ألف مسطح هو جهدٌ لتشييد فضاءٍ أملسٍ للفكر. وليس أول محاولة من هذا النوع. ومثل فلسفة الدولة، يمضي الفكر البدوي تحت أسماء عديدة.

برايان ماسّومي: مباهج الفلسفة

تصدير المترجم لكتاب "ألف مسطّح"

ترجمة: أحمد حسان

*يعتبر برايان ماسومي من أفضل قارئي دولوز وجواتاري. التقديم مأخوذ من الترجمة الإنجليزية لكتاب "ألف مسطح"، طبعة جامعة مينيسوتا في سلسلة بلومزبيري أكاديميك، عام 1988.


دولوز وجاتاري، عن salvage

هذا كتاب يتحدث عن أشياء كثيرة، عن القمل والألحِفة والمنظومات الثانوية المشوَّشة وعلم العقل والاقتصاد السياسي. من الصعب معرفة كيفية مقاربته. ماذا تفعلُ مع كتابٍ يكرِّسُ فصلًا كاملًا للموسيقى والسلوك الحيواني – ثم يزعم أنه ليس فصلًا؟ كتاب يُقدِّمُ نفسه باعتباره شبكةً من "المسطَّحات plateaus" المؤرَّخة بدقة، لكن يمكن قراءتُها بأي ترتيب؟ يحشدُ مُعجمًا تقنيًا معقّدا مُستَمدًّا من مجالٍ واسع من التخصصات في العلوم، والرياضيات، والعلوم الإنسانية، لكن مؤلّفيه يُوصيان بأن تقرأه مثلما تُنصِتُ لتسجيل موسيقي؟1

"إنه فلسفة، ليس سوى فلسفة".2 من نسلِ زِنا. تزخر حولياتُ الفلسفة الرسمية بـ"بيروقراطيّي العقلِ الخالص" الذين يتحدثون في "ظِلّ المستبد" وفي تواطؤٍ تاريخي مع الدولة.3 يخترعون "دولةً روحيةً بالمعنى المحدَّد... مُطلقةً ... تعملُ بفعاليةٍ في العقل". خطابُهم هو خطاب مَلَكة الحكم ذات السيادة، خطابُ الذاتيةِ المستقِرّة التي يُشرِّعها الحسُّ "السليم"، للهويةِ الصخرية، والصدقِ "الكلي"، والعدلِ (الأبيضُ الذكَر)". ومن ثم فممارستهم لفكرهم تتّسق مع أهدافِ الدولة الواقعية، مع الدلالات السائدة، ومع متطلّبات النظام القائم".4

تلقّى دولوز تعليمَه في تلك الفلسفة. وعناوين كتُبهِ المبكرة كأنها دليلُ أعلامٍ للعمالقة الفلسفيين". ما تملّكني خلال تلك الفترة كان إدراكي لتاريخ الفلسفة باعتباره نوعا من نكاحِ الإست، أو، وهذا هو نفسُ الشيء، الحَملِ البتول. تخيّلت نفسي أُقاربُ مؤلِّفًا من الخلف وأمنحه طفلًا سيكون طفلَه حقا لكنه شائهٌ رغم ذلك."5 هيجل غائبٌ، أحقرُ حتى من أن يستحقَّ ذُريةً متحوِّلة.6 وكانط كـرَّسَ له دراسةً متعاطفة لـ"عدوّ". لكن قدرًا كبيرًا من القيمة الإيجابية جاء من مغازلة دولوز مع العظماء. فقد اكتشف خطًّا يتيمًا من المفكّرين لا يرتبطون بسلالةٍ مباشرة لكنهم مُتّحِدون في معارضتهم لفلسفة الدولة التي تمنحُهم رغم ذلك مواقع ثانويةً ضمن معيارها. ثمة بين لوكريتيوس، وهيوم، وسبينوزا، ونيتشه، وبرجسون "رابطةٌ سرية تتأسّس على نقد السلبية وزرع البهجة، وكراهية الباطنية، وخارجية القوى والعلاقات، وشجبِ السلطة".7 وأولى قضايا دولوز الكبرى المكتوبة بصوته الخاص، الاختلاف والتكرار (1968) ومنطق المعنى (1969)، خصّبت ذلك الخطَ من الفكر "البدوي" بالنظرية المعاصرة. وقادهُ فورانُ التمرد الطلابي-العمالي في مايو 1968 وإعادةُ التقييم التي حفزَها لدورِ المثقفِ في المجتمع8 إلى التخلّي عن "الجهاز الأكاديمي الثقيل"9 الذي كان لا يزالُ واضحًا في هذين العملين. ورغم ذلك، تم حقنُ الكثيرِ من عناصر "فلسفة الاختلاف" التي طوَّراها في دماءِ تعاونٍ ما زال مستمرًا، أحدث نتاجاته هو ألف مُسطّح.

فيليكس جواتاري مُحلِّلٌ نفسيٌّ مُمارِس وناشطٌ سياسي طوال حياته. عمل منذ منتصف خمسينات القرن العشرين في لا بورد La Borde، وهي عيادةُ علاجٍ نفسيٍ تجريبية أسّسها المُحلِّل اللاكاني ﭼان أوري. كان جواتاري ذاته بين أوائل مُتدَرِّبي لاكان، ورغم أنه لم يقطع أبدًا روابطه مع مدرسة لاكان الفرويدية فإن العلاجَ الجماعي المُمارَس في لا بورد أخذَهُ في اتجاهٍ مختلفٍ تمامًا. كان الهدف في لا بورد هو إلغاءُ التراتبيةِ بين الطبيب وبين المريض لصالح ديناميةِ جماعةٍ تفاعلية تُتيح لخبرات كليهما أن تجدَ التعبيرَ الكامل عنها بحيث تُنتجُ نقدًا جماعيًا لعلاقات السلطةِ في المجتمع ككلٍ. "المنظور المحوري هو... حفزُ العلاقات الإنسانية التي لا تندرجُ تلقائيًا في أدوارٍ أو نماذج نمطيةٍ بل تنفتحُ إلى علاقاتٍ جوهريةٍ من نوعٍ ميتافيزيقي تكشفُ الاستلاباتِ الأشدَّ جذريةً وأساسيةً للجنون والعُصاب"10 وتُوجِّهها لتصبح ممارسةً ثورية. تعاون جواتاري بدايةً من عام 1960 في مشاريع جماعيةٍ مُكرّسةٍ لتطوير هذا "العلاجِ النفسي المؤسسي"، الجذري11 ثم دخَل في تحالفٍ غير مريحٍ مع حركة العلاج النفسي- المضاد التي يتزعمها ر. د. لانج في إنجلترا وفرانكو باساجليا في إيطاليا.12 ومع تقدُّم مدارس التحليل النفسي اللاكانية واكتسابها أرضًا ضد العلاج النفسي، أصبحت العلاقةُ الأوديبية التعاقدية بين المُحلِّلِ والمُحلَّلِ المُستَهدَفِ-بالطرح transference-bound هدفاً لجواتاري مثلها مثل الرابطة القانونية للمريض ذي الطابعِ المؤسسي في مستشفى الدولة التقليدي. وأصبح يحتلُّ بالنسبة للتحليلِ النفسي نفسَ الموقع الذي احتلَّه طول الوقت بالنسبة لأحزاب اليسار: موقعَ معارضةٍ متطرفة ضمن المعارضة. وجعلته ميولُه المناهضة للمراتبية نذيرًا بأحداث مايو 1968 ونصيرًا مبكرًا للحركات الاجتماعية التي نشأت عنها، بما في ذلك النزعةِ النسوية وحركة حقوق المثليين.13 وقد منح كتاب ضد-أوديب (1972)،14 أول كتبه مع دولوز، ثقلًا فلسفيًا لمعتقداته وخلق واحدًا من أحداث الإثارة الفكرية sensations لفرنسا ما بعد الحرب بجدالاته المتحمسة ضد طبعاتِ الماركسية السعيدة-بالدولة أو المناصرةِ-للأحزاب وضد تنويعات التحليل النفسي التي تستهدفُ إقامةَ مدرسةٍ، والتي كانت بشكلٍ منفصلٍ وفي توليفاتٍ متنوعة تمثّل التيارات الفكرية السائدة للعصر (برغم الطبيعة الأناركيةِ جوهريًا للانتفاضات الشعبية العفوية التي هزّت العالم عام 1968). كانت "النتيجة الأشدُّ ماديةً لكتاب ضد أوديب أنه نسَفَ الرابطة بين التحليل النفسي وبين أحزاب اليسار المتطرف"، التي رأي فيها هو ودولوز إمكانيةَ بيروقراطيةٍ جديدة قويةٍ للعقل التحليلي.15

بالنسبة لكثيرٍ من المثقفين الفرنسيين، أفسحت النشاطيةُ المفرطة لما بعد مايو الطريقَ لتدهورِ منتصف السبعينات، ثم لعودةٍ إلى الدين (مجلة تِل كِل) أو النزعة المحافظة السياسية (الفلاسفة الجدد) في استباقٍ لثمانينات ريجان. لم ينكُص دولوز وجواتاري أبدًا. كما لم يُعيدا ببساطةٍ إحياء الجدالات. فقد صنَّفا ألف مسطّح (1980)، الذي كُتب على مدار سبع سنوات، على أنه تكملة لـضد أوديب ويشارك في عنوانه الفرعي، الرأسمالية والفُصام. لكنه يُشكِّل مشروعًا بالغ الاختلاف. لأنه أكثرَ من كونه نقدًا، هو ممارسةٌ إيجابية للفكر التوكيدي "البدوي" الذي طالبا به في ضد أوديب.

"فلسفة الدولة" هي اسمٌ آخر للتفكير التمثيلي الذي ميَّز الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون، لكنه عانى من تراجعٍ لحظيٍ على الأقل خلال ربعِ القرن الأخير على يد ﭼاك ديريدا، وميشيل فوكوه، والنظرية ما بعد البنيوية بوجهٍ عام. وكما يصفه دولوز، فإنه يرتكز على هويةٍ مزدوجة: هويةِ الذاتِ المُفكِّرة، وهويةِ المفاهيِم التي تخلقها وتُضفي عليها صفاتَها الخاصةِ المفتَرضة من التطابق والثبات sameness & constancy. والذات، ومفاهيمها، وكذلك أشياءُ العالم التي تُطبَّقُ عليها، لها جوهرٌ مشترك، باطني: هو التشابه-الذاتي في أساس الهوية. الفكر التمثيلي تماثلي analogical؛ اهتمامه هو أن يُقيم تناظرًا correspondence بين تلك المجالات المُبنيَنة تساوقيًا .symmetrically وملكة الحكم هي رجلُ شرطةِ التماثل analogy، الذي يضمن أن كل واحدٍ من الحدود الثلاثة هوُ ذاتُه بصورةٍ أمينة، وأن التناظرات correspondences المناسبة تسودُ. وغايتها في الفكر هي الصدق، وفي الفعل العدالة. والأسلحة التي يستخدمُها لبلوغهما هي التوزيعُ الذي يضعُ الحدود (تحديد المنظومة الحصرية للخصائص التي يمتلكها كلُّ حدٍ في تميُّزٍ ضدي بالنسبة للحدود الأخرى: اللوجوس، القانون) والتصنيفُ المراتبي (قياسُ درجةِ اكتمالِ التشابه-الذاتي لحدٍ ما في علاقته بمعيارٍ أسمى، هو الإنسانُ، أو الرب، أو الذهب: القيمة، الأخلاقيات). وطريقة العمل modus operandi هي النفي: س = س= وليس ص. الهويةُ، والتشابه resemblance، والصدق، والعدالة، والنفي. الأساسُ العقلاني للنظام. النظام القائم، بالطبع: فتقليديًا كان الفلاسفةُ موظَّفين لدى الدولة. وكان التواطؤُ بين الفلسفة وبين الدولة يُنفَّذُ بأوضح ما يمكن خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر مع تأسيس جامعة برلين، التي كانت ستصبحُ نموذَج التعليم العالي عبر كل أوروبا وفي الولايات المتحدة. كانت الغايةُ التي وضعها لها فيلهلم فون هومبولت (على أساس اقتراحات فيشته وشلايرماخر) هي "التدريب الروحي والأخلاقي للأمة"، الذي يتحقَّق عن طريق "اشتقاق كل شيءٍ من مبدأٍ أصلي" (الصدق)، عن طريق "ربط كلِّ شيءٍ بمثلٍ أعلى" (العدالة)، وعن طريق "توحيد هذا المبدأ وهذا المثل الأعلى في فكرةٍ واحدة" (الدولة). والمنتج النهائي سيكون "ذاتَ معرفةٍ ومجتمعٍ مشروعين تمامًا"17ــ كل عقلٍ عبارةٌ عن دولةٍــ مُصغَّرة منظَّمةٍ بصورةٍ تماثلية مُوَّحَدةٍ أخلاقيًا في العقل-الفائق للدولة. تشكيلةُ عقلٍ بروسيةٍ متجانسة.18 أما الأشدُّ خبثًا من التعاون العملي المعروف جيدًا بين الجامعة وبين الحكومة (التمويل العسكري المزدهر للبحث العلمي) فهو دورُها الفلسفي في تعميم شكلِ التفكير التمثيلي ذاته، تلك "الدولة المطلقة الروحية بالمعنى المحدّد" التي يُعادُ إنتاجُها ونشرها بلا نهاية على كل مستويات النسيج الاجتماعي. وقد هاجمته النسوياتُ المتأثرات بالتفكيكية أمثال هيلين سيكسو ولوس إيريجاراي تحت اسم "مركزية منطق القضيب" phallogocentrism (وغني عن الذكر ما هو النموذج الأشد تميّزًا للهوية الصخرية). وفي مقدمة ألف مسطّح، يصفه دولوز وجواتاري باعتباره "النموذج الشجري" للفكر (الشجرة المنتصبة بفخارٍ والتي تحت أغصانها الوارفة يُلقي أفلاطوناتُ آخرِ زمنٍ دروسهم).

"الفكر البدوي" لا يُطوِّق نفسه في مبنى باطنيةٍ interiority منظَّمَة؛ بل يتحرك بحريّة في نوعٍ من الخارجية exteriority. لا يرتكز على الهوية؛ بل يمتطي الاختلاف. لا يحترم التقسيمَ المصطنع بين مجالات التمثيل الثلاثة، الذات، والمفهوم، والموجود؛ بل يستبدل التماثلَ التقييدي بتوصيليةٍ لا تعرفُ حدودًا. والمفاهيم التي يخلقها لا تعكسُ فحسب الشكلَ الأبدي لذاتٍ تشريعية، بل تتحدّد بقوةٍ قابلة للتواصل تكون ذاتُها بالنسبة لها، إلى الحد الذي يمكن به القول بأن لها ذاتًا، ثانويةً فحسب. لا تتأمَّلُ العالم لكنها مغموسةٌ في حالةٍ متغيرةٍ للأشياء. المفهوم هو لبِنَةٌ. يمكن استخدامُها لبناء محكمة العقل. أو يمكن إلقاؤها من النافذة. ما هي ذات اللبنة؟ أهي الذراعُ التي تُلقيها؟ أم الجسدُ المتَّصل بالذراع؟ أم العقلُ المُغَلَّفُ بالجسد؟ أم الموقفُ الذي قاد العقلَ والجسد إلى ذلك المفترق؟ كلُّ ما سبَقَ ولا شيءَ منه. ما هو موضوعها؟ أهي النافذةُ؟ أم المبنى؟ أم القوانين التي يؤويها المبنى؟ أم الطبقةُ وسواها من علاقات السلطة المكسُوَّة بقشرة القوانين؟ كل ما سبق ولا شيء منه. "ما يهمّنا هي الظروف".19 لأن المفهومَ في استخدامه المُنفَلِت هو منظومةٌ من الظروف، في مفترقٍ متقلِّب. إنه مُتَّجَهٌ vector: نقطةُ فِعلِ قوةٍ تتحركُ خلال فضاءٍ بسرعةٍ مُعينةٍ في اتجاهٍ مُعين. المفهوم ليس له ذاتٌ ولا موضوعٌ بخلاف ذاته. إنه فعلٌ. الفكر البدوي يستبدلُ معادلةَ التمثيل المغلقة، س= س= وليس ص (أنا= أنا= وليس أنت) بمعادلةٍ مفتوحة: ... + ص+ع + أ+ ... (...+ ذراع+ لبِنة+ نافذة+ ...). بدلًا من تحليل العالم إلى مكوّناتٍ منفصلة، مختزلًا تعدّدها إلى واحد الهوية، ومُرتِّبًا إياها حسب رتبتها، فإنه يُلخِّصُ منظومةً من الظروف المتنافرة بضربةٍ قاصمة. يؤالِف كثرةً من العناصر دون أن يمحو تنافرها أو يعوقَ إمكانيةَ إعادةِ ترتيبها المستقبلية (على العكس). طريقة عمل الفكر البدوي هي التوكيد، حتى حين يكون موضوعُها الظاهري سلبيًا. لا يجب الخلطُ بين القوةٍ وبين السلطة. القوة تأتي من الخارج لتحطِّم العوائق وتفتح آفاقًا جديدة. أما السلطة فتبني جدرانًا.

فضاءُ الفكرِ البدوي مختلفٌ نوعيًا عن فضاء الدولة. هواءٌ مقابلَ أرضٍ. فضاء الدولة "مُحَزَّز"، أو شَبَكيٌ. والحركة داخله مقتصرةٌ، كأنما بفعل الجاذبية، على مستوى أفقي، ومحدودةٌ بنظام ذلك المستوى في مساراتٍ مرسومةٍ سلفًا بين نقاطٍ ثابتةٍ وقابلة للتحديد. أما الفضاء البدوي فهو "أملس" أو مفتوح. يمكن للمرء أن ينهض عند أيةِ نقطةٍ ويتحرك إلى أية نقطةٍ أخرى. نمط توزُّعه هو النوموس nomos: ترتيبُ المرءِ لنفسِه في فضاءٍ مفتوح (إسْتَولِ على الشارع)، في مقابل اللوجوس logos للتمترس في فضاءٍ مغلق (إسْتَولِ على الحصن).

ألف مسطح هو جهدٌ لتشييد فضاءٍ أملسٍ للفكر. وليس أول محاولة من هذا النوع. ومثل فلسفة الدولة، يمضي الفكر البدوي تحت أسماء عديدة. فقد سمّاه سبينوزا باسم "الأخلاق". ودعاه نيتشه "العِلم المَرِح". وسمّاه آرتو "الأناركية المُتوَّجة". وهو بالنسبة لموريس بلانشو "فضاء الأدب". وبالنسبة لفوكوه، "فكر الخارج".20 وفي هذا الكتاب، يستخدم دولوز وجواتاري مصطلحي "التداولية pragmatics" و"التحليل الفصامي" schizoanalysis، وفي المقدمة يصفان شبكةً ريزومية تخنقُ جذورَ الشجرةِ السيئة الصيت. إحدى نقاط الكتاب هي أن الفكر البدوي ليس قاصرًا على الفلسفة. أو أن نوع الفلسفة التي يَكونُها تأتي بأشكالٍ عديدة. فصانعو الأفلام والرسامون هم مفكرون فلسفيون بقدر ما يستكشفون إمكانات وسائطهم النوعية ويُحدثون قطيعةً مع الدروب المطروقة.21 وعلى المستوى الشكلي الخالص، فإن الرياضيات والموسيقى تخلقان أنعمَ الفضاءات الملساء.22 وفي الحقيقة، ربما كان دولوز وجواتاري أمْيَلَ إلى تسمية الفلسفة موسيقىَ ذات مضمونٍ أكثر من كون الموسيقى شكلًا مُخلخلًا من الفلسفة.

