مع نهاية يوم عمل مرهق، يبدو العقل كأنه على حافة جنون محتمل، وبالقراءة الليلية يمكنني التراجع خطوات إلى الوراء وترميم بناء المعنى، الخروج بعيدًا إلى عرض البحر، حتى يلفح وجهي نسمات الهواء الباردة من المجهول.
الخروج إلى عرض البحر
مقال كريم محسن
"بعد انتهاء العمل، قال سالفتوره، أنقذ نفسي بالنثر، كمن يرسو على جزيرة. خلال اليوم أجلس وسط طوفان ضجيج صالة التحرير، وفي المساء أجلس في جزيرة، وعندما أبدأ في قراءة الجملة الأولى، يبدو لي في كل مرة وكأنني أخرج بعيدًا إلى عرض البحر. والفضل في أنني لا أزال عاقلًا، يعود لهذه القراءات المسائية وحدها".
- دوار . أحاسيس/زيبالد، ترجمة: أحمد فاروق (دار التنوير، صــــــ 108).
يلتقي زيبالد صديقه سالفتوره في البار منهمكًا في قراءة كتاب، متمسكًا بطوق النجاة الأخير بعد نجاحه في الهروب مؤقتًا من طوفان العمل.
رغم نسيانه نظارة القراءة في مقر عمله (الصحيفة)، لا يستطيع سالفتوره تفويت ساعات ما بعد العمل دون ممارسة القراءة، حتى لو كانت القراءة ستكون عملية شاقة ومؤلمة نظرًا إلى قصر نظره الحاد، تتطلب أن يلصق الصفحات بوجهه ليرى الكلمات والجمل، حتى يسبح في البحر ويصل إلى جزيرة نائية، يحافظ فيها على عقله لبعض الوقت من الضجيج والتشتيت المتواصل.
أغلقت الكتاب بعد انتهاء الفقرات التي يكتب فيها زيبالد عن لقائه بالقارئ المعذب؛ سالفتوره.
خلعت النظارة الطبية بعد أن نخر الصداع رأسي من قلة النوم وإرهاق ما بعد يوم عمل شاق وعدم القدرة على التركيز. نظرت إلى السقف، فضَّلت إغماض عينيَّ محاولًا استيعاب ما قرأته في ظلمة داخلية دافئة.
نظرًا لقصر نظري تصبح الرؤية غائمة بعد خلع النظارة.
في ظلمة نفسي، يمكنني التفكير بوضوح أكثر.
عندما يحدث لقاء شخصي بيني وبين ما قرأته، لا أستطيع استكمال القراءة، أتوقف فورًا بشكل لا إرادي وأضع الكتاب بعيدًا عني لدقائق وأغمض عينيَّ، وأحيانًا أقف في مكاني وأدور حول نفسي أو أتجول في الشقة لمدة دقائق، ثم أعود لقراءة نفس الكلمات مجددًا بخوف وشغف. خوف من الحقيقة، وشغف لإعادة اكتشافها وتكثيفها داخلي. أتوقف عن القراءة وقتها لأنني أعيش حالة تتجاوزني تمامًا، تنفجر مشاعري وأفكاري دفعة واحدة فلا أستطيع التعامل مع الموقف إلا بالتوقف للقبض على اللحظة المتوهجة بين يدي وفهمها قبل الإفلات مني. أشعر وقتها أنني أتحرك في مكاني (رغم سكوني) بسرعة تفوق قدراتي البدنية، جسدي يختزن طاقة وقوة تفوق احتماله، والاستمرار في القراءة وقتها سيؤدي حتمًا إلى هلاكي.
يدهشني في الأدب قدرته بجملة واحدة على تعريتي وجعلي أقفز من مكاني وأتلفت حول نفسي، على تسديد لكمة خاطفة إلى عيني، لا تترك أثرًا يرى، لكنني أشعر بلذة الألم وحقيقته كلما تذكرت ما قرأته.
أشعر أنني أمتلك حقيقة تخصني وحدي.
***
في سنوات الجامعة، امتلكت وقتي تمامًا.
درست في كلية التجارة وبعد 4 سنوات لم أعرف خلالها اسم دكتور أو معيد أو صديق حتى، تخرجت. كنت أعرف أسماء المواد قبل اختبارات نهاية كل فصل دراسي بشهر واحد، عند وضع جدول الامتحانات أذهب في رحلة عبر مترو الخط الثاني المكمكم إلى دهاليز عالم بين السرايات أمام بوابات جامعة القاهرة، التي يصطف موازيًا لها عربة أمن مركزي وعساكر في حالة استعداد دائم للضبط والسيطرة وبث الرعب في المناخ العام، استعراض مسرحي للقوة يهدد الجميع بلحظة التحول إلى تطبيق عملي في ساحة الجامعة. تتحول المناهج التعليمية في محلات طباعة الأوراق والمراكز التعليمية في "بين السرايات" إلى ملازم وملخصات قذرة رديئة الطباعة والتصميم والمحتوى، يعدها معيدون سريون في الجامعة، يبحثون عن ربح إضافي بجانب مرتباتهم الهزيلة. كانت الملزمة والمذاكرة لمدة شهر واحد كافية للحصول على تقدير "جيد" في نهاية كل عام دراسي، يرسم ابتسامة بلهاء وراضية على وجوه العائلة.
أتاح لي الفشل المتجذر في إدارة كلية التجارة ومناهجها البائسة امتلاك وقتي والتركيز أكثر على عالمي الخاص الذي بدأت في تأسيسه منذ المرحلة الإعدادية، عالم يرتكز بأكمله على القراءة والكتابة. عرفت المعنى الحقيقي للتعلم الحر دون الاعتماد الآمن على مؤسسة أو مدرسين أو دَكَاترة، بصقت وطرطرت على كل ما تعلمته في مراحل تعليمي الدراسية بأكملها. أذهب إلى قاعات الامتحانات في نهاية كل فصل دراسي للتغوط على ورقة الأسئلة، مفرغًا معدتي من كل ما درسته في الشهر الأخير، لأعود إلى عالمي الخاص مرة أخرى، صافي الذهن ومستعدًا لمزيد من القراءة والتعلم.
لعبت القراءة وقتها دورًا رئيسيًا (كالعادة) في حياتي، منهج تعليمي خاص مضاد للخراء الجامعي، منهج أضع مواده بنفسي بما يناسب اهتمامتي وشغفي، وأنظم وقت دراسته اليومي والاستمتاع به وينعكس تأثيره على نظرتي للعالم ونقدي له، منهج اختبر تأثيره العميق في حياتي وأخلاقي الخاصة ومواقفي وكتاباتي الأدبية وعلاقاتي مع الآخرين. لا أنتظر نتيجة نهاية السنة الدراسية، أطور معرفتي وأثقلها على مهل دون انتظار مقابل أو مكافأة. أدور في دائرة يتكثف داخلها المعنى مع كل جولة.
الدوران هنا لا يعني التيه، بل عملية بناء مستمرة، لا تلتزم بالشكل الخطي التصاعدي المعتاد، الذي يرتب السنوات والحياة بأكملها على قاعدة هرمية نحو قمة وهمية.
آمنت بالقراءة كعملية تثوير دائمة للواقع والشعور واللغة والخيال، خلق متجدد لبدائل وإجابات وحلول وخطوط هروب من أنساق مغلقة تحكم خناقها على رقاب الجميع، بينما كانت المناهج الدراسية الجامعية إعادة إنتاج لواقع أرفضه، تأهيل لوظيفة ليس أكثر، ترسيخ لمفهوم النفعية مع كل كلمة أحشرها في رأسي، لم تكن المناهج مساحة للتفاعل وخلق الحوار والتغيير إنما عزل عن الواقع من خلال الحياة في قفص التخصص.
تأسست دراستي الجامعية على عزل الرغبة والمتعة عن مجمل عملية التعليم، أجلس أمام الملازم بألوانها الباهتة، أحاول القراءة بلسان يثقله السأم وتركيز ينفرط كلما استجمعته، أقرأ كلمات أنساها بعدما أنتهي من كل فقرة، ثم أعود لقراءتها مجددًا حتى ألصقها في يافوخي مؤقتًا. قراءة لا تؤسس لمعنى إنما توسع هوة الخواء داخلي.
تناقضت هذه العملية بأكملها مع ساعات قراءتي الخاصة (تعليمي الحر)، لدرجة تيقنت معها أن الهدف من الجامعة هو تقويض كل إمكاناتي للتعلم والمعرفة، تثبيط رغباتي وعزلها بعيدًا، تشذيب مخالبي وترويضي لسوق العمل فقط. تفترض المناهج الجامعية التي درستها توافقًا مبدئيًا مع العالم، تواطؤًا مشتركًا من الجميع مع مجموعة من الحقائق والبديهيات الثابتة، الواقع جاهز ومستقر هناك وكل ما علينا فهمه هو كيفية التعامل معه، لكن مع القراءة رغبت في تمحيص كل هذه البديهيات والأفكار الجاهزة، رفضت التواطؤ، رغبت في القراءة عن عالم يمكن تغييره، بل ابتكاره وخلقه من جديد. أردت القراءة عن المستحيل: ما لا يمكن نطقه أو رؤيته بسهولة.
آمنت أن العالم لم يحسم أمره بعد، طالما توجد قراءة تحدث خارج الجامعة.
تذكرت أيامًا كنت أجلس فيها للدراسة قبل الامتحانات، وبجانبي كتاب "ذكريات من منزل الأموات" لدوستويفسكي، أغمس وجهي بين كلماته في فترات الراحة من المذاكرة، أتنفس من خلاله جيدًا قبل الغوص في البالوعة العمومية مرة أخرى.
لعبت القراءة بالنسبة لي أدوارًا متعددة، لكن كل فترة من حياتي كانت تلعب القراءة دور الـ"ضد" بشكل رئيسي: ضد العائلة، ضد الأب، ضد المناهج الدراسية البائسة، ضد الرأسمالية، ضد الاستهلاك، ضد الذكورية.
يجب على القراءة أن تحمل روح المقاومة داخلها، حرب متواصلة ضد شيء خاص أو عام. طلقة نارية في خصية مؤسسة أو تقاليد بالية أو شعار أجوف.
لا أطمح من خلال القراءة إلى المتعة فقط، التحلي بقدر من الالتزام والجدية ضروريين لتتحول القراءة إلى فعل مركب، أكثر تعقيدًا من المتعة، تكون المتعة الذاتية عنصرًا أساسيًّا فيه، لكنها لا تجذب القراءة تمامًا إلى مركزها وتحولها إلى شيء شخصي، منغلق على ذاته، لا يرى إلا انعكاساتها في مرايا داخلية.
على القراءة أن تذهب إلى نقطة أبعد من ذاتك ومتعتها دائمًا، تنطلق منهما بالتأكيد، لكن لا تتوقف عندهما وتختزل إليهما. ليست القراءة استمناء ينتظر لحظة التحقق النهائية في القذف، بل رغبة تتجدد باستمرار وتتشعب مثل شبكة بلا توقف. رغبة تنتظر لقاء ولحظة مناسبة للتحول والتشكل من جديد، للدخول في أطوار مجهولة دائمًا.
أؤمن بالقراءة كصيرورة تحول لا تتوقف، خروج دائم من طبقتك وذاتك لتتحول إلى "آخر".
***
بعد التخرج في الجامعة وبداية العمل، لعبت القراءة دورًا رئيسيًّا آخر في حياتي، لا يخلو من روح الـ"ضد" بالطبع.
توجد حقائق تسري في جسد حياتنا لا نراها بسهولة، تنمو وتتشكل ببطء نتيجة تضافر مجموعة من العوامل والظروف، فقط نحتاج إلى الوقت والمجهود والتجارب والخبرات والمصادفات للتعرف عليها وفهمها جيدًا، ومن ثَم يمكننا تغييرها وقلبها وتدميرها أو الاقتناع التام برجاحتها. ليست حقائق أزلية، تسقط علينا من السماء، بل تبتكر وتخلق خلقًا، لكن يفصلنا عنها نوع من ضباب رقيق، يحتاج إلى الوقت ليزول، كي تتضح الرؤية.
إحدى تلك الحقائق، أن القراءة بالنسبة لي، عملية تأسيس متواصلة للمعنى، بناء دائم لمعمار لا يتوقف على الانهيار والتخلل كلما شيدت دورًا جديدًا، دونها تصبح حياتي عدمًا وخواءً لا يحتمل. غثيان من الوجود بأكمله.
بمرور الوقت أدركت أن معظم الأزمات والكوارث وفترات الحزن العميق والفشل لم أستطع التعافي من تأثيرها دون القراءة، التمزق الذي يحدث في نسيج وجودي وحياتي لم أستطع ترميمه دون ساعات قراءة متواصلة، أشعر معها كأن أشلاء ذهني وجسدي المبعثرة في أنحاء الغرفة تتجمع ببطء لتعيد إحياء وجودي مرة أخرى. أنغمس في القراءة، محاولًا فهم واقعي الشخصي في الكتب، أعود إلى الكلمات كمحطة للبداية من جديد. أبحث عن "لقاء" يجعلني أجد مخرجًا أو إجابة مبتورة أو مجرد شعور مشوش، لكن بالطبع أقل تشوشًا مما أشعر به. لا أنتظر اللقاء ليحدث بالمصادفة أحيانًا، بل أنبش جدار الكلمات حتى أجد نفسي هناك.
لا تكفي العزلة للتعافي، أحتاج إلى تجاوز واقعي بأكمله والذهاب إلى جزيرة نائية، مكان مفقود لا أمتلك التصور عنه حتى، لكنني أشعر بالانتماء إليه. لا تعني الجزيرة النائية هنا فقدان الاتصال مع العالم، لكن مع القراءة نخلق جسورًا جديدة، أكثر متانة وتماسكًا، للعبور مرة أخرى إليه، بدلًا من طرقنا المعتادة.
يفقد اليوم ثقل وجوده إذا كان خاليًا من القراءة، يصبح شفافًا، لا أستطيع تشكيل علاقة معه، أتخيلني بعيدًا عن حياتي في تلك الأيام، كأن وجودي أقرب إلى تجريد لا يتحقق. بالقراءة أصبح لحمًا ودمًا مرة أخرى. أصبح حقيقة.
يبدو المعنى هشًا للغاية. كوب سقط على الأرض وأصابه شرخ خفي، تتساقط من خلاله قطرات الماء على حجرك. يحتاج المعنى لعمليات ترميم وتأسيس لا تتوقف إلا بموتك، وفي ذلك ما يدعو لليأس والأمل الدائم في نفس الوقت.
بعد انتهاء العمل، أشعر بحالة ضياع تامة. ذهني منهك، أعصابي مشدودة مع رعشة بسيطة في اليدين وجفني العينين، عيناي جافتان مثل حجر من التحديق في شاشة اللاب توب لمدة 8 ساعات، خواء في الداخل وفراغ في الذهن. يتركني العمل في حالة هشاشة وقلق. سرعان ما أتعافى نسبيًّا من التعب الجسدي بالنوم المتقطع لمدة ساعة أو الاسترخاء مغمضًا عينيَّ، لكن يظل الذهن في حالة تمزق وتهتك، هنا تأتي القراءة، عملية الترميم والإصلاح الليلية.
يبدو العمل بالنسبة لي تشتيتًا للذهن، ضجيجًا يهز بناء المعنى، الجسد مستريح في كرسيه أمام المكتب والذهن ممزق يسارع تدفق المعلومات والـ"تاسكات" على شاشة اللابتوب. توتر سائل على مدار ساعات محددة، عزلة بين الذهن والجسد. العمل، قلق منظم ومدفوع الأجر.
مع نهاية يوم عمل مرهق، يبدو العقل كأنه على حافة جنون محتمل، وبالقراءة الليلية يمكنني التراجع خطوات إلى الوراء وترميم بناء المعنى، الخروج بعيدًا إلى عرض البحر، حتى يلفح وجهي نسمات الهواء الباردة من المجهول.
الخروج إلى عرض البحر مغامرة، وضجيج العمل أمان مؤقت.
هنا تعود القراءة للعب دور الضد مرة أخرى: ضد سيطرة العمل على ذهني وأفكاري، ضد تشتيت العمل وضجيجه وتقويضه لبنيان المعنى.
ضد الأمان المزيف.
"أنقذ نفسي بالنثر" قرأت عبارة سالفتوره بقلم زيبالد، مرة أخرى، بعدما فتحت عيني ولبست النظارة. هنا حدث اللقاء وتكثف المعنى، حدث الكشف والتعرية.
المقال خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
One Reply to “الخروج إلى عرض البحر”