يُعتبر هوس الكتب المعروف باسم "البِبليومانيا" مرضًا نفسيًّا يمكن تشخيصه وهُناك وسائل لعلاجه تصل أحيانًا إلى حد استعمال الأدوية المهدئة. لكن ليست جميع المدارس مُتَّفقة على تصنيفه فالجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين لا تعترف به كمرض.

مقال لعمر زكريا


من From Creek to River

تقلّبَ في اللّيل على فراشه حتى اعترف بعدم قدرته على النوم. منذ أن رآها واشتم تلك الرائحة لم يستطع إزاحة تفكيره عنها. ذهب إلى المستودع ونظر حوله لكنّه لم يستطع ملء عينيه بشيءٍ يُنسيه ذلك اللّون الأحمر الداكن الذي يُغطي جوانبها. مرَّرَ يده على مجموعته ببطء لكن مهما فعل لن يُغنيه شيء عن شهوته التي التصقت به. في الزاوية تقبع الأقدم التي يعلوها الغبار، رفع واحدًا وأسقطه على الثاني، تناثر الغُبار فغمر أنفه فيه واستنشقه بقوّة، ثُمَّ أعاد الكرّة مرارًا حتى لم يعد هُناك غُبارٌ ليتناثر.

هذا ما قد يحدُثُ لمهووس الكتب عندما يرى مجموعة الأوراق المجموعة معًا داخل غلافٍ فيما ندعوه بالكتاب، فيعتقد بضرورة اقتنائه لعلّه يحتاجه يومًا ما. في الواقع حتى إنَّ هوس الكتب لا يرتبط بالهوس بالقراءة بقدر ما أنّه مرتبط بتجميعها. لا علاقة برغبة التجميع هذه بالتصنيف كذلك فمهووس الكتب أقرب لأن يكون فوضويًّا من أن يكون مرتبًّا، فهو على الأغلب لا يملك مكانًا لمكتبة يضع فيها كتبه المتراكمة.

ظاهرة الرغبة الجامحة لاكتناز الكتب لأجل جمعها ولا لسبب آخر، لدرجة أنّها قد تجعل الفرد المصاب بها يُعاني من بعض الاختلالات في علاقاته الاجتماعية، مختلفة تمام الاختلاف عن حُبّ الكتب العادي المرتبط برغبة القراءة والاستمتاع بها أو ما يُسمّى أيضًا البِبليوفيليا.

 بالعادة يُعتبر هوس الكتب المعروف باسم "البِبليومانيا" مرضًا نفسيًّا يمكن تشخيصه وهُناك وسائل لعلاجه تصل أحيانًا إلى حد استعمال الأدوية المهدئة. لكن ليست جميع المدارس مُتَّفقة على تصنيفه فالجمعية الأميريكية للأطباء النفسيين لا تعترف به كمرض.

البعض يدّعي بأنَّ مهووس الكتب قد يتذكّر تاريخ اقتنائه لكتبه أو تاريخ طباعة تلك الكتب لكنّه قد ينسى أي تاريخٍ آخر ذات أهمية حياتيّة له أو للمحيطين به. هذا الهوس مرتبطٌ أيضًا بجنحة سرقة الكتب لأجل جمعها وليس للاتّجار بها وكثيرًا ما تكون حالات السرقة المدفوعة من الهوس أو "البِبليوكليبت" لا تكون قد حدثت لأنَّ السارق بحاجة لهذا الكتاب خارج إطار الرغبة لحيازته فحسب.

إنَّ النقاط الأكثر إثارة في هذه الحالة النفسية ليست عندما تكون رغبة الاقتناء مفهومة. فمثلًا رغبة اقتناء كتاب جميل الغلاف أو طبعةٍ أولى لأحد الأعمال الكلاسيكيّة أو نسخة موقّعة من الكاتب أو مجموعة كاملة من موسوعة ما شكلها جميل وورقها فاخر جميعها يمكن استيعابها، وكلُّ محبٍ عادي للكتب أو جامعٍ لها يمكنه التعاطف مع هذه الرغبة وإعادة تخيّلها وترجمتها إلى تجربة شخصيّة.

 لكنَّ مهووس الكتب لا يكتفي بهذا النوع من الكتب لجمعها. فكلُّ ما يبدو على شكل كتاب هو شيءٌ قابلٌ للجمع ويستحق مساحةً في مستودع المهووس. ما لا أفهمه وأعتبره جديرًا بالمراقبة هو هل يُمكن أن يصل الهوس إلى درجة مثلًا أن يكون المهووس مخصّصًا مساحة لكتيبات التأمين التي تصدر كلّ عام حيث يجمعها لسبب غير منطقي كوضع معجمٍ للأطباء المعاصرين أو ما شابه.

الجمع لأجل الجمع يفوق الجمع الفنّي، فالأول ليس معنيًا بالضرورة بنوعيّة المقتنيات وتناسقها معًا ضمن إطارٍ له علاقة بصناعة الكتاب وتجليده وقد لا يكون مهتـمًّا بعرضها، بل قد تكون هناك رغبة نشطة بإخفاء الكتب حتى لا يراها أحدٌ آخر ويرغب بها، فمهووس الكتب هو آخر من نتوقّع منه أن يُعير أيًّا من كتبه. حتى لو كانت نسخة مكرّرة من الكتاب نفسه. الجامع الفنّي يهتمُّ أكثر بفنيّة الكتب التي يجمعها وعرضها والمحافظة عليها وليس تكديسها وحسب.

 المهووس يمكن أن يكون متعلّقًا بكتابٍ واحد فقط فيشتري كلَّ نسخة يراها من كتابٍ مُعيّن أينما وقع نظره عليها وقد يصل إلى حدّ سرقتها. وهذا أيضًا سلوكٌ مختلف تمامًا عن شراء عدّة ترجمات أو طبعات للكتاب نفسه بهدف عقد مقارنات بحثيّة بين الترجمات أو الملاحظات.

بدأ الحديث عن البِبليومانيا في القرن الثامن عشر في أوروبا، وهذا أمرٌ مفهوم لكون الكتب ظاهرة حديثة نسبيًّا وأصبحت مُتاحة للعوام بعد رسملة المطابع وارتفاع نسب التعليم في العالم. لكن يحضرني أحيانًا السؤال عن العصور الواقعة بين اختراع الورق واختراع المطبعة، حيث أنَّ هُناك وجودًا للكِتاب الكُرّاس القابل للتجميع (مفترضًا أنَّ الهوس مرتبط بهذا الشكل من الكتب دون أن ننكر أنَّ هذا الهوس يمكن أن يُسحَبَ على الملفوفات والألواح الطينية والحجرية) فهل من الممكن أن يكون ألفونسو العاشر الحكيم أو الخليفة الأموي الثاني في الأندلس الحَكَم المستنصر أو حتى الخليفة العباسي المأمون أو الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله المنصور، قد جمعوا مجموعاتهم التي أورثوها ووصل عددها إلى آلاف الكتب لم تُجمع فعلًا بدافع حب المعرفة بل بدافع الهوس؟

من البديهي ربط حب جمع الكتب بحب المعرفة. وربما تكون هذه الصورة التي بناها السرد التاريخي في المِخيال أحد أسباب ظهور الهوس فيما بعد. ولكن إن افترضنا أنَّ لهوس الكتب وجودٌ سابق لاكتشافه فهل من الممكن أن تتغيّر المعطيات بشأن السّاسة جَمّاعة الكتب ممّا قد يُغيّر قراءتنا للماضي؟


* المقال خاص بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.