وهذا يُعيدنا إلى سؤالنا الافتتاحي. كيف يجب أن نعزِفَ ألف مسطّح؟ حين تشتري اسطوانةً ثمة دائمًا مقطوعاتٌ تصيبك بالبرود. فتتجاوزها. أنت لا تُقاربُ اسطوانةً باعتبارها كتابًا مغلقًا عليك أن تأخذه أو تتركه. فثمة مقطوعاتٌ أخرى قد تستمع إليها مرارًا وتكرارًا. تتبعُكَ. تجد نفسَك تدندنها بصوتٍ خفيض بينما تقوم بأعمالك اليومية.

ألف مسطّح جرى تصوُّرُه كنسقٍ مفتوح.23 لا يتظاهر بأن له الكلمة الأخيرة. إلّا أن المؤلفَين يأملان أن تتبقى بعضُ عناصره مع عددٍ معين من قرائه وتنضَفِر في نغمة حيواتهم اليومية.

كل "مسطح" هو توزيعٌ أوركستراليٌ للَبِناتِ طوبٍ مُتصادمة مُستخلَصَة من تنويعةٍ من المباني التخصصية. تحملُ آثارًا من مواضعها السابقة، مما يمنحها تدويمةً تُحدِّد قوسَ مُتَّجَهِها. والمقصود أن تلتقي المُتجهَات في مفترقٍ مُتقلِّب، لكنه مستمر، كتوازنٍ مفتوح لأجزاءٍ متحركة كل واحدٍ منها له مسارُه الخاص. وكلمة "مسطح" تأتي من مقالٍ بقلم جريجوري باتيسون عن ثقافة جزيرة بالي، التي وجدَ فيها اقتصادًا ليبيديًا مختلفًا تمامًا عن توجُّه الغربِ الأورجازمي.24 وعند دولوز وجواتاري، يتم بلوغ المسطح حين تتضافر الظروف لتجعل نشاطًا يبلغُ إيقاعَ كثافةٍ لا تتبدّد تلقائيًا في ذروة. إذ يتم الإبقاءُ علي تصاعُد شدّةِ الطاقات بما يكفي لتترك نوعًا من الصورة-اللاحقة لديناميتها يمكن إعادةُ تفعيلها أو حقنِها في نشاطات أخرى، لتخلق نسيجًا من الحالات الكثيفة يمكن أن يُوجد بينها أيُّ عددٍ من الطُرُق الموصِّلة. كل قسمٍ من ألف مسطح يحاول التوليف بين لَبِناتٍ مفهومية بحيث تُشيِّدُ هذا النوع من الحالة الكثيفة في الفكر. والطريقة التي يجري بها عملُ التوليفة هي مثالٌ على ما يُسمّيه دولوز وجواتاري اتساقًا ــ ليس بمعنى التجانس، بل كجمعٍ بين عناصر متنافرةٍ (يُعرف أيضًا بأنه "أسلوب")25. والأسلوب بهذا المعنى، بوصفه ديناميةً جامعةً أو نمطَ تركيب، ليس شيئًا قاصرًا على الكتابة. فصانعو الأفلام، والرسّامون، والموسيقيون لهم أساليبهم، ولعلماء الرياضيات أساليبهم، الصخور لها أسلوب، وكذلك الأدوات، والتكنولوجيات، والفترات التاريخية، وحتى – خصوصًا-الأحداثُ الدقيقة التوقيت. كلّ قسمٍ مؤرَّخٌ، لأن كل واحدٍ يحاول إعادةَ تأسيس ديناميةٍ وُجِدت في وسائط أخرى في أوقات أخرى. والتاريخ يُناظرُ النقطةَ التي وَجَدَت فيها تلك الدينامية المعيّنة أنقى تجسيدٍ لها في المادة، النقطةَ التي كانت فيها أقصى ما تكون تحرّرًا من التدخل من الأنماط الأخرى وصعدَت إلى أقصى درجات كثافتها. ذلك لا يدوم أبدًا أكثر من ومضةٍ، لأن العالم نادرًا ما يُفسح مجالا لكثافاتٍ غير مألوفة، لكونه إلى حدٍ كبير صندوقَ مهملاتٍ إنتروبي من الأنماط المستهلَكة التي ترفض أن تموت. والقسم 12، على سبيل المثال، "مبحث في علم البداوة" Treatise on Nomadology، يحمل تاريخ سنة 1227 ميلادية لأن ذلك كان حين وُجِدت آلةُ الحرب البدوية للحظةٍ في أنقى أشكالها على الفضاءات الملساء الخالية لسهوبِ قلب آسيا.

القارئ مدعوٌّ لأن يتبع كلَّ قسمٍ إلى المسطح الذي يرتفع من الفضاء الأملس لتكوينه، ولأن يتحرك من مسطحٍ إلى الآخر كما يشاء. لكن من الملائم أيضًا أن تتجاهلَ المرتفعات. إذا يمكنك أن تأخذ مفهومًا يروقُك بوجهٍ خاص وتقفز معه إلى ظهوره التالي. فالمفاهيم تميلُ إلى الدوران عائدةً. قد يسمّي البعض ذلك تكرارًا. أما دولوز وجواتاري فيسميانه نغمة قرار [ريتورنيللو].

والقارئ مدعوٌّ، في المقام الأول، لالتقاط ديناميةٍ إلى خارج الكتاب تمامًا، وتجسيدها في وسيطٍ مختلفٍ، سواء كان رسمًا أو سياسة. يسرق المؤلِّفان من التخصصات الأخرى بابتهاج، لكنهما سعيدان تمامًا بأن يرُدّا الجميل. وصورة دولوز الخاصة عن المفهوم ليست أنه لبنة طوب، بل أنه "صندوق أدوات".26 ويسمّي نوع فلسفته "تداوليةً" لأن هدفها هو ابتكار مفاهيمٍ لا تُضيفُ إلى نسقٍ من المعتقداتِ أو معمارِ قضايا إما أن يدخلَها المرءُ أو لا، بل تحشِدُ بدلًا من ذلك إمكانًا على نحوِ ما تُغلِّفُ رافعةٌ في يدٍ متأهِّبةٍ طاقةً انتزاعٍ.

أفضلُ الطرقِ على الإطلاق لمقاربة هذا الكتاب هي قراءته باعتباره تحدِّيًا: أن تفتح عنوةً الفضاءاتِ الخاوية التي قد تمكِّنُكَ من بناء حياتك وحيواتِ مَن حولِك إلى مسطّح كثافةٍ يُخلِّفُ صورًا-بَعديةَ لديناميته يمكن إعادةُ حقنِها في حيواتٍ أخرى، لتخلق نسيجًا من الحالات المتزايدة الشدَّة يمكن أن يوجد بينها أيُّ عددٍ، أضخمُ عددٍ، من الطرق الموصِّلة. قد يُسمِّي البعضُ ذلك تشوشًا. أما دولوز وجواتاري فيسميانه ثورة.

ليس السؤال: هل الأمرُ صادقٌ؟ بل: هل يعمل؟ أيةُ أفكارٍ جديدة يجعلُ من الممكنِ التفكيرَ فيها؟ أية مشاعرَ جديدةٍ يجعل من الممكن الشعورَ بها؟ ما الأحاسيسُ والإدراكاتُ الجديدة التي يفتحها في الجسد؟

ستكون الإجابةُ بالنسبة لبعض القراء، وربما لمعظمهم، "لا شيءَ من ذلك". لو حدث ذلك، فليست تلك النغمةُ التي تناسبك. لا مشكلة. لكن كان من الأفضل لو أنك اشتريت اسطوانةً.


1. Gilles Deleuze, in Deleuze and Claire Parnet, Dialogues (Paris: Flammarion, 1977; forthcoming from University of Minnesota Press), p. 10.

2. Gilles Deleuze, interview with Catherine Clement, L'Arc, no. 49 (revised ed., 1980), p. 99.3. Gilles Deleuze, "Nomad Thought," in The New Nietzsche, ed. Donald B. Allison (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1985), p. 148. Semiotext(e), Nietzsche's Return 3,1 (1978), p. 20. 4. Deleuze and Parnet, Dialogues, p. 20. On the relationship between philosophy and the State, see also pp. 351-473 of the present work. Deleuze develops an extended critique of rationalist philosophy in Difference et repetition (Paris: PUF, 1968); see especially, "L'Image de la pensee," pp. 169-217.

5. Deleuze, "I Have Nothing to Admit," trans. Janis Forman, Semiotext(e), Anti-Oedipus 2, 3 (1977), p. 12 (translation modified).

6. "What I detested more than anything else was Hegelianism and the Dialectic" (ibid).

7. Ibid.

8. See Deleuze's discussion with Michel Foucault, "Intellectuals and Power," in Foucault, Language, Counter-Memory, Practice, ed. Donald Bouchard (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 1977), pp. 205-217.

9. Deleuze, "I Have Nothing to Admit," p. 113.

10. Felix Guattari, "Sur les rapports infirmiers-medecins" (1955), in Psychanalyse et transversalite (Paris: Maspero, 1972), p. 11.

11. Guattari, Psychanalyse et transversalite, pp. 40, 173n, 288-289. The journal Recherches, of which Guattari was an editor, was the mouthpiece of the institutional analysis movement.

12. Uneasy because Guattari believed that Laing's communitarian solution reconstituted an extended Oedipal family (La Revolution moleculaire, [Paris: Editions Recherches, 517 518 D NOTES TO PP. xi-10 1977], p. 121), and because he was critical of Basaglia's assimilation of mental illness and social alienation and his rejection of any kind of institutions for the insane (Psychanalyse et transversalite, p. 264).

13. In 1973, Guattari was tried and fined for committing an "outrage to public decency" by publishing an issue ofRecherches on homosexuality. All copies were ordered destroyed (La Revolution moleculaire, p. 1 lOn).

14. Anti-Oedipus, trans. Robert Hurley, Mark Seem, and Helen R. Lane (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1983).

15. La Revolution moleculaire, p. 144. The disintegration of the Left into dogmatic "groupuscules" and the amoeba-like proliferation of Lacanian schools based on personality cults confirmed the charge of bureaucratism but belied the potency of the mix. Guattari himself began his political life in the early 1950s with stormy attempts at membership in two Trotskyist splinter parties (Psychanalyse et transversalite, pp. 268-271).

16. Differenced repetition, pp. 49-55, 337-349.

17. Jean-Francois Lyotard, The Postmodern Condition: A Report on Knowledge, trans. Geoff Bennington and Brian Massumi (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1984), pp. 32-33.

18. Jurgen Habermas's notion of "consensus" is the updated, late-modern version.

19. Interview with Gilles Deleuze, Liberation, October 23, 1980, p. 16.

20. See Foucault's essay on Blanchot, often quoted by Deleuze: "The Thought from Outside," in Foucault/Blanchot, trans. Brian Massumi, Maurice Blanchot, and Michel Foucault (New York: Zone Books, 1987).

21. Deleuze's books on cinema (Cinema I: The Movement-Image [Minneapolis: University of Minnesota Press, 1986], and Cinema II: The Time-Image [forthcoming from University of Minnesota Press]) and on painting (Francis Bacon: Logique de la sensation [Paris: Ed. de la Difference, 1981 ]) are not meant as exercises in philosophical expansionism. Their project is not to bring these arts to philosophy, but to bring out the philosophy already in them.

22. The terms "smooth space" and "striated space" were in fact coined by Pierre Boulez. See p. 361-62 of the present work and note 20.

23. Interview with Gilles Deleuze, Liberation, October 23, 1980, p. 17.

24. See page 158 of the present work and note.

25. On style in literature, see Deleuze, Proust and Signs, trans. Richard Howard (NewYork: Braziller, 1972), pp. 142-150.

26. Deleuze and Foucault, "Intellectuals and Power," p. 208.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه