لا عجب بأن سونتاج كانت عصية على المجاراة سواء في حياتها الشخصية أو في حياتها العملية. حتى أن كتاباتها باتت الشاهد الأبرز على أحداث الستينيات، ومن موقعها في نيويورك كانت سونتاج في قلب الأحداث التي اكتست بالحدة والعنفوان

ضد التأويل لسوزان سونتاج

مقال لروبرت مكروم

نُشر في الجارديان، مايو 2016

ترجمة: ريم سعيد


سوزان سونتاج، عن الجارديان

اعتبرت «سوزان سونتاج» نفسها روائية، وعُدت الفترة الممتدة بين عامي 1962 و1965 «مرحلة واضحة المعالم» بالنسبة لسونتاج، فقد أنهت فيها روايتها الأولى «المُحْسن»، وشرعت في روايتها الثانية «عدّة الموت». أما نتاجها في النقد الأدبي والشأن الثقافي في المرحلة ذاتها، فقد لعب الدور الأبرز في تسليط الأضواء عليها مقارنة بنتاجها الأدبي.

وفي حوارها مع مجلة «ذي باريس ريفيو» عام 1994، أقرت سونتاج بأن: «كتابة المقالات دائمًا ما تتطلب مجهودًا شاقًا، إذ تمضي المقالة من مسودة إلى أخرى، حتى تصل إلى صيغتها النهائية التي ربما لا تربطها بالمسودة الأولى للمقالة سوى صلة واهنة، وغالبًا ما يتبدل منظاري للأمور كليةً أثناء الكتابة. وفي المقابل، فإن كتابة الأدب أكثر سهولة، إذ غالبًا ما تحمل المسودة الأولى السمات الرئيسية التي ينتهي إليها العمل، من قبيل الأسلوب والمفردات والإيقاع والمشاعر».

 وقد عكست المقالات الأولى لسونتاج فرادة وبراعة وأسلوبًا واثقًا، ونلمس ذلك جليًا في تلك المجموعة التي حوت مقالتين مصنفتين ضمن الكلاسيكيات الحديثة، وهما «ضد التأويل» و«ملاحظات حول ظاهرة التكلف». بالإضافة إلى نقاشاتها حول ليفي شتراوس، وكامو، وبيكيت، وجان لوك جودار، ونقدها اللاذع الذي لا ينسى ليوجين يونسكو، وكذلك مقالاتها حول التحليل النفسي وسينما الخيال العلمي. ونرى في سونتاج التي اضطلعت بمجابهة الجلافة إزاء الثقافة، والتي استطاعت أن تلهم أجيالًا من القراء حول العالم، أن لا وصف يحدها سوى القدرة الدائمة على التجاوز والإتيان بكل جديد ومتنوع في أطروحاتها. 

وفي الحوار ذاته مع مجلة «ذي باريس ريفيو»، قالت عن كتاباتها: «من المفترض أن تكون متشعبة، ومع ذلك فهي تتوحد في المزاج العام، وفي طبيعة الشواغل، وفي بعض الإشكاليات، وفي نوعية المشاعر المتكررة، وفي حدة الشغف وطابعها السوداوي. وكذلك في اهتمامها الملحّ بظاهرة القسوة البشرية، سواء أكانت في ميدان العلاقات الشخصية أو في ميدان الحروب».

وتتضح تلك الوحدة في الأسلوب في مقالتها «ملاحظات حول ظاهرة التكلف»، التي نشرت للمرة الأولى عام 1964 في مجلة «بارتيسان ريفيو»؛ أحد أبرز داعميها الأوائل. ومن جهة أخرى، فقد أثارت المقالة ضجة واسعة حول سونتاج، دافعة بها إلى صدارة المشهد الفكري الأمريكي، كما رسمت المقالة الطابع العام الذي ستتخذه شهرة سونتاج فيما بعد. ووقتذاك صرحت مجلة «تايم ماجازين» بأن: «سونتاج باتت تجسد مفهوم الكاتب والمفكر في شتى تنويعاته: فهي من جهة محللة غزيرة الإنتاج ومتعددة الاهتمامات، ومن جهة ثانية، فهي ناقدة ثاقبة لاذعة في انتقاداتها، متقدة الإدراك الذي لا تقر جذوته». وتلك الكلمات لوصفٌ تقر له عينا سونتاج. فهي التي قالت «قدمت إلى نيويورك في مطلع الستينيات، يحدوني الأمل بأن أصير الكاتبة التي نذرت نفسي أن أكونها»، وسيظل أجمل ما يميز سونتاج هو نهمها المعرفي، إذ تقول «فكرتي عن الكاتب، بأنه شخص تستثير فضوله كل الأشياء من حوله.. وموطن عجبي الوحيد بأني لم أجد في كثير من الأشخاص من يشبهني».

ولا عجب بأن سونتاج كانت عصية على المجاراة سواء في حياتها الشخصية أو في حياتها العملية. حتى أن كتاباتها باتت الشاهد الأبرز على أحداث الستينيات، ومن موقعها في نيويورك كانت سونتاج في قلب الأحداث التي اكتست بالحدة والعنفوان، إذ لم تقنع ببناء استنتاجاتها دونما اشتباك حقيقي. وتقول سونتاج «مثلت لي حقبة الستينيات بعدًا مغايرًا، فقد كانت مرحلة هامة على المستوى الشخصي، إذ أنهيت فيها روايتي الأولى والثانية، وأخذت بخط أعمالي النقدية التي تدفقت فيها شحنات من الأفكار حول الفن والثقافة وشواغل الوعي، والذي حال لبرهة بيني وبين التفرغ للكتابة الأدبية، لقد كنت حينها شعلة متقدة بالحماس والإقدام».

وفي عرض مجلة «نيويورك تايمز» لمراجعة كتاب «ضد التأويل»، ألقت الضوء على الجانب التزمتي لدى سوزان سونتاج، واصفة إياها كما يلي «شخصية أمريكية حتى النخاع، تقف وجهًا لوجه ضد التأويل، الثوب جديد، وصادق بما فيه الكفاية، والصور تشوبها الغرابة، من بينها صورة آسرة لسيدة على حظ من الألمعية والجمال البادي، تعدو في شوارع المدينة التي يهبط عليها الليل، تعلوها أمارات الحيرة والإرهاق والإدراك والألم  الناتج عن الوعي بالذات (على حد قولها)، وقد تكون في طريقها لحضور أحد الأفلام الملغزة، أو ربما تقصد قاعة الموسيقى حيث لا موسيقى، أو ربما تصعد إلى العليّة لتنفجر في وجهها المفرقعات الكرزية، وتنثر بالقرب منها أكياس الطحين، لتحتل أذنيها غمغمات عديمة المعنى، مما يثير سخطها ويشعرها بالإساءة والاختناق، ويدب الإحباط إلى نفسها، حتى ننتبه نحن، جمهورها، بأن هذا المشهد ببساطة هو الجحيم، وبأن بطلة المشهد تشبه النمط التقليدي للشخصية الأمريكية: حيث المهاجر الذي لا يقر ترحاله، ولا يفتأ يجلد ذاته، بيوريتاني آخر ممزق الذات».

ونرى أن الوصف، في جملة ما يذهب إليه، يحيط بجوانب عدة من شخصية سونتاج، غير أنه يغفل جانبًا هامًا من شخصيتها، ألا وهو نهمها للاستعراض الثقافي. وبرأيي، ثمة العديد من القواسم المشتركة التي تجمع بين «السيدة سونتاج» و «أوسكار وايلد»، فأسوة بوايلد كانت سونتاج مدافعة عتيدة عن القيم الجمالية في العمل الفني، وكما كان وايلد كانت سونتاج تسمتع بكتابة المأثورات القصيرة، وكان كلاهما أبعد ما يكون عن اجتناب المخاطر، فعلى الرغم من وظيفتها الأكاديمية الواعدة، إلا أنها وجهت اهتمامها صوب قبلة أخرى، إذ تقول: «ما كنت لأقنع بالوظيفة الأكاديمية، فلطالما حلمت أن يمتد عملي خارج الإطار الأكاديمي الآمن والمتحجر في آن».

وكانت «سوزان سونتاج» مثل مجايلتها «جيرمين جرير» (التي تحمل الرقم:13 في تلك السلسلة) تنادي بالحرية وتدعو للتخلص من الهيراركيات القديمة. غير أن سونتاج وقفت بوضوح وباختيار منها ضمن جبهة الفكر الأمريكي، إذ تقول: «لطالما بدت لي تلك القيم الحماسية التي رفعت رايتها –وما زالت تبدو لي- قيمًا تقليدية، ودائمًا ما رأيت نفسي محاربة جديدة في معركة قديمة ضد الجلافة والضحالة الأخلاقية واللامبالاة».

وفضلًا عن إنتاجها الغزير حول الستينيات، فقد أتت سونتاج لتصبح عن جدارة رمزًا لذلك العقد، وقد كتبت تقول: «لكم يتمنى المرء لو أن بعضًا من حماس تلك الحقبة وتفاؤلها وازدرائها للقيم التجارية قد نجى. وبرأيي فإن للعاطفة البشرية الحديثة قطبان يحدانها وهما: النوستالجيا والطوباوية، وبظني كان ذلك العقد الذي ندعوه الآن بـ«الستينيات» شبه خالٍ من تلك النوستالجيا، مما يجعله بحق لحظة طوباوية بامتياز، إن العالم الذي كتبت فيه تلك المقالات لم يعد له وجود».

ولا ريب بأن نتاج سونتاج سيخلد ذكرها ويعمر طويلًا بعدها. وفي مقالها «ضد التأويل»، نجدها توجت بداية المقال باقتباس من «أوسكار وايلد»: «وحدهم الأشخاص السطحيون لا يحكمون من خلال المظاهر. إن سر الكون هو في ما ظهر لا في ما لا يظهر»، مما يجعل المقال يبدو دعوة حقيقية ملؤها الحماس نحو «إيروتيكية الفن».

وقد استطاعت سونتاج أن تعبر عن حجتها بكل حصافة وحذق، حتى صارت واضحة المعالم، وتنطوي تلك الحجة على أن التأويل النقدي الذي تمتد جذوره إلى أفلاطون وأرسطو بات رجعيًا وخانقًا. «على غرار الغازات المنبعثة من عوادم السيارات والصناعة الثقيلة التي تلوِّث أجواء المدن، فإن عوائد تأويل الفن في عالمنا المعاصر تسمم ذائقتنا الحسية». وتتابع سونتاج لتقول: «إن التأويل هو انتقام الفكر من الفن». وعليه، فإن مهمة الناقد: «لا يجب أن تنحصر في البحث عن أكبر قدرٍ من المضمون في العمل الفني، بل إن مهمتنا هي تقليص دور المضمون حتى يتسنى لنا رؤية العمل الفني في كليته».

وقد بلغت آراء سونتاج الصدامية، وايلدية النزعة، ذروتها في مقالها الشهير «ملاحظات حول ظاهرة التكلف»، ونكاد نلمس أثر وايلد جليًا في كل صفحة من صفحاته، غير أنه تجدر الإشارة إلى البراعة والموهبة الفذة التي أظهرتها سونتاج على طول المقال. وتستهل سونتاج بشرح «جوهر التكلف» بقولها: «جوهر التكلف هو عشقه للمصطنع: للتظاهر والمبالغة. والتكلف باطني، أشبه بشيفرة خاصة، بل بشارة تعريف، بين الزمر المدينية الضيقة»[1]، وتُلمح سونتاج إلى أنه «من المحرج اعتماد موقف مهيب وأشبه بالبحث في ما يتعلق بظاهرة التكلف، لأن المرء قد يجازف بإنتاج تكلف من النوع المتدني جدًا»[2]، وتتابع سونتاج مقالها الذي حوى على ثمانية وخمسين ملاحظة انطوى كل منها على كثير من الألمعية والذكاء، إلى أن اختتمت المقال بتلك المقولة الجامعة عن ظاهرة التكلف: «أنه جيد لأنه مريع»[3].

ونحن الآن، وأكثر من أي وقت مضى في أمس الحاجة إلى مثل تلك الأصالة والمخاطرة في الطرح.

فقرة بارزة

«الحساسية (بقدر ما هي متمايزة عن الفكرة)، هي أمر من أصعب ما يمكن الحديث عنه. ولكن ثمة أسبابًا خاصة تبرر عدم خضوع التكلف على وجه الخصوص للنقاش أبدًا».[4]


[1] ضد التأويل ومقالات أخرى/ ت نهلة بيضون

[2] المرجع نفسه

[3] المرجع نفسه

[4] المرجع نفسه