يبدو جوردان بيترسون عميقًا جدًا وقد أقنع الكثير من الناس بأخذه على محمل الجد. وإن لم يكن لديه تقريبًا أي شيء ذي قيمة ليقوله.
المثقف الذي نستحقه
مقال ناثان ج. روبينسون[1]
نُشر في Current Affairs، مارس 2018
ترجمة: أحمد طارق عبد الحميد
إذا كنت تريد أن تبدو عميقًا جدًا وتقنع الناس بأخذك على محمل الجد، وإن لم يكن لديك أي شيء ذي قيمة لتقوله، فسأقدم لك منهجًا مُجربًا موثوقًا. أولًا، تناول حقيقة بديهية أو مبتذلة شديدة الوضوح، تأكد أنها تتضمن شيئًا من الفطنة، لكنها قد تكون في الواقع غامضة. شيء من قبيل «إذا كنت تبالغ في الإرضاء، ستتعرض أحيانًا للاستغلال» أو «الكثير من القيم الأخلاقية تتشابه عبر المجتمعات البشرية». حاول بعد ذلك إعادة صياغة الجملة البديهية باستخدام أكبر قدر ممكن من الكلمات، بقدر ما تستطيع من الإبهام، دون تكرار كلامك بالضبط. استخدم لغة اصطلاحية بدرجة كبيرة مستمدة من مجالات أكاديمية مختلفة، حتى لا يتمكن أحد أبدًا من تحصيل التدريب الكافي لتقييم عملك بصورة شاملة، ركّب نظريات مستفيضة بمكونات عديدة، ارسم مخطّطات، استخدم الكتابة المائلة لتدل على استخدامك الكلمات بمعنى محدد ومتفرد جدًا. لا تقل أي شيء محدد تمامًا، وإذا فعلت، بالغ بشدة في تقييده حتى يمكنك الإصرار دائمًا على أنك كنت تعني العكس. مارس التبشير بعد ذلك: تحدث بكل ثقة ممكنة، كما لو أنك تشارك حقيقة من عند الله. لا تقبل أي نقد: كن مصرًا على أن أي تشكك ينشأ إما من سوء تفسير لكلامك وإما أنه يُقر في الواقع بالفعل أنك على حق. تحدث كثيرًا قدر الإمكان، واستمع قليلًا قدر الإمكان. اتبع هذه الخطوات وسيكون نجاحك مضمونًا. (شريطة أن تكون ذكرًا قوقازيًا).
يبدو جوردان بيترسون عميقًا جدًا وقد أقنع الكثير من الناس بأخذه على محمل الجد. وإن لم يكن لديه تقريبًا أي شيء ذي قيمة ليقوله. لا بد أن يكون هذا واضحًا لأي شخص قضى القليل من الوقت في فحص كتاباته وخطاباته نقديًا، فهي مرتبكة وطنانة وجاهلة بشكل هزلي. إنها بلا معنى في جزء منها، وتافهة في الجزء الآخر. في عالم عقلاني، كان بيترسون سيُعتبر معتوهًا مملًا يأمل المرء ألا يجلس بجواره في قطار. لكننا لا نعيش في عالم عقلاني. إن منزلة بيترسون في الواقع مذهلة. يحتل كتابه «12 قاعدة للحياة» المركز الأول بين الكتب الأكثر قراءة على موقع أمازون[2]، حيث يحصل تقييمه على 5 نجوم. كان هناك شخص ما يقول إنه عندما صادف نسخة ورقية من كتاب بيترسون الأول «أردت أن أحمله بين يدي وأتأمل أهميته لدقائق قليلة، كما لو أنه من مؤلفات شيكسبير أو إنجيل جوتنبرج». وقد أعلنت الصحف الرائدة عالميًا أنه من بين أهم المفكرين الأحياء. تقول التايمز «رسالته ضرورية بشكل كبير»، ويقر كاتب عمود في الجارديان على مضض أن بيترسون «جدير بالأخذ على محمل الجد». يعتقد ديفيد بروكس أن بيترسون قد يكون «المثقف الشهير الأكثر تأثيرًا في العالم الغربي الآن». لقد وُصف بأنه «صوت الفكر المحافظ الأعمق والأوضح في العالم اليوم» الرجل الذي يستحق عمله أن «يجعله شهيرًا على مر العصور». ويشير إليه مالكوم جلادويل بأنه «عالم النفس المدهش». ولا يقتصر الاعتراف بأهمية بيترسون على أعضاء الصحافة الشعبية: إن رئيس قسم علم النفس بجامعة هارفارد قد أثنى على أعظم أعماله «خرائط المعنى» بوصفه «عبقريًا» و«جميلًا». ويتساءل زاكاري سلايباك من مؤسسة التعليم الاقتصادي كيف يتسنى لأي شخص جاد شطب قيمة بيترسون، قائلًا «بل ينبغي أن يكون المثقف الأشد معارضة لبيترسون قادرًا على الإقرار بأن مشروعه جيد خالص». إننا نواجه بالتالي لغزًا: إذا لم يكن لدى جوردان بيترسون شيء ليقوله، كيف حظي بهذا القدر الكبير من التقدير؟ إذا كان من «الواضح» جدًا أن بالإمكان شطبه باعتباره محتالًا، لم يحترم الكثير من الناس عقليته؟
لكن قبل تناول سر شعبية بيترسون، علينا فحص عمله. إذا كان العمل في الواقع «عبقريًا» وفطنًا، فلن يكون هناك سر في النهاية: إنه يُعتبر مفكرًا عميقًا لأنه مفكر عميق. وقد كان العديد من نقاد بيترسون غير منصفين لعمله، يستهزئون به دون قراءته، أو يقذفونه بالتحقير (مثل مقالَي «الرجل الذكي في نظر الرجل الغبي [the stupid man’s smart person]» أو «الأب البديل والمسيح للحمقى والمغفلين [Messiah-cum-Surrogate-Dad for Gormless Dimwits]») أثار هذا حتى الآن سخط جمهور بيترسون من المعجبين، وعندما تُطبع المقالات التي تنتقده تمتلئ أقسام التعليقات بأناس يتهمون الكاتب (عن حق غالبًا) بأنه فشل في أخذ بيترسون على محمل الجد. إن لقاءً مشينًا على القناة 4 مع كاثي نيومان، حيث وضعت نيومان الكلام على لسان بيترسون مرارًا («أنت تقول إذن كذا»)، أكد الانطباع بأن التقدميين يحاولون سحق بيترسون باتهامه باعتقادات لا يحملها. كونر فريدرسدورف، أحد كتاب ذي أتلانتيك، قال إن بيترسون ضحية «سوء فهم مُغرق» وشجع الناس على فحص ما «يقوله بالفعل».
لكن بتفحص عمل بيترسون عن كثب، أعتقد أن «سوء فهمه» يعود جزئيًا إلى قراءة اليساريين له من خلال منشور إيديولوجي. ولكن السبب الآخر الأهم لـ«سوء فهمه» هو أنه غامض ومتذبذب باستمرار حتى يستحيل على الشخص معرفة ما «يقوله بالفعل». يمكن للناس خوض جدالات حادة حول بيترسون، ويرونه أي شيء، من فاشي مدافع إلى ليبرالي مستنير، لأن كلماته الفارغة تشبه نوعًا ما اختبار رورشاخ[3] الذي قد تنعكس عليه تأويلات لا تحصى.
يتضح هذا على الفور من افتتاحية كتاب بيترسون «خرائط المعنى» (1999)، ملخص من 600 صفحة لنظرياته الأساسية والذي استغرق في إكماله 15 عامًا. إن خرائط المعنى، في حدود تلخيصه الممكنة، يدور حول الطريقة التي يولّد بها الناس «المعنى». إن بيترسون يقصد بـ«توليد المعنى» ظاهريًا شيئًا من قبيل «معرفة كيف نتصرف»، لكن تعريف الكلمة فضفاض إلى حد ما:
- «المعنى هو تجلي المسار التكيُّفي الفردي الإلهي»
- «المعنى هو التوازن المطلق بين... فوضى التحول والإمكان و... مبدأ النظام الفطري»
- «المعنى تعبير عن الغريزة التي تقودنا للخروج إلى المجهول حتى نتمكن من الهيمنة عليه»
- «المعنى يظهر عندما يجتمع كل شيء في رقص نشوان بغرض واحد»
- «المعنى يعني تضمُّنًا للناتج السلوكي»
- «ينبثق المعنى من التفاعل بين إمكانيات العالم وبنية القيمة التي تعمل داخل ذلك العالم»
إن الإجابة التي يقدمها بيترسون هي أن الناس تعرف كيف تتصرف بالرجوع إلى مجموعة من القصص المشتركة، التي تتضمن «نماذج عليا [archetypes]» تطورت مع مسار تطور جنسنا. إنه يعتقد أننا نستطيع بدراسة الأساطير، معرفة القيم والأطر المشتركة عبر الثقافات، وبالتالي يمكننا فهم البُنى التي تقودنا.
