعَفنةٌ أسفلها. خَفقَ المعطف الرث الداكن في الرياح، خاليًا، لا يسنده جسد. ومن أسفل هذا القوام السخيف تبخترت الغربان السوداء مُقبلةً ومدبرة، تنقر الأرض الجافة بحثًا عن الحبوب.

ازدادت سرعة القطار. وقتها قالت المرأة لماري: «سأحضر كوب قهوةٍ من عربة المطعم. ترغبين في القدوم معي؟»

أجابت ماري: «أكيد. أكيد، أودُّ أن أمدِدَ قدميَّ».

نهضتا كلتاهما وسارتا في الممر حتى العربة الأمامية. كانت عربة المدخنين؛ لسع الهواء الضبابي عيني ماري. تراصتْ طاولات لعب الورق جوار النوافذ، وكان أغلب الرجال يلعبون البوكر. تحرك النُدل في معاطفهم البيضاء بسلاسةٍ يحملون الصواني ويقدمون المشاريب. علا صوت ضحكٍ صاخب وصلصلة مكعبات الثلج في الكؤوس.

«العربة التالية هي المطعم». أشارتْ المرأة برأسها دون أن تلتفتْ. اندفعت عبر الباب تَعبر التقاطع المتأرجح ثم إلى العربة أمامها وماري تسير في ذيلها.

على مقاعد وثيرة من القطيفة الحمراء، جلس الركَّاب متكئين في مطعم القطار، يلتهمون التفاح والبرقوق والعنب المزروع في الدفئيات من زُبدِيات الفواكة على الطاولات الخشبية اللامعة. تدفقتْ موسيقى فاترةٌ لجو العشاء من مكبرات الصوت المُخبأة في مكانٍ ما على الحائط.

توقفتْ المرأة عند طاولةٍ لفردين وأشارت لماري بالجلوس.

«هل لي أن آخذ طلبكما؟»، سأل النادل الأسود مرتديًا بذلة بيضاء تناسبه بشدة، القلم متأهبٌ في يديه فوق لوح ورقي. لمَ تره ماري وهو يقترب منهما حتى. أحضر ماءً مثلجًا لكلٍ منهما.

قالت ماري: «أريد كأسًا من شراب الزنجبيل».

ابتسمتْ المرأة له: «سأتناول طلبي المعتاد».

«أكيد.. قهوة، كريمة، سكر». رمقها النادل الأسود بابتسامةٍ خاطفة وكتبَ خربشات هيروغليفية على ورقته.

أتى الطلب؛ تصاعد بخار القهوة في فنجانٍ لامعٍ أخضر فُخاري، وشراب الزنجبيل، تَعلوه فقاقيع صغيرة فضية اللون، أتى في كأسٍ طويل في قعره كرزةٌ حمراء.

قالت ماري بحماس: «لذيذ! لم أجلس في عَربة طعام من قبل أبدًا؛ شيءٌ فاخر».

اتفقت السيدة معها وهي تدفئ يديها حول الفنجان بُنيَّ البخار. «صحيح، إنهم يبذلون قصارى جهدهم لجعل الرحلة مسليةً قدر الإمكان».

استرخت ماري في الراحة الوثيرة، ترتشفُ شرابها من الزنجبيل. وأسفل الضوء الخافت الموارب، كان لون الأرائكِ الموسَدة أحمرَ دافئًا، والموسيقى تَهزِج من السماعات الخفية. ازدردتْ ماري القطرات الأخيرة من شراب الزنجبيل وأمالتْ الكأس لتتدحرج الكرزة وتسقط في يدها. ألقتْ بها في فمها ومضغت الثمرة الحلوة.

كانت الشمس الأرجوانية خارج النافذة الكبيرة تغوص في الجانب الغربي الرمادي؛ بدت أصغر حجمًا مما رأتها ماري آخر مرة، وكان لونها البرتقالي يميل داكنًا إلى الأحمر.

قالتْ ماري محدقةً في صفحة الأرض الجرداء الآخذة في الاِسوداد: «يا إلهي، الليل يحل بسرعة!».

«لا يكاد الواحد ينتبه لمرور الوقت في هذه الرحلة»، أومأتْ المرأة، «إن المكان مريحٌ للغاية هنا داخل القطار. لكننا تجاوزنا محطة التوقف الخامسة قبل قليل في طريقنا ما يعني أننا على وشكِ دخول النفق الطويل. هلَّا عُدنا إلى عربتنا؟»

«نعم، لنَعُد. هل ندفع الحساب الآن؟»

أجابتها المرأة: «لا. سيضيفون المبلغ على فاتورتكِ في نهاية الرحلة». نهضتْ من مكانها وسارت نحو العربة، تحركُ قدميها بثباتٍ، واحدةً تلو الأخرى، في الممر المتأرجح على القطار المُسرع.

لمَّا وصلتا إلى مقعديهما، تناولت المرأة إبرة حياكتها ثانيةً، وراقبتْ ماري في شرود الأراضي الزراعية التي تمرُّ بها. علا بكاء الطفل في نهاية العربة، مدللًا ونزِقًا. مرَّ ثلاثة رجال أعمالٍ في الممر قادمين من عربة البار، يترنحون مع حركة القطار ويضحكون. كانت المصابيح على السقف نجومًا صلبةً وضَّاءةً.

قال أحدُ الرجال: «مشاغبٌ غبي».

أجابه الآخر: «صحيح، معكَ حق». ومن أسفل قبعاتهم الرمادية المدببة بدا الرجال الثلاثة صورةً واحدة. ترنحوا وتمايلوا، ساروا كتفًا بكتف في العربة، وظل الطفل يبكي كما لو أنه سيبكي إلى الأبد.

كان القطار قد اندفع داخل نفقٍ آخر؛ اصطفتْ الجلاميد المعتمة في صمتٍ وسرعةٍ، تمرُّ أمام النافذة، والعجلاتُ تتراكضُ مثل تروس ساعةٍ عملاقة.

فتحَ بائعٌ جوَّال الباب في أول العربة وأتى يتمايل ببطءٍ على طول الممر، صرخَ مناديًا: «حلوى، فشار، كاشو... تعال وخذ حلوى، فشار، كاشو...».

قالتْ المرأة: «هنا»، فتحتْ حقيبة يدها العتيقة البنية وأخرجتْ منها مِحفظةً مهترئة، «سأشتري لنا قالبَ شيكولاتة...».

أبدتْ ماري اعتراضها: «أوه، لا. أرجوكِ، سأدفعُ ثمنها أنا».

قالت المرأة: «غير ممكن يا عزيزتي. إنها على حسابي. ستُرضي الشيكولاتة ولعكِ بالحلويات. كما سيكون لديكِ ما يكفي لتدفعي ثمنه مع نهاية الرحلة».

وقفَ البائع قِبالة مقعدهما ودفعَ قبعته الحمراء إلى الوراء على جبهته، بينما وضعُ كفيه على قميصه الحريري المخطط بالأحمر والأبيض.

سألَ بصوتٍ رتيبٍ ضَجر: «ماذا تُريدان؟ لدينا...»، ثم توقف، وأمعن النظر في السيدة ثم انفجر ضاحكًا ضحكاتٍ خشنةً وصاخبة.

«أتخوضين هذه الرحلة ثانيةً؟»، انخفض صوته إلى نبرةٍ هادئةٍ متكتمة. «تعرفين أن لا شيء لكِ على هذه الحمولة. الصفقةُ كلها وُقِّعت، وخُتمت، وسُلِّمت. وُقِّعت، وخُتمت، وسُلِّمت».

ابتسمتْ المرأة بدماثةٍ وقالت: «لا تغالِ في ثقتكِ هكذا يا بيرت. حتى المحاسبين قد يخطئون أحيانًا».

«المحاسبون، نعم، لكن الرئيس؟ لا». خشخش بيرت محفظة الفكَّة السوداء بابتسامةٍ خبيثة. «أتمَّ الرئيس اتفاقه كله. شخصيًا، أتمَّه شخصيًا هذه المرة».

ضحكتْ المرأة ضحكةً رخيمة. «صحيح، أمرٌ طبيعيٌ بعد الخطأ الذي وقعَ فيه الرحلة الفائتة، بعد أن تسبب في عبور القطارات إلى المستوى العلوي. لماذا، الآن سيعجز عن إخراج هؤلاء الناس من الحدائق السُفلى إن حاول. استولوا على الحدائق مثل الأطفال، فرحين كعصافير القُبَّر. أتظنُ أنهم سيُطيعونه ويعودون إلى النفق السفلي حيثُ ينتمون؟ محالٌ أبدًا».

قطَّبَ بيرت وجهه مثل قردٍ وأجابَ مهزومًا: «صحيح، صحيح، أعتقدُ أن عليكِ أن تنالي نسبةً ما أحيانًا».

قالت المرأة: «لهذا السبب أنا هنا. سآخذ قالبَ شيكولاتة».

«كبير أم صغير».

أجابتْ المرأة: «كبير»، وناولتهُ عُملةً معدنية.

قال بيرت بينما يلمسُ قبعته: «حسنًا، وداعًا الآن. صيدًا موفقًا»، ثمَّ تأرجحَ عبر الممر، ينادي بصوتٍ ضجرٍ رتيب: «حلوى، فشار، كاشو...».

قالتْ المرأة تُبدي رأيها إلى ماري وهي تفتحُ الشيكولاتة دون أن تُمزقَ القصدير الفضي الرقيق: «بيرت المسكين. يتوقُ في وحدته ليتحدَّث مع شخصٍ ما خلال السفر. إنها رحلةٌ طويلةٌ للغاية حدَّ أنه يصعبِ أن يقطعها أي أحدٍ مرتين». كسرتْ جزءًا من قالب الشيكولاتة وأعطتْ ماري قطعةً كبيرةً من الحلوى البُنية الملساء. عبق الهواء برائحة الشيكولاتة الكثيفة والفوَّاحة.

قالتْ ماري: «ممم رائحتها لذيذة». قضمتْ قضمةً فذابت الحلوى على لسانها، يمتصُ حلاوتها ويسيِّلُ العُصارة المُسَكَّرة إلى حلقها.

قالتْ ماري للمرأة: «يبدو أنكِ تعرفين الكثير عن هذه الرحلة. أتسافرين باستمرار؟»

«يا إلهي، نعم. إنني أسافر هنا وهناك منذ زمنٍ طويلٍ للغاية. لكنِّي أقطعُ هذه الرحلة أغلبَ الأحيان».

«بلا شكِ طبعًا؛ إنها جولةٌ مريحةٍ، فعلًا. إنهم يضيفون الكثير من التفاصيل اللطيفة الصغيرة، مثل المرطبات كلَّ ساعة، والمشاريب في غرفة اللعب، والأرائك في غُرفة الطعام. إنها بمثابة إقامةٍ فندقية».

رمتها المرأةُ بنظرةٍ حادةٍ وقالتْ ببرود: «صحيحٌ يا عزيزتي، لكن تذكَّري أنكِ تدفعين ثمنها. تدفعين ثمنها كلَّها في النهاية. يقتضي عملهم أن يجعلوا الرحلةَ ساحرة. تكنُّ شركة السكة الحديد أكثر من مجرد اهتمامٍ مفرطٍ وودودٍ بمسافريها».

أقرَّتْ ماري ضاحكةً: «أظنكِ على حق. لم أفكِّر في الأمر من هذا المنطق. لكن أخبريني، كيفَ سيكون كل شيءٍ حين ننزلُ من القطار؟ إنني عاجزةٌ عن تصوره. لا تُفصح ملفات السفر عن أي شيءٍ حيال الطقس أو الناس في بلاد الشمال، لا شيء مطلقًا».

مالتْ المرأة على ما تُحيكه، منهمكةً فيه فجأةً. كانت هناك عُقدةٌ في الخيط. وعلى عجلةٍ سَوَّت الصوف واستمرتْ في الحياكة.

قالت المرأة: «أفهمُ من كلامكِ أنكِ ذاهبةٍ إلى نهاية الخط».

«هذا صحيح، نهاية الخط. قال أبي إنه ليس عليَّ أن أقلق حيال الوصلات أو أي شيء، وأن المحصِّل سيُخبرني أين أذهبُ من هناك».

همهمتْ المرأة: «المحطة الأخيرة. أنتِ متأكدة؟»

«نعم. هذا ما كُتبَ على تذكرتي حتى. إنها تذكرةٌ غريبةٌ حدَّ أنني أتذكَّر الرقم، أحمرٌ على أسود. كُتبَ عليها: المملكة التاسعة. إنها طريقةٌ غريبةٌ لتصنيف محطات السكك الحديدية».

قالتْ المرأة كما لو أنها تكلم نفسها: «يألفه الواحد منِّا بعد فترة. وكل تلك التقسيمات والتقسيمات الفرعية والتصنيفات الصغيرة السخيفة. عبث، هذه هي الحقيقة. عبث. لكنَّ أحدًا لا يعي هذا في أيامنا هذه. حركةٌ تافهةٌ وحيدةٌ، لفتةً إيجابيةٌ واحدة، والمنظومة كلها ستنهار، ستتداعى».

قالتْ ماري: «لستُ أفهم مقصدكِ بالضبط».

«طبعًا لا، طبعًا لا تفهمين يا عزيزتي. لقد نسيتْ نفسي. كنتُ أدور في حلقةٍ مفرَّغة. لكن أخبريني، هل لاحظتِ، وأنتِ جالسةٌ هنا، أي شيءٍ غير عادي في الناس على متن القطار؟».

أجابتْ ماري ببطءٍ بينما تنظرُ لما حولها: «لماذا، لا»، وكررتْ في حيرةٍ من أمرها، «لماذا، لا. أراهم جميعًا طبيعيين».

تنهدتْ المرأة وقالت: «أظنني أنا الحساسة بزيادة».

ومض النيون الأحمر خارج النافذة، وتباطأ القطار، دخلَ مهتزًا إلى محطة المملكة السادسة. فُتحَ باب العربة متأرجحًا، وأتى دبيب خطوات المحصِّل عبر الممر نحو المرأة الشقراء في الأمام ذات الفم المطلي بالأحمر، شَحبتْ وشدَّت فراءها من حولها وانكمشتْ في مكانها.

قالتْ: «ليس بعد. أرجوك، ليس بعد. هذه ليست محطتي. امنحني وقتًا أطول قليلًا».

قال المحصِّلُ: «أريني تذكرتكِ»، بللتْ المرأة شفتيها المصبوغتين بلون الدم.

أجابتْ: «أضعتها. لا أجدها».

قال المحصِّلُ بصوتٍ مجردٍ من أي نبرة: «إنها في الإصبع الثانية من قفازكِ الأيمن، مكان ما خبأتها وأنا آتي».

انتزعتْ المرأة قُفاز يدها اليُمنى بغضبٍ، وأخرجتْ قصاصة الورق المقوى الحمراء من تجويفها ودفعتْ بها إلى المحصِّل. ثقبَ التذكرة ببرَّامَته، ومزقها نصفين ثم ناولها النصفَ الأصغر.

قال: «هذه لمعبر النهر، حريٌ بكِ أن تغادري الآن».

لم تتحرك المرأةُ لتغادر؛ مدَّ المحصِّلُ يده وأمسك بذراعها. قال: «أنا آسف. لكن عليكِ أن ترحلي الآن. لا مجال لأي تأخيرٍ في هذا القطار. عندنا جدولٌ علينا الالتزام به. ولدينا حصتنا من المسافرين».

«سأغادر»، تجهمَّتْ المرأة في نزق، «لكن اترك ذراعي. أنت تؤلمني. تحرقني».

نهضتْ المرأة وسارتْ عبر الممر، تنورتها الصوفية القرمزية تروحُ وتجيء حول ساقيها، ورأسها مرفوعٌ في شموخٍ وتحدٍ. خارج باب العربة، على الرصيف، وقفَ حارسان من المحطة في انتظارها. وأسفل الوهج الأحمر المنبعث من نور النيون الذي شمِلهم، اقتادا المرأة بعيدًا، يجاورها حارسٌ من كل جانب، عبر بوابة الخروج المسطَّرة بالقضبان.

عادَ المحصِّلُ إلى العربة، يمسحُ جبينه بمنديلٍ حريري كبيرٍ أحمر اللون. توقف عند مقعد ماري وابتسم ابتسامةً واسعةً إلى المرأة. كانت عيناه سوداوين، بلا قرار، لكنهما مرقشتان ببقع الضحكِ الباردة.

قالَ للمرأة: «لا نمرُّ عادةً بمتاعب بالغةٍ كهذه مع المسافرين حين تأتي محطاتهم».

ردتْ له الابتسامة بمثلها، لكنَّ كان صوتها رقيقًا، متحسرًا. «لا، إنهم لا يعترضون بتاتًا. يتقبَّلون الأمر حين يئين أوانه».

«يتقبَّلون ماذا؟» حدَّقتْ ماري إليهما، متذكِرةً وجه الشقراء المرتاع، فمها الرطب، لون الدَّمِ الفاقع. غَمزَ المحصِّلُ للمرأة ومضى في طريقه عبر الممر، والمصابيح تحترقُ في مقابس الجدار مثل الشموع، وقنطرة العربة المعدنية تتقوَّس أعلاها. تسلل نور المحطة الأحمر عبر نوافذ العربة ولطخَ بخفةٍ وجوه المسافرين بلونٍ قرمزي. ثمَّ استرسل القطار حركته.

كررتْ ماري: «يتقبَّلون ماذا؟» ارتجفتْ رجفةً عفوية كما لو أن نفحةً مباغتةً من هواءٍ بارد لطمتها.

«أتشعرين بالبرد يا عزيزتي؟»

قالتْ ماري: «لا. يتقبَّلون ماذا؟»

أجابتْ المرأة: «الوِجهة». رفعتْ ما كانت تُحيكه من حِجرها واسترسلتْ عملها تُثري تشابكَ الصوف الأخضر اخضرار ورق الشجر. بخبرةٍ غرزتْ الإبرة في النسيج المتنامي، أمسكتْ بالتواءٍ في الخيط، وسلَّته من على الإبرة. حدَّقتْ ماري إلى اليدين الخبيرتين البارعتين في حركتهما. أردفتْ المرأة بينما تُحصي الغرز على الإبرة في صمت: «يشتري المسافرون تذاكرهم... يشترون تذاكرهم، وهم بهذا مسؤولون عن المغادرة في المحطة الصحيحة... يختارون القطار، والمسار، ويُسافرون إلى وجهتهم».

«أعرف. لكن تلك المرأة. بدتْ مرتاعةً للغاية».

«نعم، أحيانًا يكون المسافرون على هذه الحالة. ارتباكُ اللحظة الأخيرة، تعرفين. يُداهمهم الإدراك بعد فوات الأوان، ويندمون على شراء التذكرة. كان عليهم أن يفكروا مليًا في الرحلة مقدمًا».

«ما زلتُ لا أفهم لِمَ لم يكن في استطاعتها أن تغيِّر رأيها ولا تنزل من القطار. كانت ستدفعُ أكثر في نهاية الرحلة».

قالتْ المرأة: «لا تسمحُ شركة السكِّة الحديد بهذا على رحلتنا هذه؛ ستعمُّ الفوضى».

تنهدتْ ماري: «حسنًا، على الأقل يبدو أن باقي المسافرين راضين».

«نعم، إنهم كذلك. وهذا هو مكمن الرعب».

«رعب؟»، علا صوت ماري. «ماذا تقصدين برعب؟ إنكِ تجعلين كل شيءٍ يبدو غامضًا بشدة».

«إنه أمرٌ بسيطٌ للغاية. رأى المسافرون حتى أتخمتهم الرؤية، لا مبالين البتَّة حدَّ أنهم لا يأبهون إلى أين يذهبون. لا يأبهون حتى يئن الأوان، في المملكة التاسعة».

«لكن ما هي المملكة التاسعة؟»، صرختْ ماري بنزقٍ، وجهها متألمٌ كأنها على وشك أن تنفجر بكاءً. «ما الشيء الشنيع لهذه الدرجة حيال المملكة التاسعة؟».

قالتْ المرأة تواسيها: «هوني عليكِ، معي المزيد من قالب الشيكولاتة. لم أستطع أن آكله كله». أخذتْ ماري قطعةً ووضعتها في فمها، لكنَّ مذاقها كان مُرًا على لسانها.

قالتْ المرأة بلطفٍ: «ستكونين أسعد حالًا إن لم تعرفي. ليس الأمر على هذه الدرجة من السوء فور أن تصلي إلى هناك. الرحلة بعيدةٌ في نهاية النفق، والمُناخ يتغيَّر تدريجيًا. ليس الألم مُبرِّحًا حين يخشوشن الواحد ويعتاد على البرودة. انظري من النافذة. بدأ الثلجُ يتكوَّن على جدران السكِّة، ولا لاحظه أحدٌ ولا اشتكى».

حدَّقتْ ماري خارج النافذة في الجدران السوداء التي تمرُّ متسارعةً. كان هناك جداول رماديةٌ من الثلج بين الأخاديد في الصخور. سقطَ النور من العربة على السطح المثلَّج وتَلألأ وكأنه مليءٌ بإبرٍ فضية باردةٍ.

رفعتْ ماري كتفيها. «لم أكن لآتي أبدًا إن كنتُ أعرفُ هذا. لن أبقى هنا. لن أبقى»، صاحتْ، «سأستقلُ القطار التالي لأعود إلى المنزل».

قالتْ المرأة برقة: «ما مِن رحلات عودةٍ على هذا الخط. أول ما تصلين إلى المملكة التاسعة لا يُمكن أن تعودي. إنها مملكة النَّفي، مملكة الإرادة المجمَّدة. تُسمى أسماء عديدة».

«لستُ أهتم. سأنزل في المحطة التالية. لن أبقى على متن القطار مع هؤلاء القُساة. ألا يعرفون، ألا يأبهون إلى أين هم ذاهبون؟».

قالت المرأة: «إنهم عميان»، كانت تنظرُ بثباتٍ إلى ماري، «كلهم عميانٌ فعلًا».

صرختْ ماري وهي تلتفتُ نحو المرأة بغضب: «وأنتِ، أظنك عمياء كذلك!» تلوَّى صوتها صاخبًا وحادًا، لكن أحدًا لم يُعرها أدنى اهتمام. لم يلتفت أحدٌ لينظر إليها.

قالتْ المرأة، بعدما حالتْ رقيقةً فجأةً: «لا، لستُ عمياء. ولا صمَّاء. لكن يتصادف أنني أعرفُ أن القطار لن يتوقف ثانيةً. ليس هنا محطات مجدولة حتى نصل إلى المملكة التاسعة».

صرختْ ماري بحدةٍ وعنف: «إنه ليس خطئي أنا!»، لكن صوبتْ المرأة عينيها عليها، زُرقةٌ ملأى بالتأنيب، وشعرتُ ماري بنفسها تغرق، تغوص في المهانة. ترددت الدقات المشؤومة الصادرة عن دوران عجلات داخل رأسها. إنه الشعور بالذنب، قوَّقتْ عجلات القطار مثل طيورٍ سوداء مستديرة تصرخُ بالذنب.

الذنب. حتى طقطقة إبر الحياكة نطقتْ بالذنب. استرسلتْ ماري حديثها: «لكنَّكِ لا تفهمين. أرجوكِ، دعيني أشرحُ لكِ. حاولتُ أن أبقى في المنزل. لم أرد أن آتي أبدًا. حتى حين وصلتُ المحطة، كنتُ أريد أن أعود».

قالتْ المرأة: «لكنكِ لم تعودي»، وبينما كانت تُمسك بخيط الصوف الأخضر وتُلويه، كانت عيناها حزينتين. «اخترتِ ألَّا ترجعي، والآن ما من شيءٍ بيدكِ لتفعليه حيال هذا».

نهضتْ ماري فجأةً، غضبى من بين دموعها. قالتْ بتحدٍ: «أوه، بل هناك ما قد أفعله! ما يزال هناك شيءٌ بوسعي فعله. سأغادر القطار، طالما ما يزال هناك متسعٌ من الوقت. سأسحبُ حبلَ الطوارئ».

توهج وجه المرأة بابتسامةٍ مشعةٍ نحو ماري، ولمعتْ عينيها ببريق الإعجاب. همست: «آه.. عظيم. أنتِ من النوع الشُجاع. وَجدتِها. إنها الحيلة الأخيرة المتبقية. الجزم الوحيد بأن الإرادة باقية. ظننتُ أنها هي الأخرى جُمِدت. الآن عندكِ فرصةٌ».

«ما قصدكِ؟»، ابتعدتْ ماري في ريبة. «ماذا تقصدين بفرصة؟»

«فرصةً للهرب. اسمعي، إننا نقتربُ من المحطة السابعة. أحفظُ هذه الرحلة عن ظهر قلب. ما زال أمامكِ متسعٌ من الوقت. سأخبركِ بالضبط عن الوقت الأمثل لتسحبي الحبل، وعليكِ وقتها أن تركضي. رصيف المحطة سيكون خالٍ. إنهم لا يترقبون قدوم مسافرين أو مغادرين من هذه الرحلة».

«وما أدراكِ أنت؟ كيف لي أن أصدقكِ؟»

«آه أنتِ فتاةٍ خوَّانة»، كان صوتُ المرأة مشحونًا بالرقة. «لقد كنتُ بجانبكِ طيلة الوقت. لكن لم يكن في وسعي أن أخبركِ. لم أكن أقدر على مساعدتكِ حتى تقرري أنتِ أول قرارٍ إيجابي. إنها إحدى القواعد».

«قواعد، أية قواعد؟»

«القواعد في كتاب شركة سكَّة الحديد. لكلِ منظمةٍ لوائحها، تعرفين. تعليماتٌ بعينها لتسيير كل شيءٍ بسلاسة».

أردفتْ المرأة: «إننا نقتربُ من محطة المملكة السابعة. عليكِ أن تسيري في الممر إلى نهاية العربة. لن يراقبكِ أحدٌ. اسحبي الحبل من هناك، ولا تترددي، مهما كان. اركضي فحسب».

قالت ماري: «لكن ماذا عنكِ. ألن تأتي معي أيضًا؟»

«أنا؟ لا يُمكن أن آتي معك. عليكِ أن تهربي بنفسكِ، لكن كوني واثقةً، سأراكِ قريبًا».

«لكن كيف؟ لا أفهم كيف سنلتقي. قلتِ إنه ما من رحلات عودة. قلتِ إن أحدًا لا يغادر المملكة التاسعة».

أجابتْ المرأة مبتسمةً: «هناك استثناءات. ليس عليَّ الانصياع لكل القوانين. ألتزمُ بالطبيعي منها فحسب. لكن عليكِ أن تسرعي. المحطة تقترب، وحان الوقت».

«انتظري، لحظة. عليَّ أن أحضر حقيبتي. إن بها كل أغراضي».

قالتْ المرأة آمرةً: «اتركي حقيبتكِ. لن تحتاجيها. ستُعيقكِ فحسب. لكن تذكَّري، اركضي، اركضي مثل الرياح». انخفضَ صوتها: «ستجدين منفذًا مضاءً بسطوعٍ. لا تسلكيه. اصعدي السلالم، حتى إن كانت مظلمة، حتى إن كان عليها سحالي. ثقي في واصعدي السلالم، اتفقنا؟»

قالتْ ماري: «نعم»، نهضتْ، حشرتْ نفسها لتمرَّ من أمام المرأة إلى الممر. «نعم».

بدأتْ تسيرُ بخطواتٍ مترويةٍ وطبيعيةٍ إلى نهاية العربة. لم يكن أي أحدٍ يراقبها. وفي نهاية الممر، مدَّت يدها وسحبتُ الحبل المكتوب عليه «طوارئ»، الذي كان متدليًا على الحائط.

وعلى الفور زعقتْ السرينة المروِّعة في القطار، وشقتْ الصمت إلى نصفين. فتحتْ ماري الباب على مصرعه وانزلقتْ على المنصة المتأرجحة بين العربتين. أحاط المكان صوت تطاحن التروس وصرير المعدن المتراكض على المعدن، ثمَّ ترنَّح القطار عند محطة توقفه.

إنه رصيف المملكة السابعة، وكان مقفرًا. اختصرتْ ماري الخطوات الثلاث من القطار في وثبةٍ واحدة، وضربتْ الأرضية الأسمنتية أخمص قدميها مع دفقةٍ من الألم. وحينئذ اندلع صراخٌ من المحصِّلين على متن القطار.

«رون، ما الخطب؟» أتى الصوت أجش. اتقَّدتْ نباريس حمراء عبر العربات.

«الخطب؟ تسألني أنا يا آل؟ ظننته أنتَ».

ومن أمامها كان المنفذ، زاخرًا بأنوار حمراء ساطعة نيونية، ومن بعيدٍ أتتْ أنغام مدغمةٌ من الجاز، تُغريها. لا، ليس المنفذ. على اليمين امتد سلمٌ بلا ضوء، منذرٌ بالشر وضيق. استدارتْ ماري وركضتْ نحوه، والصدى يرتدُ من على الجدران الحجرية. كانت تُسحَبُ الأنفاس من أسفل ضلوعها، محصورةً وموجِعة. علا الصُراخ أكثر وأكثر.

«انظر! إنها فتاة. إنها تهرب!».

«أمسك بها، بسرعة!». انسكبَ نورٌ أحمر في ذيلها، فيضه يقتربُ.

«سيطردنا المدير إن أضعنا روحًا واحدةً في هذه الرحلة!».

توقفتْ ماري لثانيةٍ واحدة عند قاع الدرج ونظرتْ نظرةً سريعةً وراءها. كانت نوافذ القطار مربعاتٌ مذهَّبة، والوجوه التي تحدِّقُ منها كانت ضجرةً، شاحبةً شحوب الجثث، مجردةً من كل شعور. وحدهم المحصلون من نزلوا من القطار ركضًا خلفها، وجوههم حمراء من وهج النيون المنبعث من المنفذ، والنباريس النارية تتمايل، والدُّخان يتصاعد منها.

علقتْ صرخةٌ في حلقها. التفتت لتصعدَ السلَّم ركضًا، سلَّمٌ منحدرٌ مظلمٌ، يتلوَّى إلى الأعلى. وخزَّ خدها نسج عنكبوت، لكنَّها واصلتْ الركض، متعثرةً، أصابعها تحتكُ بالجدران الحجرية الصلبة. اندفعتْ حيَّةٌ صغيرةٌ وسريعة من شقٍ في إحدى الدرجات. شعرتْ بها مثلجةً تكاد تلتفُ على كاحلها لكنها واصلتْ الركض.

انقطع صراخُ المحصِّلين أخيرًا، خبا شيئًا فشيئًا في البُعد، ثمَّ سمعتْ القطار يتحركُ من جديد، يقرقع مبتعدًا في باطن الأرض المتجمِّد مصحوبًا بصوتٍ يشبه الرعدَّ الغارق. وحينها فحسب، توقفتْ عن الركض.

وبينما كانت تميلُ لتستند على الجدار المُسخَّم هنيهةً من الوقت، تلهثُ مثل حيوانٍ مطارد، حاولتْ أن تزدرد مذاق النحاس الزَلق في فمِها. كانت طليقةً حرة.

عاودتْ تسير على السلَّم المعتم في تثاقلٍ، وبينما هي تصعد، غدتْ الدرجات أكثر رحابةً ونعومة، ورقَّ الهواء وتنامتْ خفَته. شيئًا فشيئًا اتسع الممر، وهناك أتى الصوت، من مكانٍ ما قصي، صوتُ الأجراس تقرعُ في برج الساعة، نقيٌ وموسيقي. ومثل قيدٍ معدني، سقطتْ الحيَّةُ من على كاحلها وانسلَّتْ إلى الحائط.

لما انعطفتْ العطفة التالية من الدرج، غمرها ضوء الشمس في إشراقٍ وضَّاء، وشمَّتْ العبق المنسي للهواء العليل والأرض والعُشب النضر. كان أمامها ردهةٌ مقببة السقف، تُفضي إلى حديقة المدينة.

خرجتْ ماري عند قمَّة السلَّم، عينها تخفقان أمام الأحابيل الذهبية الولودة من نور الشمس. ظهرت حمائمُ بيضاء وزرقاء من الرصيف وحامتْ قرب رأسها، وسمعتْ ضحكات أطفالٍ يلعبون وسط أوراق الشجيرات. وحول الحديقة في كل مكان، انتصبتْ قِباب المدينة في قممٍ طويلةٍ وبيضاء من الجرانيت، وزجاج نوافذها يومض في الشمس.

ومثل مَن استيقظ من نومة الموت، قطعتْ الدرب المفروش بالحصى، اللامع بأحجار البلق الأسود الصغيرة. كان الربيع، ووقفتْ امرأةٌ تبيعُ أزهارًا على ناصية الشارع، تغنِّي لنفسها. رأتْ ماري صناديق ملأى بوردٍ أبيض وأزهار النرجس، تحلِّقُها أوراقٌ خضراء، والمرأةُ في معطفٍ بُني تنحني في حنو الأمهات على المبسوط أمامها.

وحين اقتربتْ ماري منها، رفعتُ المرأةُ رأسها ولاقتْ عيني ماري بنظرةٍ زرقاء من الحبِّ المنتصر. ثمَّ قالت: «لقد كنتُ في انتظاركِ يا عزيزتي».


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها