إن الشفافية الرقمية ذات طبيعة فضائحية وليست قلبية. وفوق ذلك، فهي تتمخض عن عالم خاضع لاقتصاد كلي الرؤية. والهدف النهائي ليس تنقية القلب أخلاقيًا، بل تحقيق أقصى قدر من الربح، والاستحواذ على أقصى قدر ممكن من الانتباه.
بيونج-شول هان: مجتمع الحنق
نصوص من كتب بيونج- شول هان
ترجمة: سامح سمير
* بيونج-شول هان (1595): فيلسوف ألماني من أصل كوري جنوبي يهتم بموضوعات متعددة، منها أشكال القلق التي يتسم بها الوضع الإنساني مع التقدم التكنولوجي.
مجتمع الحميمية
فصل من كتاب «مجتمع الشفافية»
كان مجتمع القرن الثامن عشر مجتمعًا مسرحيًا، حيث كان مجاله العام يشبه خشبة المسرح. تعوق المسافة المشهدية التلامس المباشر بين الأجساد والأرواح، ذلك لأن المسرحي يقف على طرف النقيض من اللمسي، و يجري التواصل عليه عبر أشكال وعلامات طقوسية، فتتخفف الروح من أثقالها. بيد أنه في زمن الحداثة يتم التخلي عن هذه المسافة المسرحية على نحو متزايد لصالح الحميمية، وهو ما يرى فيه ريتشارد سينيت[1] تطورًا مدمرًا، يحرم المرء من القدرة على «أن يلعب بمشاعره ويستثمرها في صور خارجية للذات». ذلك لأن التقيد بالمراسم، والأعراف والطقوس لا يتنافى أبدًا مع القدرة على التعبير. فالمسرح حيز للتعبير، بيد أن أفعال التعبير عليه عبارة عن مشاعر موضوعية وليست تجليات لوجدان نفسي، ومن ثم فهي تُمثل ولا تُعرض. لكن العالم اليوم ليس خشبة مسرح تُمثل عليه المشاعر والأفعال وتُفسر، إنما هو سوق لعرض المشاعر الحميمة، وبيعها واستهلاكها. إن المسرح حيز للتمثيل، بينما السوق حيز للعرض. واليوم يتراجع التمثيل المسرحي ليفسح المجال للعرض الفضائحي pornographic.
يفترض سينيت أن «المسرحة ترتبط بعلاقة خاصة، وعدائية، بالحميمية. وترتبط أيضًا بعلاقة خاصة، لكن ودودة، بالمجال العام المزدهر». ومن ثم، يصعد نجم ثقافة الحميمية حين يتدهور العالم الموضوعي-العام، الذي لا علاقة له بالمشاعر والأحاسيس الحميمة. فبحسب إيديولوجيا الحميمية، تكون العلاقات الاجتماعية أكثر قوة، وصدقًا، ومصداقية وأصالة كلما اقتربت من الاحتياجات النفسية الباطنية للأفراد. فالحميمية هي «الصيغة السيكولوجية للشفافية».
ومن ثم يعتقد المرء أن الروح تصبح شفافة حين تعري نفسها، وتكشف عن مشاعرها وعواطفها الحميمة.
تؤسس وسائل التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث المُخصصة[2]، على شبكة الإنترنت حيزًا للألفة المطلقة، حيث يُمحى الخارج تمامًا، ولا يقابل المرء سوى نفسه وحياته. وحيث لا وجود لأي سلب من شأنه أن يجعل التغيير ممكنًا. لا يوفر هذا «الجوار» الرقمي للمستخدمين سوى تلك القطاعات من العالم التي تسرهم، ومن ثم فهو يفكك المجال العام –بل، وفي الحقيقة، يفكك الوعي النقدي العام- ويخصخص العالم. إن شبكة الإنترنت بصدد التحول إلى نطاق حميم أو منطقة راحة comfort zone . والمتاخَمة، التي أُزيل منها كل أثر للمسافة، إنما هي شكل جديد تجد فيه الشفافية تعبيرًا عن نفسها.
يطبع استبداد الحميمية كل شىء بطابع سيكولوجي وشخصي. حتى السياسة نفسها لا تفلت من قبضته. وهكذا، لم يعد رجال السياسة يُقيمون بحسب أفعالهم، بل أصبح الاهتمام العام ينصب على شخوصهم، مما يحتم عليهم تبني الأداء المسرحي، شاءوا أم أبوا. وإذ يختفي المجال العالم، فإنه يخلف وراءه فجوة، يصب فيها سيل من التفاصيل الحميمة والأمور الشخصية. ويحل الترويج والدعاية للصورة الشخصية محل المجال العام، فيتحول، من ثم، إلى حيز للعرض، ويبتعد، أكثر فأكثر، عن حيز العمل المجتمعي.
الأصل اللاتيني لكلمة «شخص» هو persona ، أي «قناع». ويضفي القناع على الصوت الذي يتردد داخله شخصية مميزة؛ بل، وفي الحقيقة، يمنحه صورةً وهيئة. بيد أن مجتمع الشفافية، بوصفه مجتمع تعرية وكشف، يعمل ضد القناع، بكل أنواعه، وضد المظاهر الرمزية. كذلك، يعمل التفريغ المتزايد للمجتمع من طابعه السردي والطقسي على تجريده من كل أشكال المظاهر الرمزية، ويتركه عاريًا. فالقواعد الموضوعية، وليس الحالات السيكولوجية الذاتية، هي العامل المحدد للعب والطقوس. فحينما يلعب المرء مع الآخرين، فإنه يُخضع نفسه لقواعد اللعبة. ولا يعتمد الطابع الاجتماعي للعب على تعرية اللاعبين لذواتهم بعضهم أمام بعض. وخلافًا لذلك، يصبح البشر ذواتًا اجتماعية حين يحتفظون بمسافة بين بعضهم بعضًا. وبالمقابل، تلغي الحميمية كل مسافة.
لا يثق مجتمع الحميمية في الإيماءات الطقسية والسلوك الاحتفالي، بل يستبعدها باعتبارها أشياءً برانية تفتقر إلى الأصالة. وتُمارس الطقوس باعتبارها نشاطًا يقوم على أشكال تعبير خارجية، تجرد الأشياء من طابعها الفرداني، والشخصي والسيكولوجي. ومن يشاركون فيها يمارسون «نشاطًا تعبيريًا»، غير أن ذلك لا يعني أنه يتحتم عليهم عرض ذواتهم وكشفها للعيان. إن مجتمع الحميمية مُشبع بنزعة سيكولوجية وخالٍ تمامًا من الطقوس. إنه مجتمع الاعتراف، والتعرية، والافتقار الفاضح لكل مسافة.
تلغي الحميمية تلك المساحة الموضوعية المخصصة للعب لكي تفسح المجال للاهتياجات الذاتية للعاطفة. في حين تتحرك العلامات الموضوعية وتُتداول في حيز طقسي-احتفالي لا سبيل إلى شحنه بطاقة نرجسية. إن النرجسية تعبير عن حميمية، بلا أي مسافة، مع الذات، أي أنها تفتقر إلى أي مسافة بين الذات ونفسها. ويعج مجتمع الحميمية بذوات نرجسية تفتقر إلى القدرة على الاحتفاظ بمسافة مشهدية بين بعضها بعضًا. ويقول سينيت: «النرجسي ليس متعطشًا إلى التجارب، بل إلى (التجربة) بما هي كذلك. وإذ يبحث دائمًا عن تعبير وانعكاس لصورته في (التجربة)، فإنه يستخف بأي تفاعل أو مشهد محدد». ومن ثم، فهو يرى أن داء النرجسية يتفشى باطراد لأن «ثمة مجتمعًا من نوع جديد يشجع على ازدهار المكونات النفسية للنرجسية ويلغي تمامًا كل حس بإمكانية وجود تفاعل اجتماعي مثمر في المجال العام، خارج شروطها، أو خارج حدود الذات المفردة». يتخلص مجتمع الحميمية تمامًا من العلامات الاحتفالية والطقسية، والتي يمكن للمرء من خلالها أن يهرب من نفسه، وأن يتخلص من ذاته. إن التجربة Erfahrung، معناها مواجهة «الآخر». وفي المقابل، فإن التجريب Erlebnis معناه أنه أينما ذهب المرء فإنه لا يلتقي إلا نفسه. فالذات النرجسية لا تستطيع أن تشيد سورًا حول نفسها، ومن ثم تصبح حدود كينونتها غائمة وملتبسة.
ومن ثم، لا تتبلور أبدًا صورة مستقرة للذات. إذ تذوب الذات النرجسية داخل ذاتها إلى حد يستحيل عليها أن تتعامل مع نفسها بلا جدية مطلقة. وإذ يوغل النرجسي في الاكتئاب، فإنه يغرق في حميمية مع ذاته لا حدود لها، حيث لا وجود لأي فجوة أو غياب يفصل بينه وبين نفسه.
مجتمع الكشف
فصل من كتاب «مجتمع الشفافية»
بمعنى ما، لم يكن القرن الثامن عشر مختلفًا كليةً عن يومنا هذا. فقد عرف بدوره الشغف بالكشف والشفافية. وهكذا، يقول ستاروبينسكي في دراسته عن روسو: إن الفكرة القائلة بأن المظاهر خادعة كانت بالكاد تيمة جديدة في العام 1748. ففي المسرح والكنيسة، في الروايات والصحف كان التكلف، والرياء، والأقنعة، والتشبث بالتقاليد، مثار استهجان بطرق شتى. وفي قاموس الجدال والمحاكاة الساخرة لم تكن ثمة كلمة أكثر تواترًا من كلمتي «الكشف» و«نزع الأقنعة».
تعد «اعترافات» جان جاك روسو من السمات المميزة لبزوغ حقبة الحقيقة-باعتبارها-مجاهرة. فمنذ سطورها الأولى، تعلن «الاعترافات» نيتها تقديم صورة إنسان «وفي للطبيعة بكل الطرق الممكنة». إذ يتضمن «مشروع» المؤلف، غير المسبوق، كشفًا صارمًا عن مكنون «فؤاده». ويخاطب روسو الله قائلًا: «لقد أظهرتُ نفسي كما هي...وكشفتُ النقاب عن روحي الدفينة كما رأيتَها أنت بنفسك». فهو يريد لقلبه أن يكون شفافًا كالبلور. ويعد القلب البلوري مجازًا أساسيًا في فكر روسو: «قلبه، الذي في شفافية البلور، لا يستطيع أن يخفي شيئًا مما يحدث داخله. وكل خلجة يشعر بها تنعكس في عينيه ووجهه».
يدعو روسو إلى «فتح القلب»، «ومن ثم، مشاركة الآخرين كل المشاعر، وكل الأفكار. وهكذا يستطيع كل إنسان أن يظهر نفسه للآخرين كما هي في الحقيقة». ويحث رفاقه في البشرية على «الكشف» عن مكنون قلوبهم، بالقدر نفسه من الأمانة والصدق. وهنا تكمن «ديكتاتورية القلب» التي اشتهر بها.
تعد مطالبة روسو بالشفافية إيذانًا بحدوث تحول نوعي. فقد كان عالم القرن الثامن عشر لا يزال خشبة مسرح. عالم حافل بالمشاهد، والأقنعة، والشخصيات. حتى الموضة نفسها كانت ذات طبيعة مسرحية. ولم يكن ثمة فرق جوهري بين الثياب العادية وأزياء المسرح. حتى الأقنعة أصبحت صيحة رائجة. وكان الناس متيمين تمامًا بالمسرحة؛ ومنغمسين بكليتهم في الخيالات المشهدية. فقد اتخذت تصفيفات الشعر النسائية هيئة مشاهد درامية تجسد أحداثًا تاريخية أو مشاعر معينة. ولهذا الغرض، كانت تُستخدم أيضًا أشكال من البورسلين، تُضفر في الشعر. وهكذا، كان يمكنك أن ترى حديقة كاملة، أو سفينة بكل صواريها، محمولة فوق رأس إحداهن. وكان الرجال والنساء على السواء يدهنون أجزاءً من وجوههم بطلاء أحمر. وأصبح وجه الإنسان نفسه خشبة مسرح يُعبّر فوقها عن سماته الشخصية باستخدام طابع الحسن. فيوضع في زاوية العين، على سبيل المثال، للتعبير عن العاطفة المشبوبة. وعلى الشفة السفلى، للتعبير عن الاستقامة الشخصية. وكان الجسد أيضًا حيزًا للتمثيلات المشهدية. بيد أن الأمر لم يكن يتعلق برغبة في التعبير بصدق عن «جوانية» مستترة، ناهيك عن أن يكون تعبيرًا عن مكنون «الفؤاد». وبدل ذلك، كان الهدف هو اللهو بالمظاهر، والتلاعب بالخيالات. فقد كان الجسد دمية بلا روح، تُكسى بالثياب، وتُزين، وتُشحن بالعلامات والمعاني.
لقد صاغ روسو خطاب القلب في مواجهة اللعب بالأقنعة والأدوار. ومن ثم، فقد وجه انتقادًا لاذعًا لمشروع إنشاء مسرح في مدينة جنيف. فالمسرح مثال «لفن تزييف النفس، أو انتحال شخصية مغايرة لشخصية المرء الحقيقية، وأن يكون مظهره مخالفًا لمخبره، ولأن يصبح مشبوب العاطفة بدم بارد، وأن يقول ما لا يعتقده بكل تلقائية كما لو أنه يعتقده بالفعل، وأخيرًا، أن ينسى مكانه الحقيقي بأن يتخذ لنفسه مكان شخص آخر». فالمسرح مرفوض، بوصفه حيزًا للتخفي، والمظاهر، والإغواء المفتقر لكل شفافية. فلا ينبغي للتعبير أن يكون ادعاءً متكلفًا، بل يجب أن يعكس القلب الشفاف.
بمقدور المرء أن يرى، في حالة روسو، كيف تتحول أخلاقيات الشفافية الكلية حتمًا إلى نزعة استبدادية. فمشروع الشفافية البطولي –الرغبة في تمزيق الأقنعة، وتسليط الضوء على كل شيء، ومطاردة الظلام- يفضي حتمًا إلى العنف. فالحظر المفروض على المسرح والمحاكاة، والذي شرّع له افلاطون في مدينته المثالية، يطبع مجتمع الشفافية لدى روسو بسمات شمولية. فهو يفضل المدن الصغيرة لأن «أفرادها موضوعون على الدوام تحت أنظار الرأي العام، ورقباء، بالفطرة، بعضهم على بعض؛ ولأنه بمقدور الشرطة أن تراقب الجميع بسهولة».
وهكذا، يتكشف مجتمع الشفافية لدى روسو عن كونه مجتمع سيطرة ومراقبة شاملة. ومناداته بالشفافية ترتقي إلى مصاف الأمر المطلق: «ثمة فريضة أخلاقية واحدة يمكنها أن تقوم مقام كل ما عداها من فرائض؛ ها هي: إياك أن تفعل أو تقول شيئًا لا تحب أن يراه الجميع ويسمعوه؛ وأنا من ناحيتي، لطالما اعتبرتُ أن أنبل البشر جميعًا هو ذلك الروماني الذي أراد أن يبني منزله بحيث يكون بمقدور الجميع أن يروا كل ما يحدث بداخله».
إن مطالبة روسو بشفافية القلب أمر أخلاقي مطلق. فالروماني صاحب البيت الشفاف، في نهاية الأمر، ملتزم بـ «الفريضة الأخلاقية». أما في يومنا هذا، فإن «البيت المثالي، الذي له سقف، وجدران ونوافذ وأبواب»، إنما هو مُخترق بالفعل، وحتمًا، «بأسلاك مادية ولا مادية». وينهار إلى حطام «تهب عبر شقوقه رياح التواصل». إذ تخترق رياح التواصل الرقمية كل شىء، وتجعله شفافًا. وتعصف في كل أرجاء مجتمع الشفافية. لكن الشبكة الرقمية، حتى بوصفها وسيطًا للشفافية، لا تخضع لأي أمر أخلاقي مطلق. فهي، إن جاز القول، لا قلب لها. والقلب، تقليديًا، هو الوسيط الميتافيزيقي واللاهوتي للحقيقة. إن الشفافية الرقمية ذات طبيعة فضائحية pornographic وليست قلبية Cardiographic. وفوق ذلك، فهي تتمخض عن عالم خاضع لاقتصاد كلي الرؤية. والهدف النهائي ليس تنقية القلب أخلاقيًا، بل تحقيق أقصى قدر من الربح، والاستحواذ على أقصى قدر ممكن من الانتباه. حيث الإضاء الشاملة تعد بتحقيق أكبر قدر من المكاسب.
مجتمع الحنق
فصل من كتاب «الأسراب، آفاق رقمية»
بمقدور موجات الحنق أن تحشد الانتباه وتكتله بكفاءة عالية. بيد أن ما تتسم به من سيولة وتقُلب يجعلها غير ملائمة لبلورة خطاب عام أو فضاء عام. ذلك لأنها يصعب التحكم بها، والتنبؤ بتبعاتها، وتفتقر إلى الثبات، والديمومة، والملامح الواضحة إلى حد يحول دون قدرتها على الاضطلاع بهذه المهمة. تندلع بغتة، وتتبدد بالسرعة نفسها. فهي أشبه بـ «الغوغاء الإلكترونية». وتفتقر إلى الاستقرار، والثبات، والاستمرارية التي لا غنى عنها لقيام تفاعل اجتماعي متحضر. ومن ثم، فهي تستعصي على التبلور في سياق خطابي راسخ. فكثيرًا ما تندلع موجات الحنق استجابةً لأحداث ضئيلة الأهمية سياسيًا أو اجتماعيًا.
مجتمع الحنق هو مجتمع الفضحية. فهو يفتقر إلى «الشخصية»، والتحوط، والموقف الواضح. ذلك لأن ما تتسم به موجات الحنق من مشاكسة، وعناد، وهستريا لا يسمح بقيام تواصل حصيف أو عملي، ويحول دون بلورة أي «حوار» أو «خطاب». بيد أن «الشخصية»، أي القدرة على اتخاذ موقف مدروس تجاه الأشياء، هي قوام الفضاء المدني. وعلى المنوال نفسه، فإن المسافة ضرورية من أجل نشوء هذا الفضاء. أضف إلى هذا، أن موجات الحنق لا تتماهى كثيرًا مع المجتمع بحالته القائمة. فالحانقون لا يشكلون «ذاتًا جماعية» مستقرة، تبدي اهتمامًا بالمجتمع ككل. والمواطنون الساخطون، رغم كونهم مواطنين، لا يبدون اهتمامًا بالجسد الاجتماعي بكليته بقدر اهتمامهم «بأنفسهم». ولهذا السبب، فإن الحنق يتبدد سريعًا.
أول كلمة في ملحمة الإلياذة هيmenin ، ومعناها السخط أو النقمة. «ربة السخط تُغني سخط أخيل، ابن بيليوس». هكذا يبدأ أول فعل سردي في الحضارة الغربية. هنا، يمكن للحنق أن يُغنى لأنه ينهض بالحكاية التي ترويها القصيدة ككل؛ يمنحها بنيتها، ويُلهمها، ويبث فيها الحياة، ويعطيها إيقاعها. إنه ببساطة «الوسيط البطولي للفعل». فالإلياذة أنشودة سخط. لكنه سخط سردي –ملحمي- كونه يروي أحداثًا معينة. ومن هذه الناحية، يختلف السخط اختلافًا جوهريًا عن الغضب، العاطفة المميزة لأمواج الحنق. فالحنق الرقمي لا يمكن أن «يُغنى». ولا يسمح بممارسة الفعل أو السرد. ذلك لأنه «حالة» عاطفية، خالية من كل قدرة على الفعل. فما يتسم به مجتمع اليوم من إلهاء ومجون شاملين يحول دون إطلاق الطاقة الملحمية للسخط. فالسخط، بالمعنى القوي للكلمة، أكثر من مجرد حالة عاطفية. إنه القدرة، أو القوة، على وضع حد للأوضاع القائمة وإفراز أوضاع جديدة. ومن ثم، فهو ينتج مستقبلًا. تتسم نوبات الحنق في يومنا هذا بأقصى قدر ممكن من التشظي وسرعة الزوال. ذلك لأن الحنق يفتقر إلى «الكتلة» –الثقل- اللازمة للفعل، ومن ثم لا يتمخض عن أي مستقبل.
[1] ريتشارد سينيت (1943) عالم اجتماع أمريكي.
[2] محركات البحث التي تكيف ما تعرضه من نتائج وفق حاجة كل مستخدم.