لكن ها أنا ذا مستعد لتقديم ملخص لعمل بيترسون أكثر تماسكًا مما يستحقه بالفعل. وعلى كل حال، لو أن «قصصًا بشرية كثيرة تتمتع بدروس أخلاقية مشتركة» هو ما يقصده، لكان كلامه شيئًا غاية في الوضوح وما كان لأحد أن يفكر باعتباره تبصُّرًا جديدًا. ينجح بيترسون في مد هذه الفكرة على مدار مئات الصفحات، ومطها في نظرية مسهبة غير قابلة للإثبات أو النفي أو الفهم، تحيط بكل شيء من وجهة التاريخ إلى معنى الحياة إلى طبيعة المعرفة إلى بنية اتخاذ القرار البشري إلى أصول الأخلاق. (إليك مبدأ مهم لتتذكره، إذا بدا أن كتابًا يتناول كل شيء، فهو غالبًا لا يتناول أي شيء في الواقع). إن اختيار فقرة عشوائيًا سيعكس الطابع المميز لما يقدمه:
«إن المعرفة الإجرائية، المتولدة خلال السلوك البطولي، ليست مُنظمة ومُدمجة داخل المجموعة والفرد كنتيجة للتراكم البسيط. الإجراء (أ)، المناسب في الموقف الأول، والإجراء (ب)، المناسب في الموقف الثاني، قد يتصادمان في تعارض مشترك عنيف لدى الموقف الثالث. في مثل هذه الظروف ينبثق الصراع البين نفسي intrapsychic أو البين شخصي interpersonal. وعندما يظهر نزاع antagonism مثل هذا، تصبح إعادة التقييم الأخلاقية ضرورية. وكنتيجة لإعادة تقييم كهذه، يتم تصنيف الخيارات السلوكية بوحشية، أو، وهو أمر أقل تكرارًا، يتم تدمير أنظمة أخلاقية بالكامل وإعادة تنظيمها واستبدالها. ويحدث هذا التنظيم وإعادة التنظيم كنتيجة (لحرب)، بأشكالها الصلبة والمجردة والبين نفسية أو البين شخصية. في أبسط الأحوال، يصير الفرد خاضعًا لصراع غير محتمل، كنتيجة للتضارب (العاطفي) المُدرك لاثنين أو أكثر من النتائج المحبوسة لإجراء سلوكي محدد. ينبعث مثل هذا الصراع غالبًا، في المجال البين نفسي الخالص، عندما يتداخل تحصيل المرغوب فيه في الحاضر بالضرورة مع تحصيل المرغوب فيه (أو تجنب المُتخوف منه) في المستقبل. الحل البات المُرضي لمثل هذا الصراع (بين الإغواء و«النقاء الخُلقي»، على سبيل المثال) يتطلب تشييد نظام أخلاقي مجرد، قوي بما فيه الكفاية لإتاحة سيطرة ما تمثله الواقعة في المستقبل على الاستجابة لما تمثله الآن. بل إن ذلك التشييد، على الرغم من ذلك، قاصر بالضرورة عندما يتم اعتباره فحسب ظاهرة (بين نفسية). إن الفرد، بمجرد استطاعته إدماج المتطلبات التحفيزية المتنافسة بشكل متماسك في المجال الخاص، يظل مع ذلك مهيأ للصراع مع الآخر، على مدار التحولات الحتمية للتجربة الشخصية. يعني هذا أن الشخص الذي توصل لتقبل نفسه، أو نفسها -على الأقل من حيث المبدأ- لا يزال خاضعًا لسوء الانتظام العاطفي الناشئ حتميًا عن التفاعل البين شخصي. والحال أيضًا أن تطويعًا كهذا يدل في الواقع على تنظيم (بين نفسي) غير كافٍ، لأن العديد من (الاحتياجات) الأساسية لا يمكن تلبيتها إلا من خلال التعاون مع آخرين».
المهم في هذا النوع من الكتابة هو أن تبدو بسهولة كأنها تحتوي على تبصُّر مفيد، لأنها تقول أشياء كثيرة إما أنها صحيحة أو «تحس أنها صحيحة»، وتحقق ذلك بطريقة تجعل القارئ يشعر بالغباء لأنه لم يفهم في الواقع. (العديد من الآراء بشأن الكتاب على أمازون تتضمن شيئًا مثل: لست على يقين من فهمه، لكنه عبقري بلا شك). ليس الأمر أنه خالٍ من المحتوى، بل إن السبب في الواقع هو أن جزءًا منه بالتحديد يبدو وقعُه صحيحًا وبهذا يمكنه إقناع القراء بأهميته. ومن الصحيح بالتأكيد أن بعض الإجراءات تفلح في حالة ما لكنها لا تفلح في الأخرى. من الصحيح أن الأنظمة الأخلاقية الجيدة لا بد أن تكون قادرة على التفكير بشأن المستقبل من أجل معرفة ما يلزم فعله في الحاضر. لكن ما يتبقى هو لغة بالغة التجريد لا يمكن إثباتها أو نفيها. (التعبير القديم «الجديد فيه غير صحيح، والصحيح فيه غير جديد» ينطبق هنا).
مقطع آخر يقدم فيه بيترسون نظريته عن القانون:
«القانون شرط مسبق ضروري للخلاص، إذا جاز القول؛ ضروري ولكن غير كافٍ. يقدّم القانون الحدودَ التي تحد الفوضى، ويتيح النضج المصون للفرد. يضفي القانونُ الانضباط على الإمكانية، ويتيح للفرد المنضبط تحقيق إمكانياته -تلك المعنويات البين نفسية- تحت السيطرة الطوعية. يتيح القانون تطبيق مثل هذه الإمكانية لمهمة الوجود المبدع الشجاع - يتيح للمياه الروحية تدفقًا محكومًا إلى وادي ظل الموت. إن القانون باعتباره مطلقًا، على الرغم من ذلك، يضع المرء في مكانة المراهق الأبدي، المعتمد على الأب في كل قرار حيوي، يمحو عن الفرد المسؤولية عن الفعل، وبالتالي يمنعه أو يمنعها من اكتشاف جلال الروح الكامن. تظل الحياة بلا قانون فوضوية، وغير محتملة عاطفيًا. الحياة كقانون خالص تصبح عقيمًا، ولا تُطاق بالقدر نفسه. إن سلطان الفوضى أو العقم يولّد بالقدر نفسه النقمة أو الكراهية القاتلة».
مرة أخرى: لا أقول إنه مخطئ عندما يقول إن للقانون وظيفة انضباطية، أو إن الإفراط في القانون خانق، بينما التفريط فيه فوضى. لكن كل هذه الأمور عن «المعنويات البين نفسية» و«تدفق المياه الروحية» تُذكر فحسب، دون أي تفسير واضح على الإطلاق، ناهيك عن إثباتها. وإذا طلبت منه توضيحها، فلن تحصل إلا على سلسلة طويلة من المفردات المجردة الإضافية. (للمفارقة، لا يحتوي خرائط المعنى على خرائط أو معنى). إن عالم الاجتماع ش رايت ميلز، في دراسته النقدية «للمنظّرين الكبار» في مجاله، الذين استخدموا الإطناب لإخفاء افتقارهم للعمق الفكري، أشار إلى استجابة الناس الإيجابية لهذا النوع من الكتابة لأنهم يرونها «كمتاهة مدهشة، تكمن روعتها بالذات في افتقارها المبهر أغلب الأحيان لإمكانية الفهم». لكن ميلز يقول إن مثل هؤلاء الكتاب «مُقيدون بتصلُّب لمثل هذه المستويات العالية من التجريد حتى إن (التصنيفات) التي يصطنعونها -والعمل الذي يقومون به لاصطناعها- تبدو في الأغلب لعبة مفاهيم عقيمة وليس جهدًا للتعريف المنهجي -أي بطريقة واضحة ومتسقة، للمشكلات قيد التناول، ولإرشاد مساعينا لحلها».
إن الغموض المتعمد ليس مجرد محاولة يائسة لتزييف الابتكار رغم ذلك. بل هو تكتيك أيضًا لإخضاع القراء المستمر لسلطة الكاتب. لا يستطيع أحد أن يتأكد من فهم مقصد المؤلف، وهو ما ينعكس تأثيره على القارئ فيجعله يشعر بدونية عميقة وإعجاب بمعرفة الكاتب العملاقة، المعرفة التي لا بد أنها توجد على مستوى أعلى بكثير جدًا من تلك الموجودة لدى البشر الفانين العاديين والتي نعجز حتى عن البدء في تقديرها. إن بيترسون في الواقع صريح في إصراره على أنه حقق تجليات أبعد من إدراك الأشخاص العاديين. إن مفتتح الكتاب مهيب بشكل هزلي («ليتم ما قيل على لسان النبي: أتكلم بالأمثال وأعلن ما كان خفيًا منذ إنشاء العالم» - متّى 13:35) بل ويضم بيترسون للكتاب خطابًا إلى والده يحاول فيه إبلاغه عن عظمة ما اكتشفه:
«لا أدري يا أبي، لكني أعتقد أني اكتشفت شيئًا ليس لأحد غيري أدنى فكرة عنه، ولست واثقًا من أن بإمكاني أن أوفيه حقه. إن مداه شديد الاتساع فلا أرى منه بوضوح في المرة الواحدة إلا أجزاء، ومن العسير تدوينه بصورة مفهومة.... على كل حال، يسرني أنك وأمي على خير ما يرام. شكرًا لكما على توليكما أمر كشوفي الضريبية على الدخل».
(من الممتع أن تقرأ الخطاب لنفسك وتتخيل أنك والد بيترسون وهو يحاول فهم ما يفعله ابنه في حياته).
غني عن القول إن الشخص عندما يكون مقتنعًا هكذا بعبقريته، فقد يكون غافلًا عن المدى الذي بلغه من الشرود بعيدًا عن عالم الحس والعقل. إن المخطّطات والرسوم التوضيحية في خرائط المعنى مذهلة. إنها تحف من الهراء الذي لا يمكن إثباته:
كيف للمرء حتى أن يعالج مادة كهذه؟ إنها لا يمكن «تكذيبها». هل يحكمنا تنين الفوضى؟ هل التنين مؤنث؟ هل لـ«(حالة) نعيم ما قبل الشعور preconscious» «مواجهة طوعية مع المجهول»؟ هل العرَضيّ حقًا أكثر جلاءً من الإجرائي؟ هذه ليست أسئلة ذات إجابات، لأنها ليست أسئلة ذات معنى.
إن تضخيم الأمر الواضح ليصبح مثيرًا للإعجاب هو جزء من قدرة بيترسون على العمل الناجح في نوعية «التنمية البشرية». إنه يستطيع إعطاء الناس النصيحة الحياتية الأبوية الأكثر بساطة (نظف غرفتك، افرد ظهرك) بينما يجعل وقعها في الأذن يشبه الحكمة. تأمل ملخص المبادئ هذا من نهاية 12 قاعدة للحياة:
«ما الذي يجدر بي فعله لتقوية معنوياتي؟ لا تكذب، أو تفعل ما تزدريه.
ما الذي يجدر بي فعله للسمو بجسدي؟ أستخدمه فقط في خدمة روحي.
ما الذي يجدر بي فعله مع أصعب الأسئلة؟ أعتبرها بوابة على طريق الحياة.
ما الذي يجدر بي فعله مع محنة الفقير؟ الاجتهاد لجبر خاطره من خلال النموذج الجيد.
ما الذي يجدر بي فعله عندما يستدعيني الحشد العظيم؟ أقف شامخًا وأنطق بحقائقي المكسورة».
إنها طرق منمقة بأسلوب إنجيلي لقول: تحدث بصدق، كن صادقًا أمام نفسك، اعتبر التحديات فرصًا، كن نموذجًا جيدًا، و، آه، ألق محاضرات واثقة طويلة لحشدك الهائم من المعجبين. (لاحظ الرد على سؤال «محنة الفقير»، والذي لم يتمثل في تقديم مساعدة حقيقية له، بل استعراض كم أنت أفضل لتصبح لديه قدوة يقتدي بها). إن أسلوب كتابة بيترسون يضيف التواءات باستمرار ليخفي بساطة ذهنه؛ لن يقول إذن «انتشر سرطان الرجل»، بل سيقول إن الرجل «سقط فريسة جنوح تلك الحالة المخيفة للانتشار». كلما بذل الناس جهدًا أكبر في محاولة فهم ما تقوله، ازداد شعورهم بالإنجاز عند فهمه، وبدوتَ محنكًا أكثر. إنه مكسب للجميع.
بعض بيترسونيات إضافية:
- «لا يوجد وجود من دون نقص». بحق.
- «المشاركة لا تعني التنازل عن شيء قيم لديك دون الحصول على شيء بالمقابل. إن هذا على العكس هو ما يخشى كل طفل يرفض المشاركة أن يكون معناها. المشاركة تعني، على وجه الدقة، المبادرة بعملية المبادلة». قد يعني هذا أي شيء، حسب التفسير: إذا كنت أشارك طعامي مع شخص جائع، ولم أطلب منه شيئًا في المقابل، لعلي رغم ذلك «حصلت على شيء ما». لكن المبدأ قد يُفسر باعتباره دفاعًا عن البخل أيضًا. يمكنك العثور فيه على تبرير لأي آراء سائدة تعتقدها بالفعل.
- «لا يمكنك وضع قواعد للاستثنائي». وفق التعريف.
- «المستقبل مكان كل الوحوش الممكنة». المستقبل مكان كل أي شيء ممكن.
- «لا يهتم الناس بما إذا كانوا ينجحون أم لا؛ إنما يهتمون بما إذا كانوا يفشلون أم لا». وهو أمر مختلف بكل وضوح.
- «لا يسعى الناس للسعادة، إنما يسعون لتجنب الأذى». أنا أسعى للسعادة في الواقع، شكرًا.
- «الحياة معاناة. هذا واضح. لا توجد حقيقة لا تقبل الجدل أبسط من هذه». كل شيء «لا يقبل الجدل» إذا لم يكن من الواضح ما نعني به.
- «لا يمكن حمايتك من الأشياء التي تخيفك وتؤذيك، لكن إذا اعتبرت نفسك هذا الجزء من وجودك المسؤول عن التحول، فإنك دائمًا كفء، أو أكثر من كفء للأشياء التي تخيفك». ما لم تكن خائفًا من النمور، والتهمتك النمور بالتالي.
إن كثرة التفسيرات الممكنة مهم للغاية. إنه يجعل من المستحيل التغلب على بيترسون في جدال، إذ في كل مرة يحاول المرء حثه للدفاع عن رأي، يمكنه الإصرار على أنه يعني بكلامه شيئًا آخر. على سبيل المثال، إنه يرى العالم منقسمًا بالأساس بين قوى «الفوضى» وقوى «النظام»، ويوضح الاختلاف بينهما:
«[الفوضى هي] ما يمتد، للأبد ومن دون حد، أبعد من حدود الدول كلها، والأفكار كلها، والمجالات كلها... إنها الأجنبي، الغريب، عضو عصابة أخرى، الحفيف بين الشجيرات... غضب أمك الخفي... الفوضى مرتبطة رمزيًا بالمؤنث... النظام، على العكس، منطقة مُستكشفة. إنه هرمية المكان والمكانة والسلطة الممتدة لمئات الملايين من السنين. إنه بنية المجتمع. إنه البنية التي تقدمها البيولوجيا أيضًا... إنه علم الأمة... إنه عظمة التراث، صفوف المقاعد في غرف المدارس، القطارات التي ترحل في موعدها... في نطاق النظام، يسير كل شيء وفق مراد الله».
من السهل جدًا سماع أصداء السلطوية، بل والفاشية، في هذا الكلام: الرجال الأقوياء ينشئون النظام، الذي هو إرادة الله، والبنية الاجتماعية يحفظها احترام السلطة والتراث والهرمية والأعلام. (عجبًا، إنه يتحدث حتى عن القطارات التي تعمل وفق مواعيدها!) لكن في اللحظة التي يحاول المرء انتقاد هذا الكلام، والتحدث عن مخاطر التشبث بالأعلام والتراث باعتبارها غايات لذاتها، سيصر بيترسون بغضب على أنك أسأت فهم نظريته: النظام متعايش مع الفوضى، ولا يعلو عليها! («النظام لا يكفي»). الأنثوي ضروري أيضًا، لأن الفوضى مرتبطة «بالإمكانية نفسها، مصدر الأفكار، مملكة الحمل والولادة الغامضة». إذا حاولت اقتراح أنه يؤيد في كلامه الأبوية، سيخبرك أنه عندما يشير إلى «الذكوري رمزيًا» لا يعني «الرجال». لكن من غير الواضح دائمًا ما يعنيه بالفعل، وأي محاولة لاكتشاف ذلك ستُواجه بوابل من الرطانة الإضافية. (ماذا نستنتج، على سبيل المثال، من تفسيره لـ ذا سيمبسونز، الذي يشدد فيه على أهمية وجود متنمر مؤذٍ ليحول دون تغلب الأطفال الرقيقين أنثويي الطابع: «من دون نيلسون، ملك المتنمرين، ستجتاح المدرسة سريعًا نماذج ميلهاوس الغاضب الحساس ومارتن برينس النرجسي المثقف والأطفال الألمانيين الرقيقين ملتهمي الشكولاتة ورالف ويجام الطفولي. إن مونتز تقويمي...». إقرار بتأييد إرهاب الضعفاء، بالقطع؟ لكن بيترسون سينكر).
تأمل طريقة كلام بيترسون عن «خطر الاشتباك البدني»:
«إنني أعرف كيف أقف لمواجهة رجل يعتدي عليّ دون وجه حق. والسبب أنني أعرف ذلك هو أن مقاييس مقاومتي محددة جيدًا، وهي أننا: نتحدث، نتجادل، نتدافع، ثم يأتي الاشتباك البدني. إذا تجاوزنا حدود المخاطبة الحضارية، فإننا نعلم ما هي الخطوة التالية. هذا ممنوع في مخاطبة النساء. ولذا لا أعتقد أن بإمكان الرجال السيطرة على النساء الغاضبات. لا أعتقد ذلك حقًا. أعتقد أنهم سيضطرون للإشاحة بأيديهم عاليًا في... في ماذا؟ ليس حتى في عدم تصديق. الأمر يتعلق بالثقافة... لا توجد خطوة للأمام يمكنك اتخاذها في هذه الظروف، لأن الرجل إذا كان عنيفًا بما فيه الكفاية وغاضبًا بما فيه الكفاية، فإن الأمر سيتحول لاشتباك بدني على الفور. أو على الأقل سيكون التهديد موجودًا. وعندما يتحدث الرجال مع بعضهم بأسلوب جاد، يظل ذلك التهديد المبطن بالاشتباك البدني موجودًا، بالأخص إذا كانت المحادثة جادة. إنه يحافظ على تحضر الأمور بدرجة ما. إذا كنت تتحدث مع رجل لن يعاركك تحت أي ظرف مهما كان، فإنك تتحدث إلى شخص لا تكن له أدنى قدر من الاحترام. لكني لا أرى على أي حال... على سبيل المثال، كانت هناك امرأة في تورونتو تنظم تلك الحركة، لنقل، ضدي وضد بعض الناس الذين سيقيمون فعالية للتعبير الحر. وقد تمكنت من تحقيق التنظيم بفعالية كبيرة، وكانت عنيفة جدًا، يجوز لك القول. قارنتنا بالنازيين، على سبيل المثال، على الملأ، باستخدام الصليب المعقوف، الذي لم يكن شيئًا أحبه على العموم. لكني بلا دفاعات أمام مثل هذا النوع من جنون الإناث، لأن الأساليب التي قد أستخدمها ضد رجل يستخدم هذه التكتيكات ممنوعة عليّ. لذا لا أدري... يبدو لي أن الواجب لا يقع على الرجال في الوقوف وإعلان (كفانا هذا). مع أن هذا ما يجدر بهم فعله، لكن يبدو لي أن دور المرأة العاقلة هو أن تقف ضد هؤلاء الأخوات المجنونات وإعلان (انتبهن، كفانا هذا. كفانا كراهية للرجال. كفانا أمراضًا. كفانا جلبًا للعار على جنوستنا)».
الآن باستطاعة المرء تفسير هذه الفقرة المربكة بأن بيترسون منزعج من وجود تابو اجتماعي يمنعه من ضرب سيدة تورونتو التي نعتته بالنازي. في الواقع، لا أعرف فعلًا كيف أفسر هذا بطريقة أخرى: إنه يقول إنه «بلا دفاعات» أمام «جنونها» لأن الأساليب التي «قد» يستخدمها ضد رجل «ممنوعة» عليه. (السبب وراء عدم وجود «دفاعات» أخرى لديه، مثل «تجاهلها»، يظل غير واضح). لكن بيترسون سيعترض بقوة على فكرة أنه يؤيد بأي حال العنف ضد المرأة: لا، إنني أقول ببساطة أن التفاعل الإنساني كله يتضمن تهديدًا بالاشتباك البدني. كيف أمكنك عن عمد وظلم تامَّين إساءة فهمي؟ وبالطبع إذا اعترضنا على زعم بيترسون «عندما يتحدث الرجال معًا بطريقة جادة» فإن هناك تهديدًا مبطنًا ما (لقد كنت أتحدث مع محرر زميل في Current Affairs عن جوردان بيترسون، ولم أشعر بعنف كامن يرسل فقاقيعه من تحت السطح، إلا أن يكون ذلك العنف مُوجهًا ضد نسختي من خرائط المعنى)، فإنه سيتراجع إلى رأيه بشأن «عجزك عن احترام الرجل الذي لن يعاركك تحت أي ظرف». على كل حال، أي ظرف يعني أنه لن يتدخل بدنيًا حتى لمنعك من إيذاء شخص ما، وكيف لك أن تحترم ذلك؟ (إن هذا يختلف تمامًا عن «وجود تهديد مبطن دائمًا» رغم ذلك). يصدر بيترسون تعميمات وقعُها ينذر بالسوء (وظاهرة الخطأ) ولكنه يضمنها تحذيرات حتى لا يتهمه أحد بتأييد الشيء الذي يبدو أنه يؤيده.
إنه الشيء نفسه الذي نجده في أحاديثه عن الشباب اللطيف والقسوة. سيقول إن الناس الذين يبدون بالغي اللطف سيتعرضون للاستغلال، ويتحدث عن أهمية قدرتنا على القسوة، الذي يبدو بالتأكيد كتشجيع للناس أن يكونوا حمقى ساديين، لكنه سيصر بعد ذلك أنه لم يكن يتحدث في الواقع عن أن نكون قساة، بل يتحدث عن أن نكون قادرين على القسوة (أيها الغبي، كيف أمكنك ألا ترى الاختلاف؟) وأنه ليس ضد الأشخاص اللطفاء، لكنه يقول فحسب إن الجدير بالضعيف أن يهلك. ولأن بإمكانك «اختيار نسختك من بيترسون»، يستطيع هؤلاء الذين يشاهدون فيديوهاته على اليوتيوب تلقي رسائل مختلفة جدًا من مجموعة الكلمات نفسها. في فيديو عن ضرب النساء، والذي لم يؤيد فيه بيترسون ضرب النساء على الإطلاق، نجد ما يلي ضمن أكثر التعليقات تأييدًا:
- أخبرتني جدتي ذات مرة «إياك وضرب النساء، لكن بإمكانك دون شك وبكل قوة ضرب مؤخرتها». (660 تأييدًا)
- لا يجدر بك ضرب أي شخص، لكن إذا هاجمك أحد فبإمكانك الدفاع عن نفسك، ولو كان امرأة. (745 تأييدًا)
- لم أكن لأضرب سيدة أبدًا. لكن الأمر مختلف مع كلبة عدوانية. (576 تأييدًا)
- كان الخلق الأصيل يقتضي ألا يضرب الرجل المحترم سيدة أبدًا. لكن عندما تهددك امرأة، أو تهدد ما يخصك، فهي بالقطع لم تعد سيدة. كونك سيدة، مثل كونك رجلًا، يتطلب التحضر والسمو والاحترام والمسؤولية الشخصية عن سلوكك الشخصي.
- لم يقل بيترسون إنه لم يكن ليضرب امرأة على الإطلاق. لكنه ألمح فحسب إلى أن كل امرأة ضربها قضى عليها.
- أعتقد أن المرأة جديرة بالشمائل... والأيامن[4]!!! (550 تأييدًا)
إذا كان متابعوك يرددون مثل هذه الأشياء كثيرًا على ما يبدو، فربما يجدر بك التفكير بجدية في السبب الذي يجعلك تستقطب هذا النوع من الجمهور. ليس الأمر أن بيترسون يؤيد العنف، لكن لأنه مثل اختبار رورشاخ الذي يمكن تأويله بطرق عديدة، فإن محاضراته عن الأنثى الفوضوية وضرورة القوة والقدرة على القسوة توفر مادة لهؤلاء الباحثين عن تبريرات فلسفية للعدوان.
ويصبح بيترسون في أكثر حالاته غموضًا عندما يتحدث عن الطبيعة. إنه يبدو ملتزمًا معظم الوقت بمغالطة المنطق الطبيعي: سيشرع في وصف النزعات الموجودة، ويلمح إلى أن هذه الأشياء بالتالي جيدة. سيتحدث إذن عن أنظمة السيطرة الهرمية بين سرطانات البحر، ويحض الشباب على «أن يكون سرطان البحر المنتصر مصدر إلهامكم». إن مملكة الحيوان مسرح للتعاون المشترك أيضًا بالتأكيد، وأن يقتدي الرجل بسرطان بحر مثل أن تتخذ المرأة من حياة فرس النبي رخصة لالتهام زوجها. لكن بيترسون سيتردد على ما يبدو بين الزعم بأن الطبيعة تتضمن نظامًا هرميًا للأشياء واضحًا وصالحًا أخلاقيًا، وبين الإصرار على أنه لا يمانع نقد النظام القائم للأشياء. عندما يبدو أنه يقول شيئًا مغالطًا (مثل كون الأنظمة الهرمية حسنة لأنها في الطبيعة) فإنه سيعادل ذلك بتحذير يعني أنه لا يقول شيئًا على الإطلاق (مثل كون الأشياء الموجودة في الطبيعة حسنة أحيانًا ولكن ليس على الدوام). لقد أشار سام هاريس بسخط، وهو مؤيد لمواقف بيترسون السياسية، إلى أن العديد من مزاعم بيترسون عن أصول السلوك الحسن إما أنها بلا بينة وإما بلا معنى:
«هل اختار التطور البشري فعلًا للذكور ذلك الاحتذاء الدقيق لنموذج القديس جرجس البطولي؟ وهل هذه في الواقع أقدم قصة نعرفها؟ أليست هناك قصص على القدر نفسه من القدم، وتعكس قيمًا مختلفة تمامًا ولعلها تتمتع أيضًا بميزات تكيفية؟ وبأي معنى توجد هذه النماذج العليا أصلًا؟... أليس من الواضح أن معظم ما نعتبره أخلاقيًا -في الواقع، كل ما نقدّره تقريبًا- الآن، يقع خارج منطق التطور؟ إن رعاية الأطفال المعاقين كان ليُعد على الأرجح سوء تكيف من أسلافنا خلال أي ظروف ندرة - بينما يرشّح التهام البشر نفسَه من وقت لآخر في كل ركن من أركان العالم. إلى أي مدى يجدر بنا الاستلهام من حقيقة أن قتل الأطفال والتهامهم (نموذج قديم أعلى) أيضًا؟»
لا يوجد سبب منطقي للجوء إلى التطور ومملكة الحيوان بحثًا عن نصيحة أخلاقية، ولكن هذا ما يرشحه بيترسون. أو لا. إنني أخشى الرسائل الإلكترونية التي لا مفر منها والتي تصر على أنني لا أفهم بيترسون فحسب، وتتضمن اقتباسات كبيرة يصر فيها على أنه يقول عكس الأشياء التي يبدو أنه يقولها في مكان آخر. (بالمناسبة، حكاية طريفة جانبية: لقد اشتركت مع زميلي أورين نيمني منذ سنوات قليلة في كتابة محاكاة ساخرة لنظرية أكاديمية رفيعة عديمة المعنى باسم مخططات لغدٍ مشرق، والتي صادف أن تحتوي على فقرة تحض البشر حرفيًا على الالتفات لسرطانات البحر للحصول على نصيحة أخلاقية: «إننا لهذا نقترح مهربًا بديلًا لعواطف البشرية: المفصليات. إن أي شخص سبق له حضور زفاف سرطان البحر يعرف تمام المعرفة أي أصالة وعاطفية يمكن لهذه الكائنات الإلهية بلوغها. ومع ذلك تُترك المفصليات ليضربها الضعف في أقفاص التدريب ومؤسسات المأكولات البحرية، مجردة من إمكانياتها ومنبوذة في محاولاتها في تقديم مساهمات تثقيفية للحياة المدنية». إن إهمال بيترسون الإشارة إلينا يكاد يكون سوء تصرف أكاديمي).
ولدى بيترسون في النهاية رد على اتهامه باختلاق هذا كله: الأمر فحسب... أن الخيال حقيقي:
«ما المشترك بين جميع التجارب البشرية على مر الزمان... هناك وقائع أخلاقية أو ميتافيزيقية أو ظاهراتية لها الطبيعة نفسها. لا يمكنك رؤيتها في حياتك بالنظر إليها من خلال حواسك، ولكن يمكنك تخيلها بمخيلتك، وما تتخيله بمخيلتك يكون أحيانًا أكثر واقعية مما تراه…».
وعندما سأله محاور لماذا يجدر بالناس تصديق الأساطير التي يذكرها، جاء رد بيترسون، حسنًا، يمكنك أيضًا أخذ شيء ما على محمل الجد لأن الحياة جادة، اللعنة، والكارثة تنتظرك:
«المحاور: لأن الكثير من الناس ينظرون فحسب إلى هذه القصص مثل مردوخ وتعامة أو قصة المسيح وقصص الإنجيل ويقولون (حسنًا، إنها مجرد... قصص لطيفة، لكني لن آخذها على محمل الجد). ما هي دعواك، لأني أعرف بالفعل-
بيترسون: حسنًا، ما الذي ستأخذه على محمل الجد إذن؟ إنك لن تأخذ شيئًا على محمل الجد. حسنًا، بالتوفيق في ذلك، لأن الأمور الجادة ستأتي إليك. إذا لم تكن مستعدًا لها بجدية ميتافيزيقية مساوية، فستسحقك. يمكنك أن تكون رافضًا للحكمة، لكن هذا لن يحميك من الكارثة القادمة».
(إن هذه ليست حجة مقنعة).
إنني لا أقصد القول بأن كل ما يقوله بيترسون من فئة «ما ليس حتى بخطأ». بعض ما يقوله بالفعل مجرد خطأ. إنه غير مؤتمن على إرشادنا للحقائق (مثلًا «هناك من الطبيبات الإناث ما يفوق الأطباء الذكور بكثير جدًا» وهذا خطأ في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمملكة المتحدة، أو دعايته لنظرية مؤامرة عجيبة تزعم أن جوجل يتلاعب بنتائج البحث عن كلمة «بكيني» ليجعل من ضمنها نماذج ذات حجم مُضاعف لدواعي الصوابية السياسية، وهو ما لا يحدث). كما أن مهاراته الاستيعابية في القراءة... محدودة. إليك وصف بيترسون للاستنارة السياسية المهمة التي مر بها عند قراءته جورج أورويل، الذي أقنعه نهائيًا على حد قوله بألا يصبح اشتراكيًا:
«إن زميل غرفتي بالجامعة، وهو شخص ساخر نافذ البصيرة، قد عبّر عن تشككه في معتقداتي الإيديولوجية. لقد أخبرني أن العالم لا يمكنه أن يُلخص تمامًا في حدود الفلسفة الاشتراكية. وكنت بدرجة أو أخرى قد توصلت لهذا الاستنتاج بنفسي، لكني لم أقر به لهذه الدرجة في كلامي. لكني قرأت بعد ذلك بفترة قصيرة كتاب جورج أورويل الطريق إلى رصيف ويجان. لقد نسف هذا الكتاب نهائيًا ما لدي - ليس فقط إيديولجيتي الاشتراكية، لكن إيماني بالمواقف الإيديولوجية في حد ذاتها. في المقال الشهير بنهاية الكتاب (المكتوب من أجل -ولما فيه استياء- نادي الكتاب اليساري البريطاني) وصف أورويل عيب الاشتراكية الكبير، وسبب فشلها المتكرر في جذب القوى الديمقراطية والحفاظ عليها (على الأقل في بريطانيا). قال أورويل، بالأساس، إن الاشتراكيين لم يحبوا الفقراء في الواقع. بل كرهوا الأغنياء فحسب. لقد أصابت فكرته مكمن الحقيقة على الفور. لقد عملت الإيديولوجيا الاشتراكية كقناع للحقد والكراهية، نتيجة الفشل. كان العديد من نشطاء الحزب الذين صادفتهم يستخدمون مُثل العدالة الاجتماعية لتبرير سعيهم للانتقام الشخصي».
وإليك جورج أورويل، في الطريق إلى رصيف ويجان، الذي يقول بيترسون إنه اقتنع بكلامه أن الاشتراكية حماقة لأن الاشتراكيين حقودين:
«لاحظ رجاءً أنني أدافع عن الاشتراكية، وليس ضدها. [...] لهذا فإن وظيفة الشخص المفكر ليست رفض الاشتراكية بل اتخاذ قرار بإبراز طابعها الإنساني... إن السبيل الوحيد الممكن حاليًا لأي شخص محترم، مهما كان محافظًا أو لاسلطويًا بطبعه، هو العمل على ترسيخ الاشتراكية. لا شيء آخر يمكنه إنقاذنا من تعاسة الحاضر أو كابوس المستقبل [...] في الواقع، ومن وجهة نظرٍ، تندرج الاشتراكية في الحس المشترك البسيط وإنني لأندهش أحيانًا أنها لم توطِّد مكانتها بالفعل. إن العالم طوفٌ يُبحر في الفضاء وفيه، بصورة كامنة، وفرةٌ من الزاد للجميع، إن الفكرة التي توجب علينا جميعًا التعاون والحرص على تقديم كل شخصٍ نصيبَه العادل من العمل وحصوله على حصته العادلة من الزاد، تبدو واضحة بشكل صارخ حتى ليقول المرء إن أحدًا لا يمكنه رفض القبول بها ما لم تكن لديه دوافع فاسدة للتعلق بالنظام القائم. [...] إن الابتعاد عن الاشتراكية لأن الكثير جدًا من الاشتراكيين ذوي مكانة متواضعة ليس إلا حماقة بقدر ما يكون رفض السفر بالقطار لأنك لا تحب وجه محصل التذاكر».
يقول أورويل بصراحة إن أي شخص يقيّم مزايا السياسات الاشتراكية بناء على الصفات الشخصية للاشتراكيين أنفسهم شخص أحمق. ويستنتج بيترسون أن أورويل كان يعتقد أن السياسات الاشتراكية كانت معيبة لأن الاشتراكيين أنفسهم أشخاص سيئون. لا أعتقد أن هناك طريقة أخرى لقراءة بيترسون غير اعتباره غبيًا إلى أقصى حد أو محتالًا إلى أقصى حد، لكن بإمكان المرء أن يكون كريمًا ويفترض أنه ببساطة لم يقرأ الكتاب الذي يُفترض أنه منحه تبصرًا عظيمًا بشأن الاشتراكية.
لكني حتى الآن أكرم من اللازم مع ذكاء جوردان بيترسون. لقد كنت أقدمه في أعقل حالاته وأصقلها. ولم أقدم لك التجربة الكاملة للاستماع إليه وهو يتكلم بالفعل. إن الجلوس في محاضرة لجوردان بيترسون شيء يختلف تمامًا عن مشاهدة حوار سريع مثير على التلفاز. فيما يلي، يرجى الاطلاع على نص منقول بالكامل من كلمة لبيترسون تمتد لـ17 دقيقة. إنها قطعة عشوائية، من أول محاضرة صادف أن ضغطت عليها، محاضرة تتضمن ظاهريًا خرائط المعنى. في الفيديو، بيترسون في خضم (مرة أخرى، ظاهريًا) تحليل كيف لكتاب الأطفال «لا يوجد شيء اسمه تنين» There’s No Such Thing As A Dragon يعرض النماذج العليا الموجودة في الأساطير الكلاسيكية. وأريدك أن تتذكر أن هذا رجل تنعته النيويوركر بمثقف الإنترنت «الأكثر احترامًا» وتقول الجارديان إنه «يصبح بسرعة أقرب ما يكون في المجال الأكاديمي لنجم روك». وتذكر أيضًا أن هذا رجل ينصح الناس بأن يكونوا واضحين دقيقين، ويقول إنه «حريص جدًا جدًا جدًا في استخدامه للكلمات». أوه، وأنه يريد إيقاف تمويل أقسام الدراسات النسائية بالكامل، لأنه يعتقد أنها تضخ كلامًا كثيرًا عديم المعنى. مستعد؟ هيا بنا.
(ملاحظة: لا تحاول تحت أي ظرف قراءة المقطع التالي بالكامل. اقرأ قدر ما تستطيع حتى تشعر بالضجر، ثم تجاوز البقية بسرعة للنهاية).
«بيترسون: أعدت الأم بعض الكعك لبيلي، لكن التنين أكلها كلها! أعدت الأم المزيد، لكن التنين أكلها أيضًا. ظلت الأم تعد الكعك حتى نفدت المكونات. حصل بيلي على واحدة منها فقط، لكنه قال إن هذا هو كل ما أراده في الواقع على أي حال. سأخبركم إذن بقصة أخرى بهذا الشأن. إذن، عندما كنت أعيش في بوسطن، كان لدي أطفال وزوجتي تعتني بأطفال بعض الجيران لأنها لم تكن تمتلك البطاقة الخضراء، وكانت هناك على كل حال مع الأطفال في المنزل، وعلى كل حال اعتنت ببعض الأطفال الآخرين. كان أحدهم لا يأكل إلا الهوت دوج وقد كان ذلك مضحكًا. ولم يكن يأكل الهوت دوج إلا في بيت أمه لكنه كان يأكل في بيتنا كل وجبة غدائه وكان سعيدًا تمامًا بشأن ذلك، لذا اعتقدت أن الأمر ممتع أيضًا. لكن على كل حال جاء جار لنا ذات يوم وكان لديه طفل يبلغ أربعة أعوام وكان الجار يبحث عن شخص يرعى الطفل لأن جليسته تعرضت لحادثة سيارة ولم تكن تستطيع رعاية الطفل مؤقتًا. وبالتالي ظل الطفل يدور نوعًا ما بين منازل الجيران لعدة أيام وكان الناس كما تعلمون يرعونه حتى انتهى المطاف به في منزلنا. ولم يكن هناك بأس في ذلك. لقد كان طفلًا صغيرًا جميلًا وجاءت أمه بالباب وقالت إنها دفعت الصبي للقدوم وكان نوعًا ما [يعبس]، ولم يكن سعيدًا جدًا وقالت (ربما لن يأكل شيئًا طوال اليوم، لكن لا بأس بهذا). وفكرت أن ممم هذا تصريح مثير للاهتمام بشكل بارز كما تعلمون، أن تصرح به في أول مرة نلتقي بابنها. يبدو الأمر كأنه لن يأكل، طوال اليوم، وهذا بخلاف ما لا بأس به بالمناسبة، بخلاف ما لا بأس به، وتقولين إنه لا بأس به وتتوقعين أننا سنقبل حقيقة أنك تعتقدين أنه أمر لا بأس به فحسب. وهذه هي القصة كاملة، تقدمين كل المعلومات في جملة صغيرة. لذا فكرت، حسنًا إن ذلك عجيب جدًا. إنني أعتقد أنها كانت الطبيبة النفسية أيضًا، وهو ما كان مثيرًا جدًا للاهتمام [يتنشّق]. لذا حسنًا. لا بأس بذلك إذن. خرجت بعد ذلك لشيء ما وهناك كان الأطفال الأربعة يلعبون في المنزل وعندما عدت كان الطفل الصغير في الشرفة حيث الأحذية وما إلى ذلك وكان يبدو واقفًا هناك مثل ذلك [يعبس] وفكرت ممم هذا ليس جيدًا لأن هناك كل هؤلاء الأطفال الآخرين مثله ينبغي أن يلعب معهم صح؟ إن ذلك بوضوح هو ما يُهيأ الطفل لفعله! كان يجدر به أن يكون هناك، يلعب مع ما أعتقد أنه طفل في الثانية وطفل في الثالثة وطفل آخر في الرابعة. كان يجدر به أن يكون هناك كما تعلم يسبب المتاعب ويمرح ويلعب لكنه لم يكن يفعل أي شيء من هذا، وكان يقف في الشرفة هكذا [يعبس] ولم يكن سعيدًا. لم يكن سعيدًا». [5]
لقد فعلتها!
بعدما أثبتنا بأمان أن جوردان بيترسون محتال ثقافي يستخدم الكثير من الكلمات ليقول لا شيء تقريبًا، يمكننا الآن العودة للسؤال الأصلي: كيف يمكن لرجل عاجز عن استيعاب ونقل محتوى كتاب أطفال أن يصبح أهم مفكر في زمانه؟ إنني سأتنهد أول الأمر حسرة على العالم المأساوي السخيف، والذي يبدو أن لا حدود فيه للمكانة المرتفعة التي قد يصل إليها الحمقى الواثقون. لكن هناك تفسيرات أفضل. إن شعبية بيترسون ترجع جزئيًا إلى نقده نشطاء العدالة الاجتماعية بطريقة يجدها كثير من الناس مُرضية، ولبعض هذه الانتقادات ميزة. إنه مشهور جزئيًا لأنه يقدم للشباب المُنساق إحساسًا بالغاية البطولية، ويقدم للشباب الغاضب مبررًا لأحقادهم. وهو مشهور جزئيًا لأن الوسط الأكاديمي واليسار قد أخفقا بشكل مدهش أن يسهما في جعل العالم أوضح في أذهان عامة الناس، ومنحهم رؤية سياسية واضحة جذابة.
كان أول وصول بيترسون لمكانته من الوجاهة العالمية عندما عارض علانية قانون كندا C-16 الذي أضاف التعبير عن الجنس والهوية إلى فئة أسباب التمييز المحظورة في القانون الكندي لحقوق الإنسان. كان بيترسون يدعي أنه سيصبح مجبرًا في ظل هذا القانون على استخدام ضمير الإشارة للجنس الذي يفضله الطالب وإلا واجه محاكمة جنائية، ويوحى بأن نشطاء العدالة الاجتماعية كانوا يدعمون إيديولوجيا شمولية. لم يكن هناك شيء في هذا القانون في الواقع يجرّم الخطأ في استخدام ضمير الإشارة للجنس الذي يفضله الشخص، وأشارك في الاعتقاد بأن تقنين الحكومة لمطالبة الناس باستخدام ضمائر معينة سيمثل انتهاكًا عندئذ للحريات المدنية. لكن بما أنه موقف يشارك فيه نعوم تشومسكي والاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، فإنه ليس انتقادًا ساحقًا على أي وجه لليسار. وعندما يتجاوز بيترسون الموضوع المحدود للكلمة المفروضة، لا تصبح حملته على العدالة الاجتماعية معقولة أكثر بكثير من محاضرته عن النماذج اليونجية[6] العليا في قصة تنين الكعك.
تأمل على سبيل المثال كيف يتحدث بيترسون في حواره على القناة 4 عن الميول «الشمولية» للنشطاء الذين سعوا لإضافة الهوية الجنسية إلى قانون حقوق الإنسان:
«بيترسون: لقد قارنتهم فعلًا بماو... كنت أقارنهم باليساريين الشموليين. وإني أعتقد
أنهم يساريون شموليون.
نيومان: في حكم ماو مات ملايين الناس!
بيترسون: صحيح!
نيومان: أعني لا توجد مقارنة بين ماو وناشط عبور جنسي، أليس كذلك؟
بيترسون: لم لا؟
نيومان: لأن نشطاء العبور الجنسي لا يقتلون ملايين الناس!
بيترسون: إن الفلسفة التي تحدد كلامهم هي الفلسفة نفسها.
نيومان: العواقب...
بيترسون: لم تحدث حتى الآن!
نيومان: أتقول إن نشطاء العبور الجنسي...
بيترسون: لا!
نيومان: قد يتسببون في موت ملايين الناس.
بيترسون: لا، أقول إن الفلسفة التي تنبع منها أقوالهم، هي الفلسفة نفسها التي قادتنا بالفعل إلى موت الملايين من الناس.
نيومان: حسنًا. أخبرنا كيف يمكن أن تكون تلك الفلسفة واحدة على أي حال.
بيترسون: بالتأكيد. لا بأس بهذا. أولًا، إن فلسفتهم تفترض أن الهوية الجماعية هي الأرقى. هذه هي الفلسفة الأساسية التي كانت تحرك الاتحاد السوفيتي والصين الماوية. وهي الفلسفة الأساسية لنشطاء اليسار. إنها سياسات الهوية. لا يهم من تكون كفرد، بل ما يهم هو مَن تكون من حيث هوية جماعتك».
بينما كانت كاثي نيومان غير منصفة لآراء بيترسون بشكل متكرر خلال بقية المحاورة، إلا أنها كانت محقة تمامًا في حيرتها هنا: ما يقوله بيترسون لا معنى له. إنه يتساءل كيف يمكن أن يكون هناك أي اختلاف بين نشطاء العبور الجنسي والصين الماوية، ثم يُقال له إن الاختلاف في موت ملايين، ثم ينكر أن نشطاء العبور الجنسي سيتسببون بموت الملايين، ثم يقول إنهم يتبعون الفلسفة الشمولية التي أدت للقتل الجماعي للناس. إن سبب عجزه عن الكلام هنا هو عدم وجود دليل على أن القانون الكندي لحقوق الإنسان يتعلق بتقديم أرخبيل جولاج[7] إلينا، في حين تتضمن تصريحاته المهيبة عن شمولية اليسار أن هذا ما سيحدث. وبالتالي فإن عليه إما أن يزعم أن مقاطعة ألبرتا[8] على وشك بدء نسختها من القفزة العظيمة للأمام[9] وإما يحدد اختلافًا بين حرس ماو الأحمر ومركز مجتمع الميم في جامعة تورنتو، وهما خياران لا يريد الالتزام بأي منهما. ولذا نحصل على طبق آخر ممتلئ بحلويات بيترسون.
وها هو مجددًا هنا يحاول توضيح الصلة بين السوفيتات والعبور الجنسي، مرة أخرى يستخدم حجة أن أي إجراء سياسي «جمعي» أو «على أساس مجموعة» يتبع الفلسفة نفسها التي جمعت الكولاك[10] وأعدمتهم:
«تم التخلي عن [الليبرالية] وانقلب بذلك العالم إلى مجموعة ضد أخرى. الصراع على السلطة من مجموعة ضد الأخرى، ثم أنواع محاربي العدالة الاجتماعية واليساريين، حتى الحزب الديمقراطي، بدأوا يصنفون الجميع وفق هويتهم القومية أو الجنسية أو العرقية وجعلوا ذلك هو العنصر الشرعي لوجودهم. وهذا فعل في منتهى الفظاعة! إنه يؤدي إلى، في الاتحاد السوفيتي عندما حدث ذلك، على سبيل المثال، عندما قدموا تلك الفكرة مع فكرة الذنب الطبقي... لذا على سبيل المثال، عندما نظّمت السوفيتات المزارع في مجموعات، فقد قضوا بذلك على، أو اغتصبوا وجمّدوا حتى الموت، جميع المزارعين المنافسين -الذين كانوا يسمونهم الكولاك- وألحقوا بهم الذنب الطبقي، لأنهم كانوا مزارعين ناجحين، وقدموا نجاحهم باعتباره قمعًا وسرقة. لقد قتلوهم جميعًا تقريبًا، ونفوهم بعيدًا إلى سيبيريا وجمّدوهم حتى الموت، لقد كان هؤلاء المنتجون الزراعيون للاتحاد السوفيتي، ثم حدث بسبب ذلك في ثلاثينيات القرن العشرين في أوكرانيا أن مات حوالي ستة ملايين شخص أوكراني جوعًا».
أعتقد أن علينا هنا تذكر ما يطالب به فعلًا النشطاء المناهضون للتمييز: إنهم يريدون ألا يتعرض العابرون جنسيًا للطرد من وظائفهم لأنهم عابرون جنسيًا، وألا يتعرضوا مجانًا للمعاناة في السجون، وأن يتمكنوا من الحصول على الرعاية الصحية الملائمة، وألا يصبحوا ضحايا جرائم كراهية، وألا يتم نبذهم أو إجلاؤهم أو ازدراؤهم. وبالمثل، فإن مطالب العدالة الاجتماعية فيما يخص العِرق تتعلق: بمحاولة علاج التفاوت في الثروة بين البيض والسود، ومحاولة تقليل التمييز العرقي في طلبات التوظيف، ومحاولة تقليل التفاوتات الصحية وكذلك فروق الإنجاز التعليمي على أساس العِرق، وتقليل التحيزات اليومية المجحفة التي تجعل حياة الملونين أصعب. إنها نوعية القضايا التي يركز اليسار عليها. اطّلع على برنامج الحزب الديمقراطي أو الأجندة السياسية لحركة «حياة السود مهمة». تختلف معها! لكن بيترسون يعفي نفسه من الانخراط الفعلي في المناقشات الموضوعية بشأن مسائل السياسات، ويكتفي بالحط من شأن اليسار باعتبارهم مجموعة من مغسولي الدماغ الماركسيين الجدد ما بعد الحداثيين الشموليين. (لقد أشار آخرون إلى الطرق التي يغفل فيها هذا عن الصراع المعاصر بالغ الأهمية بين الحركة اليسارية و«الليبرالية القائمة على الهوية»، وهو صراع مهم للغاية في فهم اليسار).
لا يبدو أن بيترسون يفهم في الواقع ما هي السياسات بشكل مبدئي. يقول إنه ضد «الإيديولوجيا» مع أنه يبدأ باستمرار في مناقشة الأسئلة الاجتماعية مطبقًا نظرية شخصية مسهبة لكل شيء. عندما سأله سائل عما يجدر بالناس في اعتقاده فعله لإحداث تغيير، أخذًا في الاعتبار معارضته حركة الطلاب النشاطية، كانت الإجابة أن أخبره:
«... حدث ذلك في الستينيات، على حد علمي، أن أصبحت لدينا هذه الفكرة الجديرة بالازدراء أن الطريقة التي عليك التصرف بها كإنسان مسؤول هي رفع اللافتات للاحتجاج من أجل تغيير وجهات نظر أشخاص آخرين ومن ثم الاقتراب من تحقيق اليوتوبيا. أعتقد أن ذلك كله مخيف، أعتقد أنه مخيف. وأعتقد أن من السخافة المطلقة أن يتعلم الطلاب أن هذه هي الطريقة التي عليهم التصرف بها في العالم. أولًا، إذا كنت في التاسعة عشرة أو العشرين أو الواحدة والعشرين، فإنك لا تعرف أي شيء. لم تحقق أي شيء. لا تعرف أي شيء عن التاريخ، لم تقرأ أي شيء، لم تقم بإعالة نفسك لأي فترة طويلة. لقد ظللت معتمدًا بالكامل على دولتك وعائلتك خلال السنوات القليلة من وجودك. وفكرة امتلاكك أي حكمة تحدد الطريقة التي على المجتمع أن يتشكل بها بينما تجلس في كنفٍ مُرفَّه وفي عناية العمليات التي لا تفهمها... لنسمّها فحسب فكرة سيئة... فكرة أن ما عليك فعله لتغيير العالم هو العثور على أشخاص تختلف معهم وهز الورق المعلق على العصا أمامهم، إنها فحسب…».
النشاطية إذن عبارة عن مشاغبين متعجرفين يرفعون «ورقًا على عصا»، وهي ظاهرة عجيبة مخيفة يعتقد أنها بدأت في الستينيات. ناهيك عن أن ما يتحدث عنه هو ما يُعرف أكثر عمومًا باسم حركة الحقوق المدنية، وأن «الورق على العصا» كان مكتوبًا عليه «سننتصر»[11] و«أنهوا العزل العنصري في المدارس». وناهيك عن كونها نجحت، وكانت إحدى أهم الأحداث على المستوى الأخلاقي في القرن العشرين. إن بيترسون، الذي يبدو أنه غريب ويبدو له العمل السياسي لغزًا لا يمكن سبر أغواره، يعتقد أنها كانت مجرد خمسين سنة من التلويح الطفولي بالفضيلة. قضى النشطاء ضد حرب فيتنام أعوامًا يحاولون فيها إيقاف العمل الوحشي المروع الذي قضى على مليون شخص، وكان لذلك أثر هام في لفت الأنظار إلى ذلك العمل الوحشي ووضع حد له في النهاية. لكن الطلاب هم الذين «لا يعرفون أي شيء عن التاريخ».
هنا مكمن اتصال روتين جوردان بيترسون للتنمية البشرية بآرائه السياسية. إن بيترسون يصرف الناس فيما يبدو عن أي التزام سياسي جاد. ويقول إن تهذيب النفس وقراءة الكتب الرائعة «أهم من أي فعل سياسي ممكن». لا تركزوا على تغيير العالم، ركزوا على ترتيب حياتكم. برغم كل شيء فإن «معنى الحياة أن تترعرع وفق المسؤولية الفردية» و«عندما تفوز بكل شيء، سيفوز كل مَن حولك أيضًا» لأن «هذا معناه أنك تنير العالم كله...» إن 12 قاعدة للحياة يعلنها صريحة: توقف عن مساءلة النظام الاجتماعي، توقف عن إلقاء اللوم فيما يتعلق بالمشاكل على العناصر السياسية الفاعلة، توقف عن محاولة إعادة تنظيم الأمور.
«هل استغللت بالكامل الفرص التي قُدمت لك؟ هل تعمل جاهدًا على سيرتك المهنية أو حتى وظيفتك، أم أنك تدع الحنق والحقد يؤخرك ويجرُّك لأسفل؟ هل صافيت أخاك؟ ... هل هناك أشياء بإمكانك فعلها، وتعرف أن بإمكانك فعلها، قد تحسّن من الأمور من حولك؟ هل نظّمت حياتك؟ إذا كانت الإجابة لا، فإليك شيء لتحاول فعله: ابدأ في التوقف عما تعرف أنه خطأ. ابدأ في التوقف اليوم... لا تلم الرأسمالية، أو اليسار الراديكالي، أو ظلم أعدائك. لا تُعِد تنظيم الدولة حتى تكون قد نظّمت تجربتك الخاصة. تحلَّ بالتواضع. إذا لم تكن قادرًا على إبقاء منزلك مطمئنًا، فكيف تجرؤ أن تحاول حكم مدينة؟ ... اضبط منزلك بنظام مثالي قبل انتقاد العالم».
ملاحظة: مثالي. وبما أن منزل المرء لن يصبح أبدًا في نظام مثالي، فلن يتمكن المرء من انتقاد العالم. إن هذا، بوضوح شديد، دعوة لتجنب التسييس تمامًا وللذاتوية[12]. لكنها أيضًا وصفة لجعل الأشقياء من الناس أكثر شقاء. ألق اللوم على نفسك. لمَ لم أصلح هذا؟ أنا فاشل. حسنًا، من المحتمل بالتأكيد أنك فاشل. (أغلبنا!*) لكن في العالم أيضًا مظالم. الكثير منها في الواقع. يتحدث بيترسون لرجال الألفية الساخطين، مؤيدًا تعصبهم ضد النسويات وممثلًا شخصية أب بديلة. لكنه يقدم لهم أيضًا نصيحة سيئة جدًا، لأن أخلاق «المسؤولية الفردية» تُشعر المرء بأنه فاشل على الإطلاق لأنه يفشل. أوه، بالطبع، إن قواعده بشأن «فرد الظهر» و«التربيت على القط عند رؤيته» لا ضرر منها. لكن لا يجدر بك إخبار الناس بأن مشاكلهم هي خطؤهم إذا لم تكن بالفعل تعلم أن مشاكلهم هي خطؤهم. إن أبناء الألفية يكافحون جزئيًا بسبب اقتصاد تنافسيّ ضارٍ، يسحقهم بالديون وقلة الفرص. بالتأكيد قد يدرّب بيترسون أشخاصًا على أن يصبحوا أشد قسوة وأقوى إرادة، وقد يصبح أداء القليل منهم أفضل في المنافسة. لكن إذا لم يكن بإمكانك تسديد قروض الطلبة أو دفع إيجار سكنك، ولم يكن بإمكانك الحصول على وظيفة أفضل، أي نفع إذن في إخبارك أن عليك اعتناق هيئة سرطان البحر الواثق؟
لكن يقع هنا جزء كبير من اللوم على اليسار والمجال الأكاديمي في الواقع. لماذا تجتذب توليفة جوردان بيترسون من الكلام الفارغ والمبتذل ملايين المتابعين؟ جزء من السبب ربما هو أن الذين ينتمون لليمين البديل يحبون تقديمه تبريرًا علميًا في ظاهره لكراهيتهم «محاربي العدالة الاجتماعية». وجزء منه يعود لكون سوق التنمية البشرية رائجة على الدوام. لكن جزءًا آخر من الأمر يعود لأن الأكاديميين منعزلون وعديمو المساعدة، كما أن اليسار قد فشل في تقديم بديل سياسي متماسك للناس حتى الآن. إن جوردان بيترسون محق بشأن انسياق الناس واحتياجهم للمعنى. الكثير منهم يستجيب بحماس لمحاضراته لأنه يقدم شيئًا يشبه التبصر، ويَعِد بأسرار تحقيق حياة طيبة. إنه ليس تبصرًا حقيقيًا بالتأكيد، بل أمور يعرفها الجميع بالفعل، في هيئة كلام مبهم. لكنه يُشعرك أنه يحمل معنى. كانت تاباثا ساوثي قاسية في نعتها جوردان بيترسون بـ«الرجل الذكي في نظر الرجل الغبي». إنه الرجل الذكي في نظر الرجل اليائس، إنه يتغذى على القلق والارتباك. مَن لديه أيضًا بديل جاد؟ أين الأساتذة الآخرون الذين لهم قنوات يوتيوب متوفرة وجذابة، وكتب بها نصائح مفيدة، وأقسام أسئلة وأجوبة طويلة مع العامة؟ لا عجب أن بيترسون مشهور جدًا: إنه يأتي ويقدّم قواعد وإرشادات في عالم مِن، حسنًا، الفوضى. دع الأمر فحسب للأب، وكل شيء سيكون على ما يرام.
لكنه طريق غير مثمر مع ذلك. ليس لأن بيترسون محتال فحسب. لو أنه كان يقدم سلعته فحسب من «الحساء الثقافي المغذّي» كما تقول Chronicle of Higher Education، ويدور وهو «ينثر الأفكار من الفلسفة والخيال والدين وعلم الأعصاب وحلم مزعج رآه قريب في سن الخامسة»، لأمكننا الضحك عليه فحسب. لكن طريقة بيترسون ليست بلا جدوى لأنها بلا معنى فحسب، بل هي بلا جدوى لأنك لا تستطيع في نهاية المطاف الهروب من السياسة. إن حياتنا مشروطة بالأنظمة الاقتصادية والسياسية، شئت أم أبيت، وبإخبار الضائعين من الناس أن عليهم التخلي عن مشاريع التغيير الاجتماعي، يضمن المرء على الدوام أنهم سيصبحون ضحايا بلا حيلة أمام قوى أبعد من سلطتهم أو فهمهم. إن المسعى «البطولي» حقًا في الحياة هو الارتباط بالآخرين سعيًا لخير المجتمع، والعثور على المعنى في كفاح البشرية جمعاء لتحسين وضعنا. لا، ليس بالتخلي عن فكرة «الفرد» ورؤية العالم بشكل جمعي في إطار هوية جماعية. بل بجمع مواهبنا وجهودنا الفردية لإنتاج عالم أفضل وأعدل وأجمل.
إن ما ذكرناه لا بد أن يكون واضحًا من مجرد القراءة المتعجلة له: لو أن جوردان بيترسون هو المثقف الأكثر تأثيرًا في العالم الغربي، فإن العالم الغربي فقد عقله. وبما أن جوردان بيترسون لديه بالفعل ادعاء قوي بأنه المثقف الأكثر تأثيرًا في العالم الغربي، فنحن بحاجة للتفكير بجدية في المشكلات التي أدت إلى هذا. ماذا جنينا لينتهي بنا الحال مع هذا الرجل؟ إن نجاحه هو فشلنا، وبينما يَسهُل الاستهزاء به، يظل الأهم هو التحقيق في السبب الذي انتهى بنا إلى هذا الحال. إنه عرَض. إنه يُظهر ثقافة محرومة من الفكر، وسياسة دون إلهام أو مبدأ. قد لا يكون جوردان بيترسون المثقف الذي نريده. لكنه على الأرجح المثقف الذي نستحقه.
* مجرد مزاح. أنت رائع.
[1] ناثان جيمس روبينسون، رئيس تحرير المجلة الأمريكية السياسية كارنت أفيرز Current Affairs وكاتب عمود سابق في الجارديان.
[2] وفقًا لتاريخ المقال المنشور في مارس 2018
[3] اختبار نفسي يحلل تصورات الناس عن بقع من الحبر.
[4] يتلاعب المعلق في الأصل بكلمة حقوق في الإنجليزية women deserve rights…. and lefts
[5] توقفت عن ترجمة النص هنا لأنه طويل جدًا وكله على هذه الشاكلة.
[6] نسبة لكارل يونج
[7] اسم رواية للكاتب الروسي ألكسندر سولجينيتسن عن القمع في الاتحاد السوفيتي
[8] مقاطعة كندية
[9] اسم حملة اقتصادية واجتماعية قامت بها الصين بقيادة ماو وانتهت بكارثة ضخمة أودت بحياة الملايين
[10] الملاك الفلاحين الأغنياء نسبيًا في الاتحاد السوفيتي
[11] We shall overcome جملة من إحدى أناشيد حركة الحقوق المدنية البارزة
[12] مبدأ لا يعترف بغير وجود الذات
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
3 Replies to “ناثان ج. روبينسون: جوردان بيترسون.. المثقف الذي نستحقه”
الحقيقة كلام محتاج دراسه انا مش مختلف مع الكلام لاني مؤخرا ابتديت اشوف موضوع اللف والدوران خصوصا في مقابله سام هاريس بس مقال جميل ومجهود رائع
(( فأما الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)). إلّي كاتب المقال وإلّي مترجمة مش متابع جوردان أصلاً. أنا مش متخيل إن فيه هبل زي دا مكتوب عن الراجل أصلاً. عامةَ لأنه كلام ملوش لازمة ومجرد دندنة في الخفاء فمش هينتشر ولا هينفع الناس مقابل النفع إلّي جوردان بيقدمه وبينفع بيه الناس. شكراً.
هنالك شيء اسمه المصطلحات
نستخدمها للتعبير عن افكارنا ومشاعرنا
الان جوردان بيترسون يجب ان يكون دقيق للغاية بالمصطلحات التي يقولها وبمعناها ايضًا
ما تقوله هو امر غبي للغاية حيث انك لا تركز في الكلام المقصود وانما تركز في الاسلوب ولا تفهم هدفه لذا من الافضل مراجعة هذا المقال بعناية شديدة من جانبكم ومراجعة الفكرة ايضًا ممكن ان تحمل بعض الصحة ومن الممكن لا