ترى أندرسون بأن سيبرت انتهج نفس طرق البحث الأنثروبولوجي للقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بتجريد الأفراد الأصليين كمادة علمية للدراسة، وبدون مساعدتهم إطلاقًا.
كيف تمكَّنَ عالم لغويات من إتقان لسان سكان أمريكا الأصليين؟
مقال أليس جريجوري
ترجمة: رحمة راضي
نُشر في النيويوركر، أبريل 2021
عندما قابلت كارول دانا للمرة الأولى في ربيع عام 2018، شاركتني رغبتها في اقتناء ببغاء، دانا، فرد من قبيلة البينوبسكوت، وهي قبيلة أمريكية أصلية من الخمسمائة وأربعة وسبعين قبيلة التي تعترف بها الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة، كنا نحضر حفلًا صغيرًا مقامًا في متحف الأنثروبولوجيا بجامعة مين[1]، حين أطلت دانا بشعرها الفضي مرفوعًا عن وجهها، وقدمت لي نفسها على أنها المُجيدة للغة في قبيلتها، الوصف الذي لم تبد مرتاحة معه تمامًا. فلم يبد التعبير عن الإتقان تعبيرًا دقيقًا عن علاقتها المشحونة باللغة، ربما ما امتازت به دانا عن أي شخص آخر، هو استيعابها وشموليتها للغة. في الجزيرة الهندية، حيث يعيش ستمائة من أفراد قبيلة البينوبسكوت الذين يقدر عددهم بنحو 2400 فردًا. اعترفت لي بأنها وحيدة لغويًا، قالت: «لقد تحدثت مع نفسي بالبينوبسكوت لسنوات»، وبرغم معرفتها أن طائرًا لن يتفاعل معها أبدًا في محادثة، إلا أنها فكرت أن مجرد سماعها لكلمات البينوبسكوت منطوقة من كائن حي آخر لهو أفضل من لا شيء.
لم تتعلم دانا، صاحبة الثمانية وستين عامًا، أغلب ما عرفته عن لغتها من كبار قبيلتها، بل من فرانك سيبرت، عالم اللغويات العصامي الذي عيّنها في عام 1982، كمساعدة باحث. كان في السبعين من عمره، بينما كانت دانا في الثلاثين. نشأ سيبرت في فيلادلفيا، وكان شغوفًا بالأمريكيين الأصليين منذ طفولته ـ حتى أنه كان ينام والتوماهوك[2] لعبته في سريره . عمل سيبرت ودانا وبعض المساعدين الآخرين بمكتب متواضع في الجزيرة الهندية، التي تمتد بعرض ميل في نهر البينوبسكوت على هيئة تشبه البصل العسقلاني. دانا، من تربت هناك، حُرمت في طفولتها من العبور للبر الرئيسي، حيث قضت فترتها المدرسية تقطف التوت وأزهار مايو، وتبني الأكواخ، وتلتقط التفاح بالعصيان ملقية بهم كرماح، في الصيف، تسبح وأصحابها في النهر، في الخريف، يصارعون الأوراق. استقر سيبرت في مين قبل خمسة عشر عامًا من لحاق دانا به كمساعدة، لم يمتلك مثلها، الذكريات. لكنهما معًا تمتما وكتبا بلغة لم يتحدثها سوى القليل من الناس.
سمعتُ للمرة الأولى عن فرانك سيبرت من جين أندرسون، قبل عام من مقابلتي دانا، وكنت مشغولة وقتها بطرق نقل المعارف الأصلية، المورثة عبر أجيال عدة والمختارة جماعيًا، وغير الخاضعة بشكل أساسي لقانون الملكية الفكرية الغربي. أندرسون، الأسترالية، باحثة القانون بجامعة نيويورك، تعمل وسط مجتمعات السكان الأصليين حول العالم لأجل حل نزاعات حقوق ملكية الأفكار القديمة. وكنت قد أتيت لها بأسئلة حول نشاط حركة في جواتيمالا لوضع علامة تجارية على تصاميم النسيج التقليدية، ولكن في غضون ساعة، عزمت النية على تغيير وجهتي إلى مين بدلًا من أمريكا الوسطى، التي-كما أخبرتني- كانت موطنًا لدولة مستقلة، امتلك لغتها نظريًا رجل أبيض، مات وقد ابتكر طريقة لكتابتها.
ووفقًا لتعريف سيبرت، فالبينوبسكوت هو تحوير لمصطلح الباناواسكك، والذي يعني «الجزء الصخري». لأكثر من ثلاثمائة جيل، عاشت القبيلة - التي ضمت يومًا خمسين ألف فردًا - تصطاد على ضفاف نهر بينوبسكوت، وتجتاز مياهه، وتتحدث واحدة من لغات الألجيك العديدة على طول الساحل الشمالي للأطلسي- الرقعة التي تمتد اليوم من نوفا سكوشا إلى كارولاينا الشمالية.
بدأ سيبرت دراسة البينوبسكوت في الثلاثينيات، أي بعد أربعمائة عام من دخول المستكشفين الأوروبيين، وفي حلول ذلك الوقت، كانت مقاطعة البينوبسكوت- التي شملت من قبل نصف مين- مجرد مساحة تضم الجزيرة الهندية، والتي يمكن قطعها في أقل من ساعة سيرًا على الأقدام، مع بعض الجزر الأصغر حجمًا على طول النهر. ندرت لغة القبيلة في الاستعمال، مع بدايات عام 1880 أرسل أطفال البينوبسكوت لمدارس داخلية حكومية، وهناك أجبرهم المعلمون على التحدث بالإنجليزية فقط، «في أي مكان آخر بالعالم، يُرى أنك أكثر براعة إذا كنت تتحدث لغتين باستثنائنا ، لسبب ما» قالت دانا. كانت الإستراتيجية- التي انتشرت في أنحاء البلاد- فعالة، ففي الولايات المتحدة كان يُتحدث بأكثر من ثلاثمائة لغة أصلية، اليوم يقلق اللغويون بأنه في غضون ثلاثين عامًا لن يتبقى سوى عشرون، وبحلول منتصف القرن العشرين، كان في الجزيرة الهندية أقل من ثلاثين متحدثًا بالبينوبسكوت، معظمهم من كبار السن. الذين تُقابل جهودهم بالتذمر عندما يحاولون تعليم البينوبسكوت للأفراد الأصغر من القبيلة بسبب أنها لم تعد مستعملة.
لكن دانا أحبت الاستماع إلى جدتها تتحدث لغة أجدادها، لا تميز البينوبسكوت كباقي لهجات نيو إنجيلاند الأصلية بين بعض الصوامت المعروفة مثل صوتي الباء، والفرق بين الـ «ز» و«س». يتعارض وقع البينوبسكوت اللحني اللطيف والمألوف، والذي أقرب للغناء، مع بنية اللغة البصرية والحركية. يمكن للمفردة التعبير عن فكرة كاملة، فالقارب هو «ما يتدفق بخفة على الماء»، القندس هو «حمّال متجول»، الغداء هو «طعام الظهيرة»، الزبد هو «دسم اللبن»، الوردة هي «ما يتفتح في ضوء النهار»، وصفت دانا مفردات البينوبسكوت بأنها «صور شعرية مصغرة»، تبدو جدتها رواقية وآلية عندما تتحدث بالإنجليزية على عكس ما تتحول إليه عندما تضحك وتمزح وتتحدث مع أصدقائها من السكان الأصليين، «وهكذا حول طاولة المطبخ، تُنقل اللغة» قالت دانا.
قدمت دانا في عام 1979 للمرة الأولى على وظيفة لتنضم لفريق سيبرت، وأخبرتني أنها أحبطت عندما منح سيبرت الوظيفة ليس لها ولا أي فرد من أفراد البينوبسكوت بل للمرأة ذات الخصلات الحمراء من كونيتيكت، لكنه بعد عامين عيّن دانا أيضًا، حيث غرقت في أكوام من المواد-ونصوص المقابلات التي أجراها مع كبار السن في بيوتهم، وبطاقات مليئة بالكلمات الموضوعة وفقًا لقواعده الإملائية، مشكلة بعلامات أكاديمية غير مألوفة.
تطورت دانا بفضل ما تعلمته، لا يوجد في البينوبسكوت مفردة لـ «وداعًا» غير الأكثر تفاؤلًا منها «إلى اللقاء». غالبًا ما يكون لأفعال الحركة بادئات. لا تمشي الناس أو تقفز فقط، بل تمشي من هنا إلى هناك، أو تقفز عبر أو خارج أو فوق.
تنقل اللغة، من خلال تركيبها النحوي والصرفي، ارتباط المتكلم بالحدث الذي يخبره، هل شهده؟ أم أنه ينقله فقط بشكل غير مباشر؟ هل هي إشاعة؟ كل هذا مدمج في اللغة بشكل يوضح موقع المتكلم من الحدث. عندما سألتُ دانا إذا كانت تشعر بالاستياء أو الحرج لأنها تعلمت لغتها من رجل أبيض، ضحكت قائلة «بلى، بالطبع» وأكملت «لكن لم أشعر بأنني كنت أتعلم ذلك منه». كانت تتعلم لغة أجدادها لا لغة سيبرت.
لم يوجد جسر للعبور إلى الجزيرة الهندية وقتما قدم سيبرت لأول مرة وهو طالب عشريني، تكلف العبّارة، وهي قارب شراعي مسطح، عشر سنتات للرحلة ذهابًا وعودة، كان شهر أغسطس عندما استأجر سيبرت قاربًا لعبور النهر الذي كان منخفض المنسوب وقتها. سأل أين يمكنه إيجاد من يوافق تحدث البينوبسكوت معه. دله سائق العبّارة على رجل ستيني ورع يسمي لويس لولار مشيرًا إلى مسار يصل إلى الغابة محاط بأزهار العسل. قدم سيبرت نفسه ودعاه لويس للدخول، كان بيته بسيطًا، لم تصله مواسير المياه كبقية بيوت الجزيرة.
جلسا أمام المدفأة، ومارس سيبرت البينوبسكوت إلى أن غابت الشمس، ربما يشبه الأمر حصة كورال لمتحدث إنجليزية.
عانى سيبرت من قصر النظر، وكان طوله ستة أقدام ونصف، اعتقده الجميع ألمانيًا، وفي تقرير السنة لمرحلته الثانوية عُلق بأنه «غير مهتم، بل مزدري تمامًا (على حسب ما شهدنا) لجنس النساء». وفي عمر الخامسة عشر، كان سيبرت قد قرأ كل ما يتعلق بالأمريكيين الأصليين، وبدأ في تكوين مكتبته الخاصة، ضجرًا من محدودية المكتبة المحلية.
كانت أولى صفقاته، في عام 1928، هي إعادة طبع لكتاب مسيحي من القرن السابع مكتوب بلغة وامبانواج، وهي لغة مرتبطة بالبينوبسكوت، وقد كلفه خمسة وعشرين سنتًا. كان والد سيبرت مفتشًا للقطارات؛ ووالدته مستثمرة بارعة في الأسهم. وقد أرادوه أن يصبح طبيبًا، وبالفعل، التحق بكلية الطب بجامعة بنسلفانيا، عندما بدأت حياته المزدوجة.
اجتاز سيبرت الدورات المقررة في الكيمياء الحيوية وعلم المناعة، لكنه أمضى أوقات فراغه يتعلم لغات أمريكا الشمالية الأصلية. قام برحلات منتظمة إلى الساحل الشرقي للحاق بمحاضرات في كولومبيا، مع فرانز بواس، الذي يعتبره الكثيرون رائد الأنثروبولوجيا الحديثة، وفي جامعة ييل مع إدوارد سابير، مؤسس علم اللغة الإثنية. اهتم فرانك سبيك، عالم الأنثروبولوجيا المتخصص في شعوب ألجونكويان وإيروكويان، في جامعة بنسلفانيا، بشغف سيبرت الخاص بالبينوبسكوت.
أمضى سبيك ساعات العمل محاطًا بالكتب في كنيسة على الطراز القوطي الجديد مليئة بالثعابين والسحالي الحية، وكان معروفًا بهوسه بإطلاق السهام من قوس ونشاب على الباب. زار سبيك الجزيرة الهندية في عام 1907، وجمع قصص البينوبسكوت من نيويل ليون، الذي كان في السبعينيات من عمره. (و كان يطلق اللغويون في ذلك الوقت، على هؤلاء المتعاونين الأصليين اسم «المخبرين»، كما لو كان اعترافًا بأن عملهم ينطوي على نوع من الخيانة).
أرّخت القصص مآثر جلوسكابي، الصياد الشاماني والمخادع الذي تعلمه جدته، الحطابة، كيف ينجو في البرية بإتقان الفراسة، تناقلت حكايات جلوسكابي في المجتمع مثل الإرث. أحيانًا، تأخذ إحدى العائلات سردًا معينًا في رعايتها، ربما في سبيل الحفاظ عليها، ويتعين على أي عائلة أخرى طلب الإذن لنقل الحكاية. في عام 1918، نشر سبيك القصص في مجلة أكاديمية، بعد أحد عشر عامًا من رحلته الأولى إلى الجزيرة الهندية.
في مكتب سبيك، حفظ سيبرت مفردات البينوبسكوت بينما كان يراقب ثعلبًا أبيض مختبئًا خلف مبرد مسرب ليتعلم قواعدها وليخطو محاولاته الأولى في التهجئة. تأمل سيبرت تدوينات سبيك لقصص جلوسكابي المنقولة عن ليون، وعلّم هوامشها بالحبر الأخضر والأحمر. كانت اللغة ضعيفة تعاني مثلما عانى المرضى الذي تعلم سيبرت كيفية علاجهم. في رسالة أرسلها في ذلك الوقت، وصف البينوبسكوت بأنها «شبه ميتة من جميع النواحي».
انضم سيبرت إلى الرابطة اللغوية الأمريكية. جَمَع القصص ووازن بين قوائم الكلمات المنقولة من مجتمعات الأمريكيين الأصليين في أونتاريو وماساتشوستس وويسكونسن ولونج آيلاند، وقد كان بعضهم على وشك الاختفاء. كتب للمجلات اللغوية المُحَكِّمة والمراجعة للأدبيات، وحاضر في المؤتمرات، وعمل ميدانيًا في فصل الصيف. باع دمه، في إحدى التدريبات الطبية، من أجل شراء طبعة نادرة من دليل للغة الأصلية يرجع للقرن الثامن عشر. ومع كل ذلك، ظل اهتمامه باللغة مجرد هواية. في عام 1956، تزوج ماريون باترسون، مساعدة إدارية في مستشفى بيتسبرج التى تولى العمل فيها. نشأت ماريون، التي كانت تصغره بعقد من الزمن، خلال فترة الكساد. كان شهر عسلهما، الذي خطط له، عبارة عن جولة بالسيارة لساحات قتال الحرب الأهلية. انتقلا في العام التالي إلى فيرمونت، حيث عمل سيبرت كفاحص ومختص في علم الأمراض. أنجبا في عام 1958 ابنتهما الأولى، كاثي، والثانية، ستيفاني، في عام 1961.
أخبرتني الابنتان بأن زواج والديهما كان مضطربًا. لم يفسر أي منهما موقف والدهما، لكنهما، كبقية من حاورتهم، وصفا سلوكه الغريب بما يجعله أقرب لكونه انهيارًا عصبيًا. أثناء حياتهما في فيرمونت، تحول سيبرت لشحيح هائج، فكان يأكل من القمامة ويمنع ماريون من شراء لبن الأطفال. وبينما كانت ماريون ترضع وتطبخ وتنظف، غرق سيبرت في أفكاره، مدويًا طوال الوقت بصمود كاستر الأخير[3]. انتهيا بمشادات واشتباكات جسدية. أخبر سيبرت بائع كتب ذات مرة بأنه حاول إلقاء ماريون من سيارة متحركة وأنها، بدورها، قطعت فرامل السيارة.
انفصل الزوجان في عام 1964، وغادر سيبرت فيرمونت في ذلك الخريف دون أن يخبر أحدًا بوجهته. عاش لبعض الوقت، بغرفة في إحدى فنادق فيلادلفيا، عادت ماريون والفتيات إلى بيتسبرج ليعشن مع أسرتها. لم يدفع سيبرت نفقة ولم يعل أطفاله مطلقًا. أرادت ماريون، التي استمرت في ارتداء خاتم زواجها والاحتفاظ بصورته المؤطرة ومجهره على رف الكتب، أن توظف محققًا لتعقبه، لكنها لم تكن لتتحمل تكاليف ذلك. بلا أدنى فكرة عن انتقال زوجها إلى ولاية مين.
اشترى سيبرت بيتًا أرضيًا على الجانب الآخر من النهر للجزيرة الهندية، يتطلب حماية لغة بالكاد تُنطق تصرفًا مبتكرًا، ، لم يبق إلا القليل على قيد الحياة من بين العشرين متقنًا للبينوبسكوت الذين قابلهم سيبرت منذ عقود مضت، منهم أندرو دانا، الذي تعلم البينوبسكوت طفلًا عندما كان يسهر بعد ميعاد نومه ويستمع إلى جده، الحكاء الشهير. (كانت عائلته قريبة لعائلة كارول دانا، لكنها تعتقد أنهما غير مرتبطين). بحلول عام 1968، كان أندرو مريضًا في السبعينات من عمره، يدون سيبرت حديثه. وقد امتلأت دفاتره بتصحيحات العجوز - الأصوات التي لم يلتقطها سيبرت، والكلمات التي أخطأها.
زود سيبرت، الذي هجر تخصصه الطبي عندما انتقل إلى ولاية مين، نفسه بالتمويلات والمنح الخاصة والفيدرالية، ليتمكن من توظيف فريق صغير من المساعدين. في عام 1980، وهبته المنحة القومية للعلوم الإنسانية مبلغًا كبيرًا لوضع قاموس للبينوبسكوت الذي يهدف لـ «تزويد العلماء» - وليس المتحدثين - «بفهم أفضل للغة والثقافة».
وصف إيفيس جودارد، مسؤول قسم الأنثروبولوجيا في معهد سميثسونيا في هذا الوقت، سيبرت بأنه «اللغوي الأكثر ذكاءً وكفاءة ومهنية من بين الجميع في العمل على لغات أمريكا الأصلية». لكن سيبرت عُرف بانغلاقه، متجولًا بقمصانه الملطخة وبدله الفاقعةـ مهووسًا بحسابه البنكي ومقتاتًا على عبوات التونة والحبوب. وكانت أوراقه من هذه الفترة عبارة عن صفحات طويلة، بخط غير مقروء، من النقد الحاد المتعنت. انصب تركيزه على أمور، مثل وكالة المخابرات المركزية، وشركة تأمين الودائع الفيدرالية، ونظرية كينزي في الاقتصاد، والمكتبات، والبرازيل، وجامعي الكتب الهواة، والأفارقة الأمريكان، وعلى القرن العشرين في حد ذاته. وقد هزئ من دانيال بون[4] على نطقه الضعيف «كطفل في الرابعة»، ومن فرانكلين روزفلت[5] الذي أشار إليه بـ «صاحب السيقان المرتعشة».
أمضى سيبرت الكثير من وقته متجولًا في قرافة قريبة، وأبدًا بدون رفقة. يقدم له جاره – والذي يشاركه سيبرت صحفه كي يوفر ثمن الاشتراك – العشاء أحيانًا والذي نادرًا ما يعجب سيبرت ولا يخجل من الاعتراف بذلك، لم يغادر سيبرت مين إلا لشراء الكتب النادرة وجرد المكتبات. اعتقد كلارنس وولف، بائع كتب في فيلادلفيا، سيبرت مشردًا عندما رآه للمرة الأولى. في عالم جمع الكتب الأثرية المحدود، عُرف سيبرت بالرجل الهندي. لاحظ عالم الأنثروبولوجيا اللغوية الذي التقى بسيبرت في السبعينيات أنه على الرغم من توسعية مراجعه، إلا أنه كان «عالمًا لا يثق في أي باحث، وبالتالي في النتاجات العلمية». يرى سيبرت أن زملائه المنتسبين للجامعة كانوا في حالة ازدراء لمجالات خبراتهم المفترضة؛ نتيجة لذلك، لم يكن يرضى إلا بالتعلم من المصادر الأولية.
وصفت كارول دانا سيبرت بسخرية على أنه «شخص مختلف». كادت حدته تدفعها لأكثر من مرة على ترك العمل. حكت عن يوم تتبعها سيبرت فيه بعد ميعاد المكتب معترضًا باب سيارتها ليوبخها على شيء يخص التراكيب النحوية. ومرة في البقالة لاحظت ابنتها سيبرت يسير بعربة في الممر ثم سألها عما لو كان يجب أن يختبئوا. استمرت دانا في العمل لدى سيبرت لخمس سنوات، ربما بفضل بولينا ماكدوجال، المساعدة ذات الشعر الأحمر من ولاية كونيتيكت، والتي أصبحت شبه مسؤولة، وكثيرًا ما توبخ سيبرت على وقاحته.
ذكرت دانا أنه، وليس بعد وقت طويل من التحاقها بالعمل، أحضر أحدهم نسخة من حكايات جلوسكابي التي حكاها ليون لسبيك منذ عقود. اندمجت دانا مع الحكايات وتسلسلها الساخر، والطريقة التي ترتبط بها الشخصيات الغريبة مع بعضها البعض كالأهل، تمامًا كما كان عليه جيرانها في الجزيرة الهندية. أحبت في الحكايات كيف أنها تحتفي بالتفاوض والتسوية، وتنبذ العنف، والخداع والنصب. شاركت دانا تلك القصص مع أصحابها، الذين بدورهم شاركوها مع أصحابهم، وآمنت أنه بانتشار هذه القصص تتصل بقومها من جديد. وأخيرًا، طُبعت نسخة صغيرة منها في الجزيرة، بسلك حلزوني وغلاف أحمر، بدا أن سيبرت لم يلاحظ ذلك.
تقول دانا، بينما نحن -مساعدو سيبرت- نراجع ملاحظاته الميدانية وتصريفات الأفعال ونفهرسها في بطاقات تبعًا لأصولها، مع إلحاق أمثلة لكل معانيها المختلفة، يكون هو في غرفة أخرى يراجع أسهمه في البنك. درست دانا أوراقه وحفظت المفردات وتركيبات الجمل. شغف سيبرت في أن يعبر قاموسه للبينوبسكوت عن إيمانه الشديد بها كلغة مُتحدثة. اعترفت دانا لي بأنها ما زالت تنطق اللغة وفقًا لطريقة سيبرت، قالت بأنها سمعت مؤخرًا رجلًا في مثل عمرها ينطق الحرف الثاني من كلمة «عكاز» برتم أسرع مما اعتادت عليه، وهي الآن تحاول أن تتدرب على ذلك. قالت «كان فرانك شغوفًا بالبينوبسكوت، ولديه رؤيته الخاصة لها، فلم يكن مقتنعًا بأن أهل اللغة الواحدة يتكلمونها بطرق مختلفة». ذكرت دانا بأنه في إحدى المرات صحح سيبرت نطق متكلم يكبره في العمر أمام جمهور من الحاضرين. لم يغفر الكثيرين لسيبرت أسلوبه. فقد حرموا لعقود من التكلم بالبينوبسكوت على الإطلاق، والآن يتدخل غريب ليعلمهم كيف يتكلمونها كما يصح.
في عام 1984، أتمت دانا عامين من العمل مع سيبرت عندما أنهى مسودة قاموسه، الذي امتد في ألف ومائتين وخمسة وثلاثين صفحة، بتقديم تسع وأربعين صفحة. وعدد خمسة عشر ألف بابًا تقريبًا، جُمعوا على مدى نصف قرن وبالترتيب الأبجدي الذي وضعه سيبرت بنفسه. الذي يعتبره اللغويون الألجونكيون[6] تحفة فنية. أخبرتني دانا: «بدون هذا القاموس، لم نكن لنحظى بشيء».
ومع ذلك، ظل المشروع ناقصًا، فقد رُتبت أبجدية القاموس لجمهور متخيل من المتقنين، الذين بالكاد وجدوا عندما عمل سيبرت عليه، ولم يتبق منهم أحد الآن. «ليس سلسًا التعامل مع القاموس»، تقول دانا «مثلًا لو أردت البحث عن مفردة (نجم الصباح)، كيف يمكنك ذلك إن لم تعرفها بالبينوبسكوت؟» لا يوجد بالقاموس قسم من الإنجليزية إلى البينوبسكوت، وهذا بالطبع ما جعله وسيلة غير كافية للولوج في اللغة، كانت دانا من القلائل الذين يمكنهم استعماله، وهذا بالطبع لأنها امتلكت الأدوات لذلك.
وبحلول منتصف التسعينيات، مات كل متقني اللغة، بمن فيهم مادلين شاي، معلم اللغة القدير في الجزيرة. عندها أعلنت الجرائد اندثار اللغة رسميًا. وفي صيف عام 1995، أتى إلى المنطقة لمساعدة سيبرت في عمله أحد المتخرجين حديثًا من المدرسة الثانوية، يدعى كونور كوين. اكتشف كوين مؤخرًا، وهو لغوي طموح، كتابًا مدرسيًا أيرلنديًا على رف كتب والدته وتعلم بنفسه لغة أسلافه. من خلال العمل مع سيبرت في طابقه الصغير، شرع في تدقيق النسخ الأولى من قصص جلوسكابي وغيرها من الروايات، مسترشدًا بالملاحظات الميدانية المكتوبة بخط سيبرت. في الأوقات التي لا يكونون يناقشون فيها لغويات ألجونكويان، يحكي سيبرت نوادره المثيرة وقت عمله السابق كطبيب. ( يتذكر كوين وصفه لرئتين مصابتين بعدوى داخلية بأنهما كحساء البازلاء المفتت). يعقب كوين: «يضيق فرانك ذرعًا بكل من يعجز عن التعامل مع ثوابته أو يرفضها»، كما أخبرني بأن أهالي البينوبسكوت «كثيرًا ما يرتابون من سيبرت». يبدو أن بعض أفراد القبيلة يرون بأن سيبرت «لم يقدر كفاية إتقانهم للغة»، تابع كوين. «لقد قال لي حرفيًا ذات يوم بإيمانه بوجود بينوبسكوت قياسية». وأتذكر أنني فكرت: «آه ، لا أعتقد ذلك. كيف يمكن أن يكون هناك؟ لقد تعلمها الجميع من عائلاتهم وأصدقائهم».
أدرك كوين، الذي يُحاضر الآن في إحدى جامعات جنوب مين، بأن ما وضعه سيبرت يعرقل أي متحمس لتعلم اللغة، «وهو ما مثل إحباطًا هائلًا للجميع» أضاف كوين. «لماذا أتى لنا هذا الأبيض بأبجدية معقدة كهذه؟ إنه لأمر مخيب. حسنًا، إنها اللغة التي تحدثتها جدتي لكنني الآن يفترض أن أتعلم كل هذه القواعد أولًا؟»
التقى دارين رانكو، عالم الأنثروبولوجيا ورئيس برنامج الأمريكيين الأصليين في جامعة مين، بسيبرت مرة في بداية التسعينيات، وأخبرني دهشته عن كيف أن سيبرت يرفض أي شكل من أشكال المواكبة، يلبس بخلاف حالة الطقس، ويتصرف عمومًا كما لو أنه من عصر آخر. «يدرس أمورًا ميتة، لطالما كانت طريقته في كل شيء» يقول رانكو، مشيرًا لمجال تخصصه الأول، وما فيه من تشريح للجثث.
أخبرني كوين عن الجدل القائم اليوم حول استخدام مصطلحات الموت لوصف حالة اللغات الأصلية. قال: (ميتة) و(تحتضر) و(مهددة) و(منقرضة) كلها مصطلحات تجعل الأمر يبدو وكأنه عملية طبيعية، وهذا ليس حقيقًا».
«أعتقد أنه إذا كنت ستختار استعارة الموت، يجب أن تتحدث عن القتل والاغتيال». وصف برنارد بيرلي، عضو توبيك فيرست نيشن، في نيو برونزويك، ومدير معهد الدراسات النقدية للسكان الأصليين بجامعة كولومبيا البريطانية، بأن منهجيات مثل منهج سيبرت هي كـ«عفريتة» من «ثلاجة اللغويات».
قال رانكو: «بالنسبة لمجتمعات مثل مجتمعي، تُحارَب لغتنا حرفيًا، ومن الطبيعي إحباطنا مرارًا وتكرارًا، فعندما يأتي شخص مثل سيبرت، ويحرص فقط على توثيق اللغة، وليس محاولة إعادة إحيائها - مع حسبان أن عشيرتي كانوا هم مصادره - فهذا يزعجني بالطبع، بعد ما منحته البينوبسكوت».
قبل وصول كوين للجزيرة بعامين، كان سيبرت قد أصيب بسرطان المثانة، تواصل زوجان أجنبيان من مساعديه مع ابنتيه، كاثي وستيفاني، اللتين كانتا في الثلاثينيات من عمريهما وقتذاك، ترعيان أطفالهما مع بعض الصعوبات المادية، وكانت ماريون في السبعين من عمرها، لم تره أي منهن لعقود.
بعد سماح والدتهما، سافرت كاثي وستيفاني لبانجور لزيارة سيبرت، كانت الرحلة غير مريحة نفسيًا بالنسبة لستيفاني، ووصفت والدها بأنه «يصعب الحديث معه، ربما لأنه تنسك طيلة حياته»، استضاف سيبرت ابنتيه في فندق قريب، احتد مع النادلة أثناء غدائهما مرة، وتجول بهما بسيارته البونتياك الصدئة، قالت كاثي «أنها بالكاد تتحرك»، صُدمت ستيفاني بطول والدها، وصوته الجهور، وملابسه المهملة، وخصوصًا إطارات نظارته التي بدت من الأربعينيات. وصفت كاثي والدها بالمزري والمتقوقع على ذاته، «مثل إبنزر سكروج[7]»، وذكرت أنها ترجته أن يحلق شعره. تعتقد ستيفاني بأنه ولا بد نادم على هجرهن، قالت لي: «إنه يتعذب».
وفي خلال السنوات الخمس القادمة، ترددت الابنتان مرات قليلة في زيارات قصيرة على والدهما، كانت رحلتهما الأخيرة في يناير من عام 1998، عندما احتجز سيبرت بدار رعاية في بانجور، وكانت قد تركت عاصفة مدمرة مين كصندوق مجوهرات مهشم، أرض مفروشة بساتان من ماس وزجاج محطم، الثلج يغطي الأشجار وأعمدة الكهرباء، المدارس مغلقة، والمشفيات مكدسة بحالات هبوط درجة الحرارة. تبرعت شركة إل إل بين بمعاطف وأطقم داخلية للمتطوعين خارج الولاية. لمدة أسبوع، عاش مئات الآلاف من الأشخاص في العتمة والبرد، وكان دار رعاية سيبرت يعمل على مولد احتياطي.
جهلت الأختان أي شيء فيما يخص مجال والدهما، وبمجرد نظرة استطلاعية بسيطة لمنزله أدركا أنهما بحاجة لمساعدة مهنيةـ كان قد أعطاهما بيانات بيلي بيشوب ليتواصلا معه، وهو بائع كتب أثرية في كامبريدج اقتنى منه سيبرت العديد من كتبه، طلبا منه لو باستطاعته أن يأتي ويلقي نظرة على ما تركه سيبرت في بيته. وافق بيشوب متحمسًا. كان يلح سيبرت عليه لسنوات حتى يأتي لمين ليفرز معه مجموعاته لكنه دائمًا ما اعتذر في اللحظة الأخيرة. والآن يأتي بيشوب ليرى ما الذي كدسه هذا المراوغ الهندي طيلة الستين سنة المنصرمة. كانت الكهرباء ما زالت منقطعة عندما وصل بيشوب، أتم عمله على مصباح الجاز بسترته العازلة، يفرز أكوامًا من المجلدات العتيقة، والرسائل القديمة، والمسودات المدونة. جمجمة بشرية تستقر على رف بالقبو. فواتير كتب سيبرت النادرة متناثرة في غرفة المعيشة. علق بيشوف بأنه «ربما لكانوا عديمي الفائدة لو أن فرانك جردهم بنظام أثناء تخزينهم». نقل بيشوب كل المواد لمنزله في ميدان هارفارد بموافقة من كاثي وستيفاني.
مات سيبرت في الثالث والعشرين من يناير عام 1998، وعمره خمسة وثمانون عامًا. أقيمت جنازته بعدها بثلاثة أيام في فيلادلفيا، والتي حضرها عشرات من بين عائلة سيبرت الكبيرة، وثلاثة أشخاص آخرين، الأسقف. كلارنس وولف، وبائع الكتب المقيم في فيلادلفيا والذي ظن سيبرت مشردًا أول مرة؛ ومسن آخر لم يتعرف عليه أحد، قال إنه يعرف سيبرت من أشبال الكشافة. استعاد وولف يوم وفاة سيبرت كما لو كان حكاية خرافية، «هاتان الشابتان بنشأتهما الصعبة.. حصلا على كمية هائلة من المال فجأة»، سكت بعدها وبدا لو أن هناك تكملة، ثم قال: «الأمر كله كان غريبًا».
بيعت مجموعة سيبرت بعدها بعام في مزاد أقيم على مرتين في سوذبيز، والتي تضمنت ما يزيد عن ألف ومائة مادة، من كتب ومخطوطات وخرائط ومطبوعات وجرائد وكتيبات وصور. قدم بيشوب في النسخة المباعة سيبرت بأنه «أعلم أمريكي في حقبته»، «والذي ربما تكون مكتبته آخر محطة ترصد وتتبع تكوين قارتنا». وصف سيلبي كيففر، النائب الأول للرئيس في قسم الكتب والمخطوطات في مزاد سوذبيز، المزاد بأنه «بارز»، قائلًا: «سيظل الناس يتحدثون عنه لخمسين عامًا من الآن». وأضاف بأن المجموعة «صعقت مجتمع جمع الكتب الأمريكي». عُقد المزاد على أكثر من 12.5 مليون دولار. كما نص عليه سيبرت في وصيته، تقاسمت ابنتاه المبلغ. اشترت كل واحدة منزلًا لها، وتشاركا معًا في شراء منزل لماريون. لم يخصص شيء لشعب البينوبسكوت.
منح سيبرت قاموسه ومواده العلمية للجمعية الفلسفية الأمريكية، وهي منظمة علمية غير ربحية أسسها بنجامين فرانكلين في عام 1743، والتي مقرها قصر حجري فخم في فيلادلفيا، على بعد تسع ساعات بالسيارة من الجزيرة الهندية. اشتمل المعهد الأمريكي الفيزيائي متحفًا ومكتبة تضم واحدة من أكبر المجموعات في البلاد لدراسة لغات السكان الأصليين. وضمت جزءًا كبيرًا من أرشيف فرانك سبيك، وكذلك مجلات كلًا من لويس وكلارك، وبعض مراسلات تشارلز داروين، ومواد من مكتب سجلات تحسين النسل. المواد الموجودة في مجموعة سيبرت، التي يمتلك المعهد الأمريكي الفيزيائي حقوق نشرها القانونية، تشغل 41 قدمًا طوليًا من مساحة الأرفف. قواعد الزيارة صارمة: يجب على الضيوف التسجيل مسبقًا وتحديد موعد وإحضار وثيقتين من وثائق الهوية؛ يمكن الوصول إلى مجموعة واحدة فقط من المخطوطات في كل مرة.
أُسس قانون الملكية الفكرية الأمريكي كحافز اقتصادي للمبدعين، بحيث يمنح امتيازات للأشخاص الذين يمكنهم الكتابة. فعندما نسخ سيبرت قواعد وقصص ومفردات لغة البينوبسكوت، امتلكها بذلك. وعندما توفى، منحها لأعضاء الجمعية الفلسفية الأمريكية.
بعد مرور حوالي عشرين عامًا على وفاة سيبرت، اجتمع فريق من داخل الجزيرة الهندية وخارجها على ما تركه من مواد. اعتمدت كارول دانا أثناء دراستها لموضوعي اندثار اللغات واكتساب اللغة الثانية، على قوائمه في مفردات اللغة. نظمت دانا الفعاليات والأنشطة بلغة البينوبسكوت أثناء اليوم الاجتماعي بالجزيرة، ودرست أسبوعيًا في مدارس المرحلة المتوسطة، حيث بدأ الطلاب يستأذنون للذهاب «للبيت الصغير» بالبينوبسكوت بدلًا من «المرحاض» بالإنجليزية. دربت دانا كذلك العديد من المدربين، وساعدت مسرح البينوبسكوت في إنتاج قصص جلوسكابي ببطولة محلية من أطفال الجزيرة. أحبت طريقة التدريس «بتضمين الأشياء - دباغة الجلود، وحياكة السلال، والنسج، وأي شيء يمكن استخدام اللغة فيه». وغالبًا ما تستشير كونور كوين، مساعد سيبرت السابق، الذي كرس نفسه للتخصص في إحياء اللغات الأصلية. كما قاد أثناء الصيف دورات مكثفة في اللغة مقدمة للمراهقين المحليين من الجزيرة، وتعاون مع بولينا ماكدوجال على مراجعة قاموس البينوبسكوت. (بعد أربعين عامًا تقريبًا من نسخته الأولى، سيُنشر المجلد النهائي قريبًا بتعاون حكومة البينوبسكوت مع جامعة مين بريس).
حصلت دانا على وسام إجادة اللغة من وزارة الثقافة والتراث التي أسستها حكومة البينوبسكوت حديثًا. يرأسها المؤرخ القبلي جيمس فرانسيس، الذي وصف نفسه بأنه «ابن الجيل الثاني من غير المتحدثين باللغة». تهدف الوزارة، كما أشار إلى «فتح أبواب اللغة المغلقة منذ سنوات عديدة بدافع الخزي». نشأ فرانسيس، الذي كان في أوائل الخمسينيات من عمره، بجزيرة إنديان في وقت ازدهر فيه نشاط السكان الأصليين. آمن أن مفتاح إنقاذ ثقافة البينوبسكوت ليس فقط بدراستها ولكن باستعمالها. «خذ مربى الفراولة من الرف وادهنها على قطعة من الخبز المحمص»، هكذا أوضح الأمر لي.
في عام 2012، واجه فرانسيس ميعاد انتهاء المنحة، تواصل مع جين أندرسون باحثة القانون بجامعة نيويورك، التي قابلها قبل عام في إحدى دورات الحقوق الفكرية. ومنذ ذلك الحين، كانت لا تزال تعمل مع القبيلة بشكل وثيق، بخلاف غالبية خبراء القانون، كانت أندرسون تمنح القانون جانبًا ميتافيزيقيًا غير مألوف، مفككة الشركات إلى أشخاص، والبحيرات إلى مترافعين. تركز بشكل خاص على الطريقة التي يجعل بها القانون الأمريكي «أشياء غير منطقية قابلة للامتلاك»، وفي السنوات الأخيرة تابعت الوضع القانوني السريالي للغة البينوبسكوت. أخبرتني مؤخرًا: «يقول الناس مرحبًا، لا يمكنك امتلاك لغة! «إنه، مثل، حسنًا، نعم، في الواقع يمكنك ذلك، من خلال ألاعيب حقوق الملكية الفكرية وحقوق النشر».
ترى أندرسون بأن سيبرت انتهج نفس طرق البحث الأنثروبولوجي للقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بتجريد الأفراد الأصليين كمادة علمية للدراسة، وبدون مساعدتهم إطلاقًا. قالت أندرسون، كان ما قدمه سيبرت جوهريًا، لكنه برغم ذلك سبب خزيًا مجتمعيًا لا يمكن إغفاله. أخبرتني عن سيبرت، «لأنه فشل في أن يكون أبًا، فقد عوض ذلك عن طريق علاقته مع البينوبسكوت، الذين عاملوه مثل طفل وحاولوا تقويمه للصواب، كما شعر دائمًا». عندما تتكلم أندرسون تبدو كمحللة نفسية أكثر منها محامية.
عملت أندرسون حثيثًا على سحب البساط من تحت قدمي المستعمر السلطوي، كمحاولة لإصلاح تجاوزات من صنعه. طمحت بأن تحافظ البينوسكوب على خصوصيتها الثقافية من خلال لغتها، حتى وإن عجزت نظريًا عن امتلاك حقوقها. لذلك، تعاونت مع أعضاء القبيلة في مبادرات، بعيدًا عن القانون، ومنه كان مشروع يقام بالاشتراك مع الجمعية الفيزيائية الأمريكية. ومبادرة إرفاق المواد الرقمية للمستندات في مجموعة سيبرت، للتأكيد على الحساسية الثقافية، وتقنين الاستخدام التجاري، وطلب أن تُنسب المعلومات إلى مجتمع البينوبسكوت للمضي قدمًا.
بعض الروايات الشفوية في أرشيف الجمعية، على سبيل المثال، من المفترض أن تشاركها النساء فقط، أو أن تشارك في فصل الشتاء فقط، أو من قبل كبار السن فقط. أخبرتني أندرسون أن وراء هذا التسطيح للأمور «فإن المسألة ملحة»: باعتراف صريح منها بأن «هناك شيئًا خطيرًا حقًا في الأمر لا يمكن أن يحتويه القانون بالضرورة».
استضاف الحفل في جامعة مين حيث قابلتُ دانا، في مايو 2018، كيرك فرانسيس، رئيس حكومة البينوبسكوت، وسوزان هانتر، رئيسة الجامعة. محاطين في جلستهم برفوف زجاجية تعرض سلال محاكاة من عشب الهيروكلو وأحذية من جلد الغزال، أمام جمهور صغير وفريق إخباري محلي، وقعوا اتفاقية، صاغتها أندرسون، التي نصت على الطرق التي ستدمج بها الجامعة رؤية القبيلة في أبحاثها المستقبلية: كما سيشغل ممثل البينوبسكوت مقعدًا دائمًا في المجلس الاستشاري للمتحف، وهو النظام الجديد للجمعية. وستضمن لافتات الحرم الجامعي ترجمات البينوبسكوت.
عندما تحدثت مع جيمس فرانسيس، الذي كان من بين الحضور يومها، اعترف لي بأن القبيلة لن تثبت أي شيء إلا إذا اعتمدت فيما تقدم على محتوى وتجربة سيبرت، فيما عدا ذلك سيكون الأمر شاقًا. وفكر في جدوى أن يطلب من أفراد القبيلة قراءة مئات الصفحات غير المحررة من الأبحاث الطلابية. أضاف «أتعرفين، حتى حوارك مع كارول لا يمكن بدون موافقة القبيلة، نحاول استيعاب الأمر.. الوضع معقد». وتساءلت في نفسي عن ردة فعل محررتي إن أخبرتها بأن كل كلمة في هذه المقالة تحتاج لموافقة حكومة البينوبسكوت. عندما أثرت الموضوع مع دارين رانكو، من جامعة مين، رأى بأن مثل هذه الأساليب - التي تتعارض ليس فقط مع روح التعديل الأول[8] ولكن أيضًا مع المعايير الأخلاقية الصحفية، في منع المراسلين من مشاركة المواد المدعمة بالمصادر - تتهم الكثير من الناس بالتعصب. ومع ذلك، قال: «ربما إن لم يكن الاستعمار، ولم نكن مجبرين أبدًا على المنع من لغتنا، لن نحظى بمثل هذا الحرص عليها».
قضت دانا سنواتها الأخيرة تعمل على جمع وتحرير قصص جلوسكابي التي بدأ فرانك سيبك جمعها منذ أكثر من قرن مضى، ستنشر مطبعة جامعة ماساتشوستس هذا الصيف، المجموعة، «ما زالوا يذكرونني: مختارات من حكايات البينوبسكوت، المجلد الأول»، من تحرير دانا وكوين ومارجو لوكنز، وأستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة مين. وهذا سيكون أول كتاب تجاري يستخدم نظام الكتابة الخاص بسيبرت، كل قصة مدونة تكون صفحاتها اليسرى بالبينوبسكوت واليمنى بالإنجليزية، وتضم رسومًا توضيحية لفنانين محليين. ينص عقد النشر على أن جميع الأرباح ستؤول إلى حكومة البينوبسكوت، وأيضًا أي قرارات متعلقة بحقوق الأفلام أو برامج التلفزيون. أي أسرة في البينوبسكوت ترغب بنسخة من المجلد الذي بسعر 24.95 دولارًا ، ستتلقى نسخة مجانية. تتفوق القصص كثيرًا على قاموس سيبرت، كوسيلة تعليمية. تأمل دانا بأن يجعل الكتاب الجديد اللغة في متناول الأجيال القادمة. إذا كان إرث سيبرت هو تدوين اللغة، فإن دانا تُفسح لها المجال بأن تقرأ وتُحكى.
قبل النوم كل ليلة، تطلب دانا من أسلافها زيارتها، وأحيانًا تحلم فعلًا بالبينوبسكوت. اعترفت بأن دورها كمجيدة لغة قبلية يمثل عبئًا، وكثيرًا ما تستيقظ وهي تشعر وكأنها لم تعد تهتم بـأمر البينوبسكوت، وتميل إلى التخلي. لكنها تدرك على الفور حجم ما يمكن أن تقدمه لمنع ضياع لغتها، وتجد نفسها مدفوعة لبذل كل ما تملك. تساءلت دانا: «من غيري يقدر؟»
أخبرتني ماريا جيروار، وهي منظمة وناشطة ومؤرخة للبينوبسكوت: «كارول شديدة الحماسة أحيانًا». «لديها القليل من القلق، وهو أمر مفهوم، كما تعلمين». «لا ينبغي أن تستند خلفيتنا اللغوية على مجرد شخصيات كرست حياتها المهنية بالكامل لها». قالت موليان دانا، وهي إحدى أقارب كارول دانا وسفيرة القبيلة، وهي في منتصف الثلاثينيات من عمرها، وقد درست البينوبسكوت مع كوين عندما كانت مراهقة، اليوم، ليس هناك الكثير يذكر سيبرت: «إذا سألت أحدهم في الشارع، مرحبًا، من هو زعيم لغة البينوبسكوت؟ لن يجيبوا فرانك. سيقولون كارول».
في الخامس والعشرين من مارس العام الماضي، التزمت الجزيرة الهندية بالحجر الصحي نتيجة لكوفيد 19، وتمركزت نقطة تفتيش على الجسر المؤدي للبر الرئيسي. بحيث لا يُسمح بعبوره إلا للعاملين والمسؤولين. دانا، التي تعيش بمفردها في منزلها ذي الطابقين بالقرب من مقابر القبيلة، قلّ تحدثها بالبينوبسكوت عما كانت عليه منذ عقود. لم تشتر ببغاء قط. بل حصلت على كلب بدلًا منه، وسمته جيجك، وهو اختصار لكلمة بالبينوبسكوت، والتي تعني «روحي». قفز الكلب في حجرها. تمتمت إليه بالبينوبسكوت للحظات، عندما أخبرتني عبر الهاتف: «إنه يعلم أنني أتحدث عنه».
تجري دانا مناقشة أسبوعية عبر تطبيق زوم، يحضرها جابي بول، مدرس لغة في الثلاثينيات من عمره، يحرص على التكلم مع ابنه -الذي عمره عامين تقريبًا- بالبينوبسكوت. لإتقان أي لغة، يجب على المرء التحدث بها تلقائيًا مع آخرين - وهو أمر مستحيل حاليًا لأي شغوف بالبينوبسكوت. قال بول: «لن أستعمل هذه اللغة، كما تعلمين، لشراء البقالة أو لسحب أموالي من البنك». «ليست الأمور كما كانت، على الأقل ليس الآن. سيستغرق الأمر أجيال عديدة».
أخبرتني جينيفر نبتون، صانعة السلال اليدوية ومديرة متحف البينوبسكوت، وطالبة من طلاب دانا، أنها، مثل أي شخص في الجزيرة الهندية، قلقة من بقاء اللغة في صدور قلة من الناس. قالت: «إنه أمر مرعب»، مضيفة أن احتمالية أن تمرض دانا كان «محركها الأول» للتعرف على كوفيد 19. (في يناير، خصت حكومة شيروكي في أوكلاهوما متقنين اللغة، من ضمن الطاقم الطبي والمتلقين الأوائل المؤهلين للحصول على جرعات مبكرة من لقاح فيروس كورونا).
عندما تحدثت إلى دانا في بداية هذا العام، حكت لي عن استيعابها المتأخر لإحدى الأغنيات الشعبية التي يسير فيها رجل نائمًا تجاه الراوي، هي في الواقع تصور لشخص يحتضر جوعًا. «إنه نعسان لأنه جائع!» قالت: «يحتاج لحم فأر المسك!» أخبرتني عن أغنية أخرى، يتلاعب فيها أرنب ذكي بسلسلة من المقالب المراوغة بقطة برية. تساءلت معها بصوت عالٍ عما إذا كانت هذه القصص الشعبية هي مصدر المواد الكرتونية لرسوم باجز باني، ثم ندمت بعدها. لأنها قالت: «لا أعتقد ذلك». «لا أظن أن الكثيرين يعرفون قصصنا». من حين لآخر، تلتقط دانا كلمات بالبينوبسكوت خلال الأحاديث العابرة في الجزيرة الهندية. وقد شعرت بسعادة غامرة عندما شاركها أحد أبنائها، وهو في الأربعينيات من عمره، صورة قندس التقطها بجهازه الآيفون، وأشار للقندس مستخدمًا تسميته بالبينوبسكوت.
في إحدى أيام الخميس الأخيرة، اقترحت دانا، على مجموعة لها من خمسة طلاب، رسم شجرة العائلة لتساعدهم على تذكر الكلمات لمختلف الأقارب، وتعلم مفردات أدوات المطبخ من خلال تحضير طاولة الطعام. تحدثت عن فاعلية الأداء الإيمائي، وقامت بتمثيل ارتداء ملابسها، مستخدمة كلمات البينوبسكوت للإشارة إلى «قميص» و«بنطلون» و «حذاء طويل». حملت قطعًا من القصاصات عليها كلمات متنوعة- كما كانت تفعل دائمًا مع قواعد سيبرت الإملائية - وحكت لي عن قصاصة كلمة «موقد» المعلقة في مطبخها، لتذكرها بإغلاقه عندما تغادر المنزل. غنت أغنية عن أعضاء الجسد على نغمة غنوة «عشرة هنود صغار». أنهت الدرس بتحية معروفة، والتي تُترجم بـ «كيف نجوت اليوم؟» ثم قدمت الرد المعتاد: «إنه أمر صعب علينا، نحن الذين ما زلنا أحياء».
[1]1) مين؛ هي ولاية تقع في أقصى شمال منطقة نيو إنغلاند في شمال شرق الولايات المتحدة.
[2]فأس صغيرة استخدمها هنود أمريكا الشمالية أداة وسلاحًا )
[3]1- كاستر ضابط في الجيش الأمريكي وقد هُزِمَ وقُتِل في معركةِ لتل بيج هورن في 1876 في قتال ضدّ تَحَالُف قبائلِ من سكان أمريكا الأصليين والتي أصبحت تعرف في التاريخ الأمريكي بـ " وقفة كاستر الأخيرة".
[4]2- هو رائد ومستكشف ورجل غابة أمريكي، وجعلته مغامراته على الحدود من أوائل الأبطال الشعبيين في تراث الولايات المتحدة. اشتهر بون بعملية استكشاف واستيطان منطقة كنتاكي الحالية.
[5]3- هو رجل دولة وزعيم سياسي أمريكي شغل منصب الرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة من عام 1933 حتى وفاته في عام 1945.
[6]5) من اللغات الأصلية الأمريكية تضم معظم اللغات التابعة إلى عائلة الألجيك.
[7]4- هو شخصية خيالية في قصة تشارلز ديكنز الشهيرة التي صدرت عام 1843 أنشودة عيد الميلاد. في بداية القصة، تُقدم شخصية سكروج كشخص قاسي القلب ومجرد المشاعر وبخيل وجشع وطماع، يبغض عيد الميلاد ويكره كل ما يمنح الناس السعادة.
[8]5-التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الأمريكية هو تعديل لنص الدستور الأصلي يمنع صياغة أي قوانين تحظر إنشاء ديانات، أو يعيق حرية ممارسة الدين، أو يحد من حرية التعبير، أو التعدي على حرية الصحافة، أو التدخل في حق التجمع السلمي، أو منع تقديم التماس للحكومة للحصول على الانتصاف من المظالم.