ليس على الكاتب أن يفسر العمل الذي كتبه، إذ ينبغي لقوة تعبيره وحدها أن تكون كافية للقارئ، وكل ما خلا ذلك يرجع إلى حب الظهور، وهي نقيصة يبغضها وعلى هذا أخذ عهدًا على نفسه ألا يقع فى الفخ ثانية.
سالينجر خارج حقل الشوفان
مقال: أحمد عبد المنعم رمضان
نُشر في أخبار الأدب، فبراير 2022
قبيل نهاية العام، وقعت يدي على إعلان منشور بإحدى صفحات الفيسبوك عن كتاب بعنوان "تسع قصص" لج. د. سالينجر، حيث يشير كاتب المنشور إلى وصوله أخيرًا وبعد رحلة بحث طويلة إلى نسخة قديمة من الكتاب مترجمًا إلى العربية. توقفت عند ذلك الصيد الثمين ممتنًا ومتشوقًا، فأنا مهتم بكل ما يخص سالينجر منذ قرأت روايته الوحيدة والشهيرة "الحارس فى حقل الشوفان"، ومثل أغلب من قرأوا الرواية استحوذ بطلها "هولدن كولفيلد" على جانب كبير من تفكيرى، وأدركت أن هولدن ما هو إلا النسخة الروائية من سالينجر نفسه، فقرأت عن الروائى الأمريكى، وشاهدت أفلامًا عن حياته، وثائقية وروائية، إلا أنني لم أقرأ له شيئًا آخر بعد روايته الأخاذة، وذلك لندرة إنتاجه المنشور. عاش جيروم، أو جيرى كما يناديه المقربون، مبتعدًا عن النشر والصحف والإعلام منذ أصبح فى مطلع الأربعينيات من عمره وحتى وفاته بعد ما يقارب الخمسين عامًا، انعزل واتخذ أسماء مستعارة وابتعد عن الأنظار، لم ينشر أى قصص، لم يُدلِ بأي تصريحات ولم يستجب لمحاولات الصحافة الدائمة للبحث عنه وعما يفعل، بل حارب كل من حاولوا إبراز اسمه أو اقتحام حياته أو دفعه إلى خشبة المسرح، بمن فيهم ابنته مارجريت التى توترت علاقته بها بعد أن نشرت كتابًا عن سيرته تحت اسم "صائد الأحلام" وهو على بوابة الثمانينيات من عمره.
نُشر "تسع قصص" فى مطلع الخمسينيات، وهو الكتاب الثانى لسالينجر ضمن أربعة كتب فقط نشرها عبر حياته التى امتدت لأكثر من تسعين عامًا، أولها كان "الحارس فى حقل الشوفان" وثالثها يضم قصتين بعنوان "فراني وزوي"، وآخرها بعنوان "ارفعوا العارضة أيها البناؤون، وتعريف بسيمور". كانت القصص التسعة قد نُشرت عبر سنوات سابقة فى الصفحات الأدبية بالمجلات، سبعة منها ظهرت فى "النيويوركر"، وتم نقل الكتاب إلى العربية على يد المترجمة والكاتبة السورية ملك أبيض العيسى فى نسخة صادرة عن دار الاتحاد اللبنانية.
يحكي الكاتب الفرنسى دينيس ديمونبيون في كتابه "سالينجر فى حياته الحميمية" أن هاميش هاملتون، الناشر الإنجليزى لسالينجر، كان متحمسًا لنشر عمله القصصي الجديد بعد النجاح المدوي الذي حققته الرواية، غير أن سالينجر كتب له رسالة بأنه يريد أن يضع للكتاب عنوانًا متحفظًا، تسع قصص، تفاجأ هاملتون ورد قائلًا "أعتقد بصدق أنك لست جادًا"، واقترح عليه أن يطلق على المجموعة اسم إحدى قصصها وهي "من أجل إزمي، مع الحب والدناءة"، وأكد له هاملتون "إنها أفضل قصة قرأتها لكاتب فى هذه السنوات العشر الأخيرة دون تمييز بين لغة وأخرى"، مضيفًا أن عبارة "وقصص أخرى" سوف تظهر بالطبع على الغلاف، إلا أن سالينجر عنيد ولا سبيل لإثنائه عن قرار اتخذه، صمم جيروم على رأيه، لن يطلق على المجموعة أى اسم، فقط (تسع قصص).
تبدو شخصية سالينجر الذي عرفنا عنها الكثير في السنوات اللاحقة واضحة جدًا في تلك النصوص المختارة، وبها مجموعة من العناصر الجامعة المشتركة، فالكاتب الأمريكي يعرف بالتأكيد أن المجموعات القصصية ليست مجرد (تشكيلة) من القصص المتناثرة هنا وهناك، وإنما لا بد لكل مجموعة من شيء يجمعها، سواء فيما يخص الأفكار أو الأسلوب، وبالتالى فثمة عناصر مشتركة تجمع القصص التسعة. ربما أول ما لفت نظري هو تكرار الحوارات بين الناضجين والأطفال، واندماجهم في أحاديث طويلة ومتشعبة ضمن بعض القصص، وهي محادثات شديدة الجدية، دون أن تخلو من البراءة الطفولية، تضمنت سبعة من القصص التسعة مثل هذه الحوارات، وارتكزت عليها بعض القصص بشكل كامل، مثل قصة (تيدي) والتي تتمحور حول الطفل تيدي مستعرضة انغماسه في حوار طويل مع شاب ناضج على سطح إحدى السفن، يتطرق الحديث بينهما إلى طبيعة الروح، وهل هي باقية أم فانية، وعن تناسخ الأرواح والمنطق والتوراة والله. هذا الوجود الطاغي للأطفال عبر قصص المجموعة ليس غريبًا على الرجل الذي كان مراهقًا اسمه (هولدن كولفيلد) قبل شهور، هذا المراهق الذي تمنى أن ينتهي به الحال كحارس على حقل من الشوفان يلعب فيه الأطفال كرة القدم، بينما يقف هو على حافة الحقل يراقبهم ويحميهم من السقوط في الجرف الكبير الذي يحيط به، سالينجر هو نفسه هولدن كولفيلد الذي يرى أن المجتمع يُفسد براءة الأطفال ويحولهم جميعًا إلى أشخاص مزيفين.
عنصر آخر يبدو حاضرًا ومتكررًا في القصص التسعة وهو آثار الحرب النفسية المدمرة، فسالينجر صاحب تجربة شخصية يشير إليها بين قصة وأخرى، حيث شارك فى معارك الحرب العالمية الثانية وشهد بعينيه العديد من المآسي حتى عاد من ميدان المعركة شخصًا مختلفًا عمن كانه قبلها، مثل ذلك الرجل فى قصة "يوم مثالى لسمكة الموز" الذي يفقد القدرة على التواصل مع الناس عقب عودته من الحرب باستثناء طفلة صغيرة يبادلها اللعب والحديث، أو ربما هو أقرب إلى إحدى شخصيات قصة (عشية الحرب مع الإسكيمو) الذي بات يتهرب من أصدقائه ويتصرف بغرابة منذ عودته من الحرب.
على كل، لم يكن الناشر الإنجليزي هاملتون مبالغًا عندما أطرى بشكل استثنائى قصة "من أجل إيزمي، مع الحب والدناءة"، فهي من القصص التي تثير المشاعر والأفكار معًا تاركة أثرًا طويل الأمد. تدور القصة حول الجندي الأمريكي "س" المتواجد في إنجلترا في أثناء الحرب العالمية الثانية، ربما هو سالينجر نفسه، يذهب "س" قبيل انتقاله من نقطة إلى أخرى ليشرب الشاي في إحدى الكافتيريات، تلتفت إليه فتاة في الثالثة عشر من عمرها، اسمها إيزمي، تترك مربيتها لتجلس إلى منضدة العريف الأمريكى وتدير معه حوارًا ذكيًا، تسأله عن مهمته في الحرب، وعما يفعله في غير الحرب، يجيبها بأنه كاتب ولكن دون كتب منشورة، يخجل لذلك، إلا أنها تتحمس لما يقوله، فهي قارئة نهمة، وبدا أن تآلفًا غامضًا يجمعهما، ولكنه تآلف روحي، ليس على طريقة نابوكوف في (لوليتا) – كما يلاحظ ديمونبيون واتفق معه -، تسر له الفتاة بأنها ستكون فخورة إن كتب قصة لها وحدها، لا يهم أن تكون طويلة، يكفى ألا تكون سخيفة أو صبيانية، ثم تضيف أن ما تحبه في القصص هو أن تتضمن قدرًا من الدناءة، فهي شديدة الاهتمام بفهم الدناءة. يستمر الحوار الرقيق الشفاف بينهما إلى أن يضطر كل منهما إلى الرحيل، هي إلى بيتها ودروسها ومتابعة أخبار المعارك عبر الراديو، وهو إلى المجهول، إلى الحرب وميادين القتال التي تنتظره، إلا أن ايزمي تعده بأن تراسله وتطمئن عليه عقب المعركة.
ثم ينتقل سالينجر إلى الجزء الثاني من القصة ويبدأه بجملة (وها هو القسم الدنيء، أو المؤثر من القصة)، وفيه ينتقل إلى ألمانيا بعد نهاية الحرب حيث يجلس (س) بين عدد من الملفات والأكوام والأوراق، بعضها لجوبلز، يحاول (س) فحص أوراق وضعها أمامه ولكن دون جدوى، فهو فاقد للتركيز، يبدو أن مهمته متعلقة بالكشف عن المتورطين في التعاون مع الحزب النازي، وتلك كانت المهمة الحقيقية لسالينجر نفسه عقب توقف المعارك. يتوقف "س" عن التقليب في الأوراق ويدير حوارًا مع أحد زملائه، نتبين من خلاله أن "س" بات مصابًا باضطراب عصبي وفقدان دائم للتركيز. يعود "س" إلى أوراقه مرة أخرى، يجد بينها رسالة من إيزمي، أوفت الفتاة بوعدها وأرسلتها إليه لتطمئن على أحواله، إلا أن الرسالة لم تقع في يده إلا متأخرًا جدًا، ولكن ها هو يفى بعهده هو الآخر ويكتب (قصة إلى إيزمي، مع الحب والدناءة).
رغم اختلاف الرؤى والموضوعات إلا أن ثمة تشابه يجمع أسلوب الكتابة عند سالينجر وذلك عند سكوت فيتزجيرالد، كلاهما يهتم بسبر أغوار النفس الإنسانية ويفرد مساحات واسعة للحوارات اليومية التي تبدو بسيطة واعتيادية غير أنها تكشف شخصيات أصحابها وتفضح أزماتهم دون تصريح في أغلب الأحيان، حتى أكثر الأمور درامية ومأساوية تُسرد بسلاسة وانسيابية من خلال التفاصيل الحياتية الدقيقة، دون مبالغة في توصيفها، فيتسرب إليك شعور بمدى قسوة الأمر دون الحاجة إلى ميلودراما مباشرة وزاعقة.
كان سكوت فيتزجيرالد أحد أحب الكتاب إلى سالينجر، مع تولستوي، ونقرأ في كتاب (سالينجر في حياته الحميمية) الصادر عن دار المدى بترجمة زياد خاشوق أنه- أي سالينجر – سعى للقاء هيمنجواى عندما علم بوجوده كمراسل حربي بالقرب من كتيبته، وأدار معه ذات يوم حوارًا عن سكوت فتكلم عنه هيمنجواى بمودة ولطف، ولكن عندما سأله سالينجر إن كان يعتبر فيتزجيرالد شجاعًا أم جبانًا، أجابه هيمنجواى دون مواربة أنه بالنسبة له جبان من الناحية المادية، لم يسامحه سالينجر على هذه الصراحة التبسيطية، واستنتج أن هيمنجواى شعر ببعض الحسد تجاه فيتزجيرالد فى مرحلة ما من حياته ككاتب.
توارى سالينجر وانزوى تدريجيًا حتى غاص في عزلته الاختيارية، ولكنه طالما كتب لأصدقائه في الرسائل المتبادلة أنه ما زال يكتب بانتظام غير أنه لا يهتم بنشر ما يكتبه مرة أخرى، كما داوم على رفض إجراء أي حوارات أو الإجابة على أية أسئلة تخص روايته الشهيرة، حيث قال لجويس مينارد التى ارتبط بها لفترة غير طويلة أن "وجه الكاتب لا يجب أن يعرف أبدًا"، وأكمل – طبقًا لكتاب ديمونيبون- أنه ليس على الكاتب أن يفسر العمل الذي كتبه، إذ ينبغي لقوة تعبيره وحدها أن تكون كافية للقارئ، وكل ما خلا ذلك يرجع إلى حب الظهور، وهي نقيصة يبغضها وعلى هذا أخذ عهدًا على نفسه ألا يقع فى الفخ ثانية.
بعد وفاة سالينجر بحوالي عشرة أعوام أعلن ماتيو سالينجر أنه يعمل منذ وفاة والده مع أرملته على إعداد وتنسيق ما كتب الأب خلال أكثر من خمسين عامًا، وأن الأمر سيستغرق عدة سنين أخرى. يقول "مات" إنه يشعر بضغط كبير، خصوصًا عندما تستوقفه امرأة عجوز لتخبره أنها لا تريد أن تموت قبل أن تقرأ المزيد مما كتبه سالينجر، "أشعر بالضغط لإتمام هذا العمل أكثر مما كان يشعر هو. كان أبي مسكونًا بالأفكار والتأملات، يتوقف أحيانًا في أثناء قيادته السيارة ليكتب شيئًا ما ثم يضحك لنفسه، أحيانًا يقرأه لي وقد لا يفعل في أحيان أخرى، كما كان يحتفظ بمفكرة بجوار كل كرسي. أشعر أنني شخص محظوظ، قراءة تلك الكتابات للمرة الأولى تبث فيّ شحنة عاطفية كبيرة، وكأنك تعقد حوارًا مستمرًا مع والدك. أغلب أصدقائي في عمرنا هذا فقدوا والديهم، أما أنا فأبى لم يذهب، لم يمت بالنسبة لي".
* يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه