إذا كان قلب عالم الفكر رأسًا على عقب هو علامة على بارادايم فائق، فإن البنية كان نجاحًا مدويًا وما زال كذلك لما يربو على النصف قرن.

بنية الثورات العلمية لتوماس س. كون (1962)

مقال لروبرت مكروم

نُشر في الجارديان يونيو 2016

ترجمة: عمر سلامة


توماس كون، عن الجارديان

لم يخترع توماس كون (1922-1996) بنفسه مفهوم الثورة العلمية لكنه أضفى عليه معنى خاصًا، كما ابتكر تعبير «تحول البارادايم»، الذي صار شائعًا حتى أنه نال أرفع وسام: ما لا يقل عن أربعة رسوم هزلية على صفحات النيويوركر (من 1974 إلى 2009)! نجد في الظهور الأول شابة مثيرة ترتدي بنطالًا متسع الساق (بنطال السبعينيات)، في حفل كوكتيل بمانهاتن، تتملق رجل مدينة أصلع قائلة «يا لك من ديناميت، يا سيد جيرستون! أنت أول شخص سمعته يستخدم كلمة بارادايم في الحياة اليومية».

يجذب بنية الثورات العلمية (سنكتفي بتسميته البنية فيما يلي) انتباه هذه القائمة  لتأثيره البارز على فهمنا للعلم وقبضته المتواصلة على تفسيرنا لتاريخ العلم. البنية عمل يتعلق بالأفكار أكثر مما يشع بالأسلوب (يمكن لنثره في بعض الأحيان أن يبدو ثقيل الوطأة) لكن قد نجادل بأن كون- الفيزيائي الأمريكي وفيلسوف العلم- قد أثار انتقالًا إلى بارادايم جديد بنشر هذه الدراسة الرائدة، كتاب يوضح أنه مهما بلغ العلم من سلطة فإنه يظل بعيدًا عن الكمال، شأنه شأن العلماء الذين يسبرون عديد أغواره.

لقد اختلف تفسير كون للعلم وتطوره عن سابقيه بشكل جذري، فسابقًا تصور التفسير السائد تطورًا منتظمًا تراكميًا إلا أن كون لم ير سوى انقطاعات: مراحل عادية ومراحل ثورية تعصف فيها الأزمات وفترات من اللايقين بالمجتمعات العلمية. يزعم كون أن هذه المراحل الثورية توافق تلك الاختراقات المفاهيمية التي تؤسس لما يلي من فترات الاستقرار.

إن البنية كتاب ينتمي بامتياز لأواخر القرن العشرين. بدأ الكتاب يتشكل في رأس كون في أواخر الأربعينيات عندما كان ما يزال طالب دراسات عليا في الفيزياء النظرية. غالبًا ما يشار إلى أن الكتاب الذي أعاد تشكيل فلسفