لقد كان بورخيس يطلب ممن يجلس معه أن يُخرج قصص تولستوي ولافكرافت وبعض كتابات فلوبير ويقرأ عليه بعضها وبعد بضعة صفحات وبالهمة نفسها كان يقول Yنه لا يستطيع التحمل. قارئ مثالي هو قارئ، بمعنى من المعاني، عجوز ومصاب بالمرض. حين لا يستطيع التحمل يقول ذلك ويتوقف. وهذه ميزة لا تقدر بثمن.

مقال لمالك رابح


عن موقع AARP

حين أفكر في المرض (مرضي أنا، أو أحيانًا تلك الأوقات التي لا أستطيع تسميتها حيث لا أفضل الناس أو الحركة) أتصوّر غرفة فارغة: سرير، ملاءة نظيفة دون كرمشات، وسادة ضخمة، ونافذة مجاورة، أرى عبرها السماء وهي ترسم مرور الوقت، وحين أغلق زجاجها أجد من الضوء -غالبًا مصطبغ بزرقة الزجاج- ما يكفي، وفوق كل ما سبق، بالطبع، كومة من الكتب بجانب السرير، أنحني إليها من آن لآخر، مثلما ينحني مارا في لوحة جاك لوي دافيد إلى الموت، وآخذُ منها كتابًا يصلح للقراءة، قبل أن تتوارى الشمس خلف المباني فأفقد جمال الضوء الطبيعي وأصير عاجزًا عن القراءة.

في المقدمة الساخرة لروايته الأخيرة وربما درة عقده الروائي، الإخوة كارامازوف، والمعنونة بـ"ملاحظة المؤلف"، يوجّه فيودور دوستويفسكي نصيحة إلى القارئ ومن قبله –بمكر لطيف وبالأساس- إلى النقاد الروس، أولئك الذين يؤاخِذهم دوستويفسكي على قراءة كُتب وملاحم ضخمة بالكامل فقط ليقولوا رأيًا حصيفًا، إنه ينصحهم، في حالة لم يجدوا في روايته ما يستحق أو لم يروا شيئًا، أن يتركوا عندها الرواية (حتى لو كان ذلك من الصفحات الأولى) ويذهبوا لممارسة نشاط آخر أكثر فائدة. دوستويفسكي يحلّهم، من البداية، من المشقة التي قد يتضمنها الوصول إلى السطر الأخير. إنه كرم غير مفهوم من رجل قد كتب للتو ألف صفحة، أن يزيح عن القارئ حِمل الواجب والتردد الهائل، لأن ترك كتاب دون إتمام قراءته يحتاج شجاعة ونوعًا من الحسم، أمر يقابله القارئ كثيرًا، ينبغي أن يحدث لكنّه، لاعتبارات قد تكون أخلاقية، لا يحدث.

لنقل الحقيقة: العديد من الكتب التي نقرأها لا تقابل في النهاية الحماس الذي حركنا إليها، وأغلب هذه الكتب (خصوصًا الضخمة منها، المملة منها، المضجرة منها وغير المفهومة) نكمل قراءتها، كما كان بورخيس يُكمل قراءة الروايات الضخمة، وكما يقول، بدافع من الواجب فقط. ثمة داخلنا ذلك الصوت المجتهد والمنتمي إلى المقاعد الدراسية في أول الفصل، والذي يلزمنا ألّا نرجع الكتب لأماكنها وبها صفحات لم يلطّخها لون التصفح والتقليب. هناك أيضًا العمليات التحضيرية لجلب الكتاب –التي تشبه كثيرًا المداعبة– حيث نجده في مكتبة ونشتريه، أو نرسل في طلبه وننتظره، أو نستعيره من مكتبة عامة أو يعطينا إياه أحد أصدقائنا أو نتحمل تعب البحث عنه على الويب وقرصنته، كل هذا المجهود، يقف في صف إكمال الكتاب، بما أننا وصلنا لهذه المرحلة. وأخيرًا، هناك ميلنا الغريزي للاكتمال والوصول للنهاية وإغلاق الدوائر، ذلك الميل الذي أظنه يأتي من رغبة تقف على الضفة الأخرى: أن ننتهي من الكتاب (الضيف الثقيل) كي نتخلص ونَخلُص منه، من أجل أن نلقيه "هيلا بيلا" وبالسلامة في بحر النسيان، غير آسفين، لأننا في ظل إعادته غير مقروء بالكامل فإننا نجعله مفتوحًا، مفتوحًا بداخلنا وواقفًا مثل اللقمة المدببة في الحلق، إننا لا بد أن نزقه ليفسح الطريق لقراءة في كتاب آخر، ربما، أكثر متعة.

للأسف، ليس كل الكتّاب نبلاء مثل دوستويفسكي، ولا يوجد العديد من الكتب بتصريح للهروب في أولها، ولأننا كقراء عادةً غير واثقين، فمقدّر لنا أن "ننزنق تلك الزنقة المهببة مثل أي واحد مزنوق" في علاقة سيئة للغاية، نستمر فقط على أساس أنه سَيُرفع ستار ما عن حدث أو حقيقة، يجعل المعاناة والألم السابقين –معاناتنا وألمنا نحن– مفهومين وفي سياق مناسب ومقبول. وهو ما لا يحدث في الأغلب، حيث يخرج القارئ يا مولانا كما خلقتني، يتحسر على الوقت الضائع.

إن السنة القرائية لمن أعرف من القراء (وهم قوم قلة في البرية و"بعافية شوية") تصفصف على أربعة أو خمسة كتب عظيمة (إن كان الواحد محظوظًا للغاية فربما أكثر)، تلك القراءات الأساسية التي تلمسُ الفرد وتدفعه إلى بقعة أقرب من نفسه، أتحدثُ عن الكتب التي قد ينحني إليك أحدهم حين يتحدث عنها، وبعينين تلمعان من الإثارة والحب الخالص، يخبرك، صادقًا يكاد أن يهز الطاولة، أنها زلزلت كيانه وجعلته إنسانًا أفضل. أنت تعرف هذه الكتب وأيضًا تعرف أن هذه الزلزلة نادرة، ليس لأن لكل فرد حصة أربع أو خمس زلزلات في السنة وبعدها يتوكل على الله، السبب الحقيقي هو ذلك الوقت الذي نقضيه مع كتب بالكاد مقبولة (passable) تبعدنا عن تلك الكتب العظيمة وتقلل عدد مرات حدوث هزّات الطاولة.

هنا، بالنسبة لي، تأتي فرصة القراءة أثناء أيام المرض الطويلة، أيام الركود كماء الترع في الغرفة. إنني بالطبع أرغب أن أكون بخير ومعافى (أذهب إلى السينما وأتصعلك في الشوارع كالقطط… إلخ) لكن أحيانًا لا يمكن للمرء فعل أي شئ غير البقاء في السرير. وحين يحدث هذا فإني أتعامل مع مرضي على أنه تخليص من الالتزام، حجتي لترك أي كتاب متى أردت، تصريح هروبي الخاص والذي له وقت محدد وينبغي استغلاله. وقتها أكون لابسًا جلدي بالمقلوب وهناك حكة سوداء تزحف داخلي، في أكثر لحظات ضعفي ومضطرب وغير مرتاح، جسدي يرفض أن يسمع كلامي وقلقي يعضّني، عقلي لا ينام غير على فراش من السوء له أسنان، مجبر على الانتظار فيقضي الوقت في تمنّي مرور الوقت، كيف؟ لا يهم، المهم يمر. وحين أمسك الكتب يفعل كل هذا فعله ، فلا أستطيع تقبّل ما كنت أتقبله سابقًا.

حين أقرأ وأنا على تلك الحالة –مستلقٍ في السرير، ضوء أزرق وموسيقى منبعثة من مكبر صوت يحتضر- لا بد أتذكر ليالٍ ماضية وقراءات تأتي من الذاكرة (مثيرة وممتعة بينما القراءات السيئة والمفروضة قابعة في العتمة)، وأنا أقلّب الصفحات يصرخ في مؤخرة رأسي الصوت الذي يقول إن القراءة بالضرورة فعل ممتع، ومن أجل ذلك أومئ لأنها الحقيقة. القراءة، يمكن أن تجعلني أقضي وقتًا طيبًا أو أعصر دماغي وأصفعها من التفكير، يمكن أن تجعلني أضحك أو أتأثر حد البكاء وأصاب بحزن ثقيل، سهلة للدرجة التي عندها أطير فوق الكلمات أو معقدة تتطلب ثلاثة خطوط تحت كل كلمة، لكنها لا تحتاج إلى أجواء المناهج الدراسية الإجبارية، إنها نشاط تلزمه المتعة كي يتحرك طبيعيًا من تلقاء نفسه وكي أيضًا نستطيع أن نغطس عبرها خارج الزمن. لاحقًا، ربما سأنكص عن ذلك وأشعر بالذنب فأعود إلى مقاعد الدراسة، لكن الآن وريقي طعمه مر، وأنفي لا تشم الروائح وجسدي متعب كملاكم خاسر، بالإضافة إلى رؤيتي المهسترة للوقت المتبقي التي تنتج من الاقتراب (حتى وإن لم يكن حقيقيًا خالصًا) من ذلك الذي لا يهتم به الكتاب الشباب أبدًا: الموت، كل هذا، يلبسني جلباب الاشتياق إلى طعم حقيقي في لساني ورائحة حسنة وكذلك يضع على رأسي طاقية عدم تضييع الوقت.

هل أنا هكذا قاسٍ مع الكتب؟ أفاضل بينها، في حالة جسدية ومزاجية سيئة، ولا أعطيها الفرصة؟

ربما. وربما أي كتاب عظيم بالضرورة سيحافظ على وجوده أمام ذلك. لقد قرأتُ كتبًا كثيرة في ظروف شديدة السوء من المرض والاكتئاب وحدث أنها أصبحت من كتبي المفضلة: التحوّل لكافكا، دكتور جيكل ومستر هايد لستيفنسن، أعمال رايموند كارفر وتشيخوف، الحارس في حقل الشوفان، ومؤخرًا الشياطين لدوستويفسكي وكتب أليس مونرو، إذا كنت أنا، لست خالدًا ولا أمتلك القوة ولا الشهرة الخاصة بالكتاب، أمرّ من المرض في النهاية ألا يستطيع الكتاب الجيد أن يفعل بي المثل؟ أظنُ أني، على النقيض، سأتعلق بأي كتاب يوفّر لي قراءة ممتعة، إنه قارب نجاة سينتشلني خارج نفسي والزمن، يد تحملني إلى العشب الأخضر فأرتاح. هذا ما أريده، هذا ما أحتاجه. وإذا فشل الكتاب في يدي في أن يكون كذلك، إذا أصر أن يكون مملًا، غير ممتع وغير مثير للاهتمام فإنني حتى لا أعيده إلى مكانه، بل ألقيه غير مكترث إلى أحد أركان الغرفة، وأشيعه بإيماءة تعلن أنه، حقيقة، الوقت المتاح قليل.

أتذكر قصة حكاها المخرج مارتن سكورسيزي عن المونتيرة ثيلما سكونمايكر وزوجها المخرج مايكل باول. في إحدى الليالي ذهبت سكونمايكر مع باول إلى السينما وبعد عشر دقائق من بدء الفيلم أخبرها باول، الذي كان في ثمانيناته، بلهجة متذمرة وبريطانية، أن هذا يكفي، عليهم المغادرة، إنه يعرف ما سيحدث ولا يستطيع تحمل أكثر من هذا، إنه لا يستطيع تضييع الوقت. إن كون مايكل باول عجوزًا بالطبع له دخل بالأمر -وعيه بتجاربه السابقة والقدر المحدّق في الزاوية. بالعودة للقراءة، الكِبر والمرض يشبهان بعضهما هنا، إنهما يجعلاننا نخلع كل الملابس الثقيلة التي لا تتطلبها القراءة الحارة أصلًا، المرض مثل الكبر لا يجعلنا نهتم بتلك الملصقات الصحية التي نضعها على الكتب لنبرر وقت قراءتها، عوضًا عن هذا، نهتم بتعقيداتنا، رغباتنا وذائقتنا، وأيضًا بنقائصنا القرائية وبقصورنا الذي يشكلنا. لقد كان بورخيس يطلب ممن يجلس معه أن يُخرج قصص تولستوي ولافكرافت وبعض كتابات فلوبير ويقرأ عليه بعضها وبعد بضعة صفحات وبالهمة نفسها كان يقول إنه لا يستطيع التحمل. قارئ مثالي هو قارئ، بمعنى من المعاني، عجوز ومصاب بالمرض. حين لا يستطيع التحمل يقول ذلك ويتوقف. وهذه ميزة لا تقدر بثمن. هذا اللاصبر وعدم الارتياح يحرّكه بالضرورة نحو هزّات أكثر للطاولة. بورخيس ومايكل باول ودوستويفسكي (الذي لم يقرأ غير ما يهمه)، بالنسبة لي قراء مثاليون، بينما النقاد الروس ومن يجلسون في المقاعد الأمامية للفصول ليسوا كذلك؛ هم أصحاء طول عمرهم، ربما لا يزالون أحياءً لحد الآن، يتحركون في أناة ويمتلكون كل الوقت الذي في العالم واليوم عندهم يلُد يومًا آخرًا وآخرًا وآخرًا.


* المقال خاص بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.