أكتب لأجل هدف نبيل: تعليم الجنس البشري وإرشاده… أكتب دون أي ربح أو إشادة. لا أدون أبدًا أي كلمة قد تمرر قدرًا ضئيلًا من الإهانة، حتى إلى الذين يستعدون لتلقيها.

رحلات جاليفر لجوناثان سويفت (1726)

مقال: روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، أكتوبر 2013

ترجمة: سلسبيل صلاح


من كتاب "رحلات جاليفر"، عن الجارديان

بعد سبع سنوات من نشر رواية روبنسون كروزو، نشر جوناثان سويفت، الشاعر وكاتب المقالات الماهر المنتمي للحزب المحافظ في بريطانيا -بناء على إلهام من نادي سكريبلروس الذي شمل كذلك جون جاي وألكسندر بوب- رواية هجائية في شكل قصص رحلات صارت فور نشرها الأعلى مبيعًا. بعدها أصبحت رواية جاليفر، وفقًا لجاي، تقرأ في كل مكان «بدءًا من مجلس الوزراء وحتى روضة الأطفال».

في حياتها اللاحقة كعمل كلاسيكي خالد، تُقرأ «رحلات جاليفر» بمستويات متعددة. أولها أنها عمل فني يجسد الاستياء الفظ والمتواصل،  فهي «عنيفة، ومحتدمة، وبذيئة» كما وصفها ويليام ثاكري. غضب سويفت الساخر وجه تقريبًا ضد كل مناحي الحياة في بدايات القرن الثامن عشر: العلم، والمجتمع، والتجارة، والسياسة.

ثانيًا أنها، بعد تجريدها من  نظرة سويفت المتشائمة، تصبح قصة رائعة عن السفر للأطفال، وعمل مفضل على الدوام ما زال يلهم عددًا لا حصر له من الكتب والأفلام. وأخيرًا لأنها كعمل متقن مثير للجدل ومليء بالخيال الخصب صارت مصدرًا لفولتير، وألهمت تأليف مقطوعات تيليمان على الكمان، وقصة الخيال العلمي «السفينة الثمينة» لفيليب ديك، كما أوحت بالقصة الأكثر تأثيرًا بين الكل: «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل.

تتكون سلسلة «رحلات ليمويل جاليفر إلى مناطق متعددة وبعيدة في العالم» (الاسم الأصلي للسلسلة) من أربعة أجزاء، وتفتتح بظهور جاليفر عالقًا على جزيرة ليليبوت، التي يبلغ طول سكانها 6 إنشات فقط. أشهر أجزاء الكتاب وأكثرها ألفة هي المزحة الهجائية التي ينتقد فيها سويفت بضراوة الأحزاب السياسية الإنجليزية وتصرفاتها السخيفة، خاصة في الجدل المتمحور حول فتح البيض المسلوق من الجزء العلوي أو السفلي.

بعد ذلك، تتحطم سفينة جاليفر الذي يسميها «المغامرة» ويجد نفسه على جزيرة بروبدينجناج التي يسكنها العمالقة، ولها طبيعة ضخمة تتناسب مع أحجامهم. وبذلك صار جاليفر، بعدما كان مهيمنًا على الحياة في ليليبوت، يُعرض في الأسواق كقزم غريب المظهر، ومر بعدد من الأحداث الدرامية الداخلية مثل محاربته الدبابير العملاقة. ثم يحظى جاليفر بفرصة مناقشة أحوال أوروبا مع الملك، والذي يستنتج بعين سويفت المتشائمة أن «أغلبية قومك هم أحط سلالة حشرات عانت الحياة من وجودها على سطح الأرض».

في الجزء الثالث من رحلاته، يزور جاليفر الجزيرة الطائرة لابوتا (يستخدم ستانلي كوبريك نفس الاسم في فيلم دكتور سترينجلاف)، ويشن سويفت هجومًا ضاريًا ومبهمًا على تكهنات العلم المعاصر. (خاصة محاولة استخلاص آشعة الشمس من ثمر الخيار). وختامًا، يصف سويفت، في الجزء الذي ألهم أورويل (كان «رحلات جاليفر» أحد كتبه المفضلة)، بلاد الهوينهم، وهم خيول لهم خصائص الإنسان العاقل. ما يتباين مع كائنات الياهو البغيضة التي تتخذ شكل كائنات متوحشة على هيئة البشر. لاحقًا سيردد أورويل كراهية سويفت للجنس البشري في تطلعه إلى مستقبل «يسقط فيه الجنس البشري».

في النهاية، يعود جاليفر إلى موطنه بعد رحلاته محملًا بحكمة فريدة من نوعها، شكلتها وطورتها خبراته في السفر. إذ يختتمها قائلًا: «أكتب لأجل هدف نبيل: تعليم وإرشاد الجنس البشري… أكتب دون أي ربح أو إشادة. لا أدون أبدًا أي كلمة قد تمرر قدرًا ضئيلًا من الإهانة، حتى إلى الذين يستعدون لتلقيها. لذا ربما أعلن نفسي بعدالة كاملة كاتبًا لا تشوبه شائبة».

حين رحل سويفت ، الذي يذكره العالم باسم العميد القاتم، عام 1745، دفن في مدينة دبلن وعلى قبره المرثية الشهيرة: «حيث يعجز السخط الشديد عن الاستمرار في تمزيق قلبه».

ملاحظة على النص

غالبًا بدأ سويفت كتابة رحلات جاليفر عام 1720 (حين كانت قصة روبنسون كروزو عن الحلم الذي رآه أثناء الحمى في أوج شهرتها) وسلم المسودة الأولى إلى الناشر الإنجليزي بينجامين موت في مارس 1726. نُشر الكتاب بلا اسم في سرعة شديدة. واستخدام الناشر، الذي شعر أنه أمام كتاب سيحقق أفضل المبيعات، كل إمكانياته لإحباط أي محاولة لقرصنة الكتاب، وقدم عدة تخفيضات لتقليل خطر الملاحقة القضائية. خرجت الطبعة الأولى في شكل مجلدين في 26 أكتوبر 1726، بسعر 8 شلن و6 بنسات ونفذت كلها في أقل من أسبوع. عام 1735، طبع الناشر الأيرلندي جورج فالكنر مجموعة من أعمال سويفت، وكان المجلد الثالث هو رحلات جاليفر بناء على نسخة عمل من المسودة الأصلية. بعدها أصبح التاريخ النصي لرحلات جاليفر معقدًا، وتبرأ سويفت لاحقًا من أغلب النسخ، حتى نسخة موت الأولى، قائلًا إنها كتب عُدلت كثيرًا «حتى أنني بالكاد أعرف نسختي». بعدها صار على الطبعات الأكاديمية الاختيار بين نسخة موت ونسخة فالكنر، لكن أيًا كانت النسخة المختارة، لم يتوقف طبعها قط منذ لحظة إصدارها.