حين فقد دارسيل قدمه اليسرى، ظل يتقافز عبر الشوارع بحثًا عنها. ظن أنه رآها في المجاري، لكنها طفت مع التيار بعيدًا. ثم عثر عليها أخيرًا في مصنع لمعالجة المياه. كانت مع الآلاف من الأقدام الأخرى التي تبرز على سطح المياه باللونين الأخضر والأصفر جراء العفن.

برندا بينادو كاتبة أمريكية.

ترجمة: راضي النماصي

لوحة فرانسيس بيكون «ثلاثية أغسطس 1972» عن موقع Tate.


نفقد هذه الأيام أجزاءً منا، إذ عثر أحد المراسلين على حفنة من آذان في حقيبة خيش. قال القائد إن الأمور قيد الإتمام ولم نتأكد مما كان حقيقة أو إشاعة. فما حدث لي ولجيراني لم يُعدَّ إثباتًا كافيًا بخصوص كل ما فقدناه.

عرفنا في البداية فقط أننا نفتقد إلى قِطَعٍ منا. كان من السهل أن يقول شخص لآخر: يدك؟ يا للغرابة. هل أنت متأكد من أنك لم تضيعها في مكان ما؟

علمنا الآن أن هناك حقلًا للأيدي، حيث نجدها مغروسة تُلوِّح مثل حقل ذرة، كما علمنا بشأن المزارعين الذين فقدوا ترقواتهم فما استطاعوا حمل أي شيء على أكتافهم، وصيادو السمك الذين فقدوا عضلات أكتافهم وما عادوا قادرين بعد ذلك على سحب ما صادوه إلى الشاطئ.

فقدت أنفي شخصيًا، ولا أستطيع شم أو تذوق السم في المياه. أما أبي ففقد إبهاميه ولا يستطيع حمل أدواته للصيانة، فيمضي الليل في حكي القصص عن الأيام الخوالي، حين كانت الأمور أفضل. فقدت صديقتي سلمى عينيها، وهي تعيش في أقرب حي لقصر القائد حيث أصيب الجميع بالعمى؛ فتأتي إلى منزلي يقودها ميليتو، الذي لا يستطيع السماع: إذ أن أذنيه موجودتان في قاع الكيس الذي اكتشفه المراسل. فقد دارسيل، أحد أصدقائي، رجليه. وحين يزورني يتشبث بالطريق عبر التلة بينما يجر جسده على الرصيف. وحين يودعني يكتفي بالدحرجة إلى أسفل التل. كما فقدت عدة نساء كِلياتهن وباتت بشرة وعينا كل واحدة منهن صفراءً كالذهب. وفي عيادات الغسيل، يتبادلن الإشاعات كما لو كنَّ في صالون تجميل. أو لسن على حالهن، جميلات، رغم ما فقدن؟

يقود ميليتو سلمى حتّى يصلا عند بابي. ودارسيل ليس بعيدًا وقد انتهى من جرجرة جسده صعودًا حتى أعلى التل. تبتسم سلمى حين أشدو مرحبة بها بأعلى صوت.

ما زلنا الأربعة مع والدَيَّ نشرب الليموناضة خلال العصر تحت ظل شرفتي. الحقيقة أنها ليست ليموناضة في ظل ندرة المياه النظيفة كما هو الحال الآن، إذ عصرت العنب مع الليمون كي أعده. ثمة عصفور يغرد الآن على أحد الأشجار. لم نسمع صوتًا كهذا منذ شهور –فقد فقدت معظم الطيور أجنحتها وأصواتها– فنتوقف عما نفعله منصتين إلا ميليتو الذي لا يستطيع سماعه. تدير سلمى رأسها باتجاه التغريد.

كيف حدث كل ذلك؟ بدأ الأمر في العالم الطبيعي، إذ فقدنا معظم المحاصيل، ثم نضبت طبقات المياه الجوفية فانهارت إلى حفر مجوفة، مما دفع بعدة أحياء إلى الانهيار. لكننا لم نهتم حينها، وأعرضنا إذ كنا متعبين، ثم إن قائدنا قد أخذ على نفسه عهدًا بإصلاح المعطوب مهما كلف الأمر.

تقترب أمي الدرداء مني دون أن أنتبه لها ريثما أملأ قدحًا، فتتمتم بثناء ومديح للقائد وكيف أنعم علينا بليمون لذيذ مثل هذا، وعظمة أنه أخذ البذور لئلّا نضطر إلى استخراجها.

سئمت تذكيرها بأننا لن نستطيع زرع شجر الليمون بدون بذور وسنضطر إلى تسول فاكهتنا.

يغير والدي الموضوع إثر إحساسه بأن جدلًا ما على وشك الحدوث وسيفسد مساءنا، فيتحدث عن زمن كان فيه قويًا وبمقدوره حمل فأس. بات يتكلم الآن عن الماضي ونحن نمازحه، وصار مؤيدًا للقائد مثل أمي جراء كل المشاكل التي تحتاج إلى حل. كما يلوح بيديه أثناء حديثه، فتبدوان مثل مخلبين دون الإبهامين.

عثرت على وادي الأنوف بنفسي على بعد أربعين ميلًا شمال المدينة. كانت ترتعد في الريح بينما تستنشق الدخان. هل كان ذلك أنفي شخصيًا يناديني من أسفل الوادي؟ سيتعين علي معاركة الشرطة لاستعادته. ولو أردت استعادته للزمني بدء ثورة، لكنني وحدي.

نصّت القوانين المتلوّة كل أسبوع في مجمع التسوق على أنه لا عذر للعنف. وللشرطة فرصة سانحة لضربنا دونما أهمية لشجاراتنا حول مياه المطر، ناهيك عن أعضاءنا التي اختفت بأشد صمت وبطء لدرجة غفلتنا حتى عمّا حدث، وعن مرضانا وجرحانا الذين يحتضرون في المجاري.

يعلم المرء يقينًا أن ما يفقده يمكن العثور عليه: إما في كيس خيش وإما في قصر. لكن إن حاولت استعادة ما هو لك –سواء الأذن أو العظم أو الأنف– ستعتقلك الشرطة على الفور وتعاقبك بأخذ جزء آخر منك.

ستعلم أن شخصًا ما قد حاول ذلك لأن شارعهم امتلأ فجأة بخوذ الشرطة البيضاء. ولا بد أنك ستغرق في التفكير إزاء الشرطة؛ إذ كانوا بشرًا، أيضًا، وممن نعرفهم تمام المعرفة. قالت زوجة إحدى الضباط إن بعض المناطق في ظهر زوجها مفقودة. إذًا لمَ كانوا في غاية السرعة باستخدام سواطيرهم وأسلحتهم؟

حين فقد دارسيل قدمه اليسرى، ظل يتقافز عبر الشوارع بحثًا عنها. ظن أنه رآها في المجاري، لكنها طفت مع التيار بعيدًا. ثم عثر عليها أخيرًا في مصنع لمعالجة المياه. كانت مع الآلاف من الأقدام الأخرى التي تبرز على سطح المياه باللونين الأخضر والأصفر جراء العفن. لعل الأقدام سبب تسميم مياه الشرب لدينا. حين دخل ومعه شبكة لاستخراج قدمه، سحبته الشرطة وقطعت قدمه الأخرى.

يسلينا دارسيل بحكايات عمّا رآه أثناء زحفه على الشوارع: ضاحية من أطفال بلا أصابع يلعبون كرة القدم، ودور نشر مملوءة بمؤرخين بلا ذاكرة يؤلفون كتبهم بضمير المضارع، وأحد الأحياء –الأقرب إلى مصنع معالجة المياه– ممتلئ بناس بلا أدمغة، ومزارعون بأذرعة متدلية يلتقطون التوت البري بأصابع أقدامهم بينما يقطر العصير منها، ومنطقة ذات نساء بلا صوت يرغب بهن رجال يصلحون للزواج، وحين يفتحن الستائر صباحًا فكل فم لدى كل واحدة مفتوح مثل حرف «O» بالإنجليزية. تقول أمي إنهن يغنين، لكننا نتذكر كيف يمكن لبعض الأغاني أن تغدو صرخات.

أمد لدارسيل كوب ليموناضة.

تسأله أمي إذا ما جرب المشي على يديه، وتقول إنه يبدو سهلًا بما يكفي.

يرد دارسيل: «لا، لا أريد أن أنسى ما فعلوه بي».

تقول أمي «خائن»، بينما تصفق الباب خلال عودتها إلى البيت.

يعبث ميليتو بالجيتار محاولًا عزف أغنية ما زال يتذكرها منذ أيام قدرته على السماع. تبدو الأغنية نشازًا في أحيان لدرجة النفور، وفي أحيان أخرى بلا عيب فنرغب في الرقص. أما اليوم فالأغنية بصفاء المياه العذبة.

تسأل سلمى «أ تعلمون ما أحبه في ما يتعلق بنا؟ إننا نكاد نكون على نفس الحال تقريبًا. ما أجملنا بينما نستمتع بشراب على الشرفة».

أغطي وجهي بيدي. لا أريد أن ينظر إلي أحد. لقد كنت جميلة ذات يوم.

والدي مستغرق في التهكم، وميليتو يعين سلمى على الوصول إلى الحمام. بات على كل واحد منا أن يستعين بالآخر على أي فعل. (ما عدا دارسيل الذي يرفض أن يدفعه أحد على كرسي مدولب).

يحل المساء، ويرخي الظلام سدوله.

يقول دارسيل إنه مر بالقصر، وإذا بالنوافذ من قاعة الرقص تشع بالنور. نتساءل عما فقده القائد. يقول البعض إنه لم يفقد أي شيء، وتقول أمي إنه يستخدم كل أجزائنا المفقودة للصالح العام، ولا يُلام على أي شيء حدث قبله، كما تقول إنكِ لم تعودي بحاجة لذلك الأنف، ولا تحتاج سلمى إلى عينيها، وتردد الأخبار التي تدعمها الدولة حول جندينا الذي أُسِرَ خلف خطوط العدو، وكيف أعادوه قطعة فقطعة. إذ بدّلوا كلية وعينًا ويدًا مقابل كلية ويدٍ وعينٍ ويد واحد من مواطنينا. ثم تردف بالقول إن لعل تلك العين عينك يا سلمى، وعليك أن تشعري بالفخر لكونك أعنت جنودنا على العودة للوطن.

أحيانًا أتمنى لو أن أمي فقدت لسانها بدلًا من أسنانها.

حين يدلف أبي إلى الداخل، نضع خططًا بأصوات خفيضة، بينما يقرأ ميليتو شفاهنا. زاحف وعمياء وأصم وامرأة بلا أنف، سيتطلب الأمر وجودنا جميعًا. فينا غضب يكفي عشرين شخصًا.

سنتسلل إلى القصر ونطلق سراح الأذرع فتصير أسلحة لمقاومة الشرطة، والقلوب لنطلق الإنذار الذي كان ينبغي سماعه منذ أمد طويل، والسيقان لتحمل رسائلنا، والعيون لتشهد على ما سيحدث.


 الترجمة خاصة بـBoring Books.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.