أنا عمري ماشفت حد بوضوح زي ما أنا شفتهم كده، ومافاتتنيش ولا تفصيلة من وشوشهم أو لبسهم. وبالرغم من كده ماكنتش سامعهم وكان صعب عليا إن أنا أصدق إنهم موجودين في الحقيقة.
جزء من الفصل الأول من رواية «الغريب» لألبير كامو
ترجمة بالمصرية: هكتور فهمي
تصدر الترجمة كاملة عن دار نشر «هن»، في يناير 2022
تنشر Boring Books الفصل بإذن من المترجم والناشر
الفصل الأول
النهارده، ماما ماتت. أو يمكن إمبارح، مش عارف. وصلني تلغراف من الدار بيقول: «الوالدة إتوفت. بكرة الدفن. البقية في حياتك». ده كلام مالوش معنى. ويمكن إللي حصل ده يكون حصل إمبارح.
دار المسنين مكانها في مارنجو، على بعد تمانين كيلومتر من مدينة الجزاير. هاركب الأوتوبيس الساعة إتنين وهاوصل بعد الضهر. وبالشكل ده هاقدر أسهر وهارجع بكرة بالليل. فطلبت من صاحب الشغل يومين أجازة وماكانش يقدر يرفضهم وأنا عندي عذر زي ده. لكن كان باين عليه إنه مش مبسوط. وانا حتى قلتله: «دي مش غلطتي» فماردش عليا. وفكرت بعدها إن أنا ماكنش لازم أقولّه كده. ومن الآخر ماكنش لازم أعتذر. ده هو إللي المفروض يعزيني. لكن أكيد هيعزيني بعد بكرة لما يشوفني حزين. ولحد دلوقتي، تقريبًا، كأن ماما مامتتش. وعلى العكس، بعد الدفن هتبقى حكاية وخلصت، وكل حاجة هتاخد شكل رسمي أكتر.
ركبت الأتوبيس الساعة إتنين. والدنيا كانت حر جدًا. وزي العادة، أكلت في مطعم (شيه سيليست). كلهم كانو حاسين بألم كبير عشاني وسيليست قالّي: «الواحد مالوش غير أم واحدة». ولما جيت أمشي، وصلوني كلهم لحد الباب. وكنت متلخبط شوية لأني كنت لازم أطلع عند إيمانويل عشان أستلف منه كاراڤاتة سودة وشريطة. أصل عمه مات من كام شهر.
جريت عشان مايفوتنيش ميعاد الأوتوبيس. وغفلت بسبب الإستعجال ده، والجري ده، والحاجات دي كلها ومعاهم، من غير شك، المطبات وريحة البنزين، وصدى الطريق والسما. فنمت تقريبًا طول الطريق. ولما صحيت، لاقيت نفسي مِتْكَوِّم على واحد عسكري فبصلي وابتسم وسألني لو كنت جاي من بعيد. فقلت: «أيوة» عشان ماحتاجش أتكلم تاني.
دار المسنين كانت على بعد إتنين كيلومتر من القرية، فاتمشيت المسافة دي على رجليا. وكنت عايز أشوف ماما فورًا. لكن البواب قالّي إني لازم أقابل المدير. واستنيته شوية عشان كان مشغول. وطول الوقت ده، البواب كان بيتكلم. وبعدها، شفت المدير: إستقبلني في مكتبه. وكان راجل كبير وكان واخد وسام الشرف. وبصلي بعينيه الفاتحة. وبعدها سلم عليا وفضل ماسك إيدي مدة طويلة لدرجة إني ماكنتش عارف أوي إزاي أسحبها. وبص في ملف وقالّي: «مدام مورسو دخلت هنا من تلت سنين. وحضرتك كنت سندها الوحيد». وكنت فاكر إنه بيلومني على حاجة فابتديت أشرحله، لكن قاطعني وقال: «يا إبني العزيز، حضرتك مش محتاج تبرر. أنا قريت الملف بتاع والدتك. حضرتك ماكنتش تقدر تلبي إحتياجاتها. هي كانت محتاجة ممرضة مخصوصة. وحضرتك مرتبك متواضع. وعلى كل حال، هي كانت سعيدة أكتر هنا». فقلت: «أيوة يا فندم». وهو كمل كلامه: «حضرتك عارف إنه كان عندها أصحاب، ناس من سنها. وكانت بتقدر تشاركهم إهتماماتها إللي راح عليها الزمن. حضرتك شباب وأكيد كانت بتزهق وهي معاك».
ده كان حقيقي. لما ماما كانت في البيت، كانت بتقضي وقتها في إنها تتابعني بعنيها من سكات. وكانت بتعيط كتير في أول كام يوم دخلت فيهم الدار. بس ده كان بسبب التعود. وبعد كام شهر، كانت هتعيط لو كانت خرجت من الدار. وده برضه بسبب التعود. عشان كده أنا من السنة إللي فاتت تقريبًا مابقيتش أروح هناك. وكمان عشان الزيارة دي كانت بتضيع عليا أجازتي يوم الحد، ده غير المجهود عشان أروح أركب الأوتوبيس وأقطع تذاكر وأقضي ساعتين في الطريق.
المدير كلمني تاني. لكن أنا تقريبًا مابقيتش مركز في كلامه. وبعدين قالّي: «أظن إن حضرتك عايز تشوف والدتك». فقومت من غير ما أقول حاجة وهو مشي ورايا لحد الباب. وشرحلي على السلم: «إحنا نقلناها على المشرحة الصغيرة بتاعتنا. عشان مانأثرش على الباقيين. كل مرة بيموت فيها نزيل، بقية النزلا بيفضلو يومين تلاتة متوترين. ودي حاجة بتخلي الخدمة صعبة». وعدينا على حوش كان فيه عواجيز كتير كانو عاملين مجموعات صغيرة وبيرغو. وكانو بيسكتو لما بنعدي. وكانو بيكملو المناقشات ورانا. زي ما تكون أصوات بغبغنات مكتومة. والمدير سابني قدام باب مبنى صغير وقال: «أنا هاسيبك يا مسيو مورسو. وأنا تحت أمرك في مكتبي. مبدأيا، ميعاد الدفن إتحدد الساعة عشرة الصبح. إحنا فكرنا إن بالطريقة دي حضرتك ممكن تاخد وقتك مع المرحومة. وكلمة أخيرة: الظاهر إن والدة حضرتك قالت لصاحباتها أكتر من مرة عن رغبتها في إنها تتدفن على الشرع. أنا قومت بالواجب بنفسي. لكن أنا حبيت أبلغك». فشكرته. ماما، ماكانتش ملحدة، بس عمرها ما فكرت في الدين طول ما هي عايشة.
دخلت. وكانت أوضة منورة جدًا. وكانت متبيضة بالجير وسقفها إزاز. وكانت مفروشة بكراسي ومساند على شكل حرف X. وكان فيه مسندين منهم، محطوطين في النص، وكانو شايلين نعش غطاه مقفول. وماكانش باين غير مسامير بتلمع، طرفها يا دوب مربوط، وباينة بوضوح على الألواح الخشب إللي كانت مدهونة ببوية سودا معمولة من شجر الجوز. وجنب النعش، كان فيه ممرضة عربية واقفة ولابسة بالطو أبيض ورابطة على راسها إيشارب لونه فاقع.
في الوقت ده، البواب دخل ووقف ورايا. وواضح إنه كان بيجري. وقالّي وهو بينهج: «إحنا غطناها، بس أنا لازم أفك مسامير النعش عشان حضرتك تقدر تشوفها». وقرب من النعش في الوقت إللي أنا وقفته فيه. وقالّي: «حضرتك مش عايز؟» جاوبته: «لأ». فوقف وأنا كنت محرج عشان حسيت إن أنا ماكنتش المفروض أقول كده. ففضل باصصلي فترة وسألني: «ليه؟» لكن من غير لوم، وزي ما يكون بيستفسر. فقلتله: «مش عارف». وساعتها رد عليا من غير ما يبصلي وهو بيبرم شنبه الأبيض وقال: «أنا فاهم». وعينيه كانت حلوة، كان لونهم أزرق فاتح وبشرته مِحْمِرَة شوية. وجابلي كرسي وهو قعد ورايا بشوية. والممرضة قامت وراحت ناحية باب الخروج. وفي الوقت ده، البواب قالّي: «اللي عندها دي قرحة». وبما إني ماكنتش فاهم، بصيت على الممرضة وشفت إن تحت عينيها شاش كانت لفاه حولين راسها. وعند المناخير، الشاش كان مبطط. وماكناش شايفين حاجة في وشها غير بياض الشاش.
لما الممرضة مشيت، البواب إتكلم وقال: «أنا هاسيب حضرتك لوحدك». مش عارف إيه الحركة إللي أنا عملتها لكن هو فضل واقف ورايا. ووجود حد في ضهري كده كان مضايقني. لكن نور العصرية الجميل كان مالي الأوضة. وكان فيه دبورين على السقف الإزاز والزَّنَّة بتاعتهم كانت مسموعة. وحسيت إن النوم بيغلبني. فقلت للبواب من غير ما ألفله: «حضرتك بقالك كتير هنا؟» فرد على طول: «خمس سنين»، وكأنه كان طول عمره مستنيني أسأله السؤال ده.
بعدها قعد يرغي كتير. ولو كان حد قالّه إنه هينتهي بيه الحال إنه هيبقى بواب في دار مسنين في مارنجو كان هيستغرب جدًا. كان عنده أربعة وستين سنة وكان من باريس، هنا قاطعته: «هو حضرتك مش من هنا؟» وبعدين إفتكرت إنه كلمني عن ماما قبل ما يوصلني عند المدير، وكان قالّي إننا لازم ندفنها بسرعة عشان الدنيا حر جدا في السهول، خصوصا في البلد دي. ووقتها عرفت منه إنه عاش في باريس وإنه مش قادر ينساها. وفي باريس، ساعات الناس بتفضل مع الشخص إللي مات تلت أو أربع تيام. لكن هنا الناس ماعندهاش وقت، قبل ما الواحد يستوعب فكرة إن فيه حد مات، بيلاقي نفسه بيجري ورا عربية نقل الأموات. ساعتها مراته قالتله: «إسكت، دي مش حاجات تتحكي للمسيو». فالراجل العجوز وشه إحْمَّر واعتذر. فاتدخلت وقلت: «أبدًا. أبدًا». وكنت شايف إن اللي بيحكيه ده صحيح ويستحق الإهتمام.
في المشرحة الصغيرة، عرفت منه إنه دخل الدار على إنه راجل فقير ومحتاج. وبما إنه كان حاسس إنه لسه قادر يشتغل، قدم على وظيفة البواب دي. فنبهته إن في الأول وفي الأخر هو واحد من النزلا. لكن هو قالّي لأ. وأنا كنت مصدوم أصلًا من طريقته وهو بيقول: «هما» و «التانيين» وفي مرات أقل كان بيقول: «العواجيز» وهو بيتكلم على النزلا، إللي كان بينهم ناس مش أكبر منه في السن. لكن بشكل تلقائي هو كان حاسس إنه حاجة مختلفة. هو كان بواب، يعني، لحد ما، كان له سلطة عليهم.
الممرضة دخلت في الوقت ده. والليل هجم مرة واحدة. وسواده خيم بسرعة جدًا على السقف الإزاز. البواب داس على مفتاح النور فعنيا إتعميت من الضوء إللي غرقنا فجأة. وعزم عليا أدخل أوضة الأكل عشان أتعشى. لكن أنا ماكنتش جعان. فعرض عليا إنه يجيبلي فنجان قهوة باللبن. وبما إني باحب أوي القهوة باللبن، فوافقت ورجع بعد شوية ومعاه صينية. وشربت. وحسيت ساعتها إن أنا عايز أدخن.
لكن إترددت عشان ماكنتش عارف إذا كنت ممكن أعمل كده أودام ماما ولا لأ. ففكرت ولقيت إن ده موضوع مالوش أي أهمية. عزمت على البواب بسيجارة ودَخَّنَّا سوا.
في لحظة قالّي: «حضرتك عارف، أصحاب المدام والدتك هما كمان هييجو يسهرو جنبها. هي دي العادة. لازم أروح أجيب كراسي وقهوة سادة». وسألته لو ممكن نطفي لمبة من اللي منورين. عشان إنعكاس الضوء على الحيطان البيضة كان تاعبني. فقالّي إن ده ماكانش ممكن. الكهربا كانت معمولة بالشكل ده: يا ينور كله يا مافيش. وبعدها ماهتمتش بيه أوي تاني. وخرج ورجع ورص الكراسي. وعلى كرسي منهم رص شوية فناجين حوالين أبريق قهوة. وبعدها قعد قدامي، على الناحية التانية من ماما. والممرضة كمان كانت موجودة في آخر الأوضة ومديانا ضهرها. فماكنتش شايف هي بتعمل إيه. لكن قدرت أخمن إنها بتشتغل تريكو من حركة دراعاتها. والجو كان لطيف والقهوة دفتني وريحة الليل والورد كانت داخلة من الباب المفتوح. وأظن إني غفلت شوية.
صوت إحتكاك هو إللي صحاني. وعشان كنت مغمض عينيا، لما فتحتهم حسيت إن بياض الأوضة كان منور أكتر. وماكانش فيه أي
خيال قدامي، وكل حاجة، وكل ركن، والزوايا كلها كانت مرسومة بنقاء يجرح العينين. وأصحاب ماما دخلو في الوقت ده. وكانو كلهم على بعضهم عشرة. وكانو بيتسحبو من سكات في النور ده إللي بيعمي. وقعدو من غير ما ولا كرسي يزيق. أنا عمري ماشفت حد بوضوح زي ما أنا شفتهم كده، ومافاتتنيش ولا تفصيلة من وشوشهم أو لبسهم. وبالرغم من كده ماكنتش سامعهم وكان صعب عليا إن أنا أصدق إنهم موجودين في الحقيقة. وتقريبًا الستات كلهم كانو لابسين مريلة، والشريط إللي كان مشدود على وسطهم كان مبيين أكتر بطنهم المنفوخة. وماكنتش لاحظت قبل كده أبدًا لأي درجة الستات العواجيز ممكن يبقى عندهم بطن. والرجالة كانو تقريبًا كلهم رفيعين أوي وماسكين عصيان. الحاجة إللي صدمتني في وشهم، هي إني ماكنتش شايف عينيهم، لكن كنت شايف بس ضوء من غير لمعة في وسط عش من التجاعيد. ولما قعدو، معظمهم بصولي وهزو راسهم بإحراج، وبقهم إللي ماكانش فاضل فيه أسنان كان واكل شفايفهم كلها، وماكنتش قادر أعرف إذا كانو بيسلمو عليا ولا دي مجرد تشنجات. وبارجح إنهم كانو بيسلمو عليا. ولاحظت في اللحظة دي إنهم كلهم كانو قاعدين قدامي بيهزو راسهم حوالين البواب. وجالي للحظة إحساس عبيط إنهم كانو هنا عشان يحاكموني.
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
4 Replies to “فصل من رواية «الغريب» لألبير كامو (ترجمة بالمصرية)”
ممتاز
أنا أشعر بشعور غريب لكنّه ليس سعيد على الإطلاق، إلى أين، إلى أين يتجه بنا هذا العصر الذي نعيشه، هذا عصر مجنون العيش فيه ورطة.
تسلم ايدك، محستش انها مترجمة