نرى في الرواية القدرة على حفظ تاريخ فلسطين، حيث طَوَعَت الرواية الاتجاه السياسي لا ليظهر مباشرةً إنما ليأخذ الصورة الأدبية التي تحميه من التحول إلى عمل سياسي محض.

الوطن محفور في الذاكرة.. قراءة في رواية «الطنطورية»

مقال: مارينا أشرف


رضوى عاشور، عن العربي الجديد

«أنظر من بعيد: امرأة في الخامسة والثلاثين تمشي كأنها تركض أو تركض ركضًا غريبًا مشتتًا على غير الركض ولا يقصد أي مكان. لماذا؟ تريد الهروب من حكايتها؟ من مشاهد أطلَّت من مكامنها على غير توقع... فانفتح على مصراعيه الباب المغلق منذ سنين بقفل ومفتاح كبير وسُقَّاطة. كيف ينفتح هذا باب عتيق وثقيل دون صوت ولا صرير؟ انفتح وكان ما كان» ص 132.

بين أنين الشتات والحنين إلى الوطن، تتناول الدكتورة رضوى عاشور القضية الفلسطينية في صورة أدبية. بطلتها السيدة الطّنطُوريَّة رُقَيَة - نسبة إلى الطنطورة بلدة بفلسطين - حيث تقف مُمَزقَة ومُتعَبة من لحظة إدراكها معنى كلمة تهجير إلى لحظة عودتها إلى بلادها وحمل حفيدتها وتسليمها مفتاح دارها. فبتناول القضية الفلسطينية، تظل الرواية مرجعًا حيًا يُذكِّر أجيالًا بأهم الأحداث التي جرت في فلسطين والأحداث التي جرت للفلسطينيين في لبنان من القوات اللبنانية ذاتها تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي. كيف للوطن أن يضمحل مكانيًا ولكن يظل محفورًا في الذاكرة ويظل المأوى الأخير الذي تذهب إليه البطلة لا لتجد أهلها الذين قُتلوا ولا أبنائها الذين تشتتوا ولا منزلها الذي تحمل مفتاحه بعنقها بل لتجد حريتها رغم الاحتلال القائم. تذهب الرواية في سرد بشاعة الحرب وقسوة التهجير، فلا يعرف المرء ما الذي يجب أن يحمله معه، هل يحمل أشياءه الهامة، أم أن مادية الأشياء لا تُقارن بحمله لروحه ولهمه ولتعرضه لصدمات لا يقوى الزمن على محوها.

تبدأ أحداث الرواية بالفرح المقترن دائما بالقلق، فيختفى الفرح ويحل محله الفقد والألم. فالفرح كان في «طرح البحر» وهو الفصل الأول من الرواية حيث جاد البحر على البطلة بخطيب، وسرعان ما حل الألم بالاحتلال الإسرائيلي للبلدة وبدأت معاناة رُقَيَة بدايةً من مقتل والدها وأخويها، مرورًا بهروبها إلى لبنان وزوجها من (الأمين) أبن عمها ورزقها بثلاثة أبناء وطفلة اعتنت بها، نهايةً بعودتها إلى فلسطين مرة أخرى.

نرى في الرواية القدرة على حفظ تاريخ فلسطين، حيث طَوَعَت الرواية الاتجاه السياسي لا ليظهر مباشرةً إنما ليأخذ الصورة الأدبية التي تحميه من التحول إلى عمل سياسي محض. لذلك تتجلى الأفكار الرئيسية دائمًا ليس في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الأبدي مباشرةً، إنما في الصراع الداخلي للشخصيات، في لحظات الخضوع والمواجهة، في لحظات الكر والفر، في الصدمة جراء الموت، والخوف على الأبناء، والأمل الذي يمنحه الأحفاد. لهذا السبب لم تخل الرواية من الرمز، ولكن الرمز هنا له قصة أخرى. فالرمز في الرواية - وهو ما نشير إليه في صورة مفتاح المنزل الذي يرافقنا بطول الرواية - ليس رمزًا أدبيًا بقدر ما هو الوهم الذي يلجأ إليه المرء في واقعه، فيتمسك به أملًا في تحقيق هدفٍ ما. من بداية حمل أم رُقَيَة السيدة (زينب) لمفتاح منزلها في حركة تلقائية بعد التهجير أملًا في العودة إلى الدار، ثم استلام رُقَيَة المفتاح بعد وفاة أمها وانتقال نفس الأمل لديها، نهايةً بتسليم مفتاح الدار كهدية لحفيدتها الرضيعة حين عاد ابنها (حسن وزوجته وأبناؤه). ومكنون الهدية هنا ليست في كونها هدية مادية إنما الأمل المتوارث عبر الأجيال ليس بالعودة إلى الدار فقط بل باستعادة الوطن والحرية. الرمز أيضًا تسلل إلى الشخصيات بصورة غير مباشرة، لتصبح الشخصيات نفسها رمزًا يقبل التأويل؛ فعلى سبيل المثال نجد في شخصية عبد الرحمن حبال الماضي وأحلام العودة، أما في الأبناء الثلاثة فنجد تمثيلًا « [للهزة الجوهرية] في التركيب الاجتماعي لعرب فلسطين المُحتلة»[1]؛ فمنهم من تغير حاله والتحق بطبقة اجتماعية غير تلك التي كان عليها ومنها من ظل على حاله ومنها من زادت مقاومته ومحاولاته المستميتة في الدفاع عن بلاده. فالرمزية في الرواية لم تُستخدم فقط في إظهار بشاعة الحرب والتهجير والتشرد إنما أيضًا في إظهار التفكك الذي أصاب صلب المجتمع الفلسطيني.

تنتمي الطّنطُوريَّة إلى أدب المقاومة. وهو أحد فروع الواقعية، وقد أسس هذا الأدب غسان كنفاني وتناوله في كتابيه: الأول أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948 – 1966 وكتابه الثاني الذي يعتبره بحثًا تكميليًا للكتاب الأول الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968، وقد عرف غسان أدب المقاومة على إنه أدب «المقاومة على صعيد الرفض، وعلى صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف»[2]. فالطّنطُوريَّة هنا هي رفض للاحتلال الإسرائيلي بأشكاله المتعددة، وتمسك بالبلاد الأم والعودة إليها. ولكن لم تتوقف الطّنطُوريَّة عند ذلك بل أضافت بُعدًا جديدًا لأدب المقاومة الواقعي، فالمقاومة هنا لم تتوقف على مقاومة الاحتلال وحسب، بل وتسللت إلى النفس البشرية وأصبحت مكونًا رئيسيًا من مكوناتها. فالمقاومة تجلت في رفض أي رغبة للخضوع والاستسلام وهو ما تجلى بطول الرواية: ففي البداية عالجت الرواية مفهوم الصمت جراء الاحتلال، وهو ما ظهر في صدمة رُقَيَة بعد رؤيتها لوالدها وأخويها مقتولين وعدم قدرتها على الحديث وصدمة الأم وعدم تصديقها لما حدث لهما وهو ما قد يوحي بالقبول المؤقت ليظهر بعد ذلك مفهوم الرفض وتجليه في المقاومة الدائمة بطول الرواية. وتتجلى المقاومة في أبهى صورها في المشهد الأخير من الرواية حين يقف الأبطال وبينهم سور الاحتلال وتُحمل الطفلة من الخارج إلى الداخل:

«كان حسن في الجانب الآخر من السلك يلوَّح. يبتسم ويقترب وهو يشق طريقه بين الحشد. أنا هنا يا أمي. هنا. هنا... انتبه أن فاطمة معه والأولاد. ميرا وأنيس يقفان بجوار أمهما وهي تحمل بين يديها الوليدة التي وضعتها قبل أربعة شهور. يأخذها حسن من فاطمة ويرفعها عاليًا. يمدّ رجل طويل ذراعه ويأخذها منه... ويعطيها لي. أحملها بين ذراعيّ. أمسح عينيّ لأتمكّن من التحقُّق من ملامحها. (رقية الصغيرة) يقول حسن بصوت عال...» ص 453.

أما من ناحية الأسلوب، فتتمتع الرواية بعدة عوامل تشجع القارئ على الاستمرار بقراءتها. فالعامل الأول هو السرد، حيث تتمتع الرواية بأسلوب سرد تاريخي شيق له أهميتان؛ الأولى جعل العمل الفني عملًا ممتعًا، حيث تتداخل الأحداث الواقعية مع القصة الخيالية لشخصيات الرواية فتخلق عالمًا يُشِعِر القارئ للحظات بأن الرواية مأخوذة عن قصة حقيقية بالفعل، والأهمية الثانية تكمُن في جعل العمل الفني مُستودع للأحداث التاريخية التي مرت بها فلسطين مما يجعله شاهدًا وموثقًا لأجيال عاصرت ولأجيال قادمة. أما العامل الثاني هو تنوع شخصيات الرواية وتداخلها فشخصية رُقَيَة تختلف عن شخصية أمها وخالتها، وشخصية مريم - ابنة رُقَيَة - تختلف عن رندة - زوجة صادق بن رُقَيَة - وأبناء رُقَيَة أنفسهم - صادق وحسن وعبد - مختلفين في الطباع والفكر، وقد اتجهت الكاتبة إلى تكرار استخدام الأسماء، النهج الذي يشير إلى الاستمرار والمداومة وأن القتل أو الموت قد يؤثر على حياة أشخاص بعينهم ولكن ليس لهما تأثير على كيان أكبر ألا وهو الهوية الفلسطينية ذاتها. أما العامل الثالث والأخير فهو اللغة حيث استخدمت الكاتبة لغة عربية فصحى لا تخلو من اللهجة الفلسطينية وتعبيراتها وأغنياتها.


[1] غسان كنفاني، أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948 – 1966، ص 11.  

[2] غسان كنفاني، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968، ص 9.  


* المقال خاص بـ Boring Books

** تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالها دون إذن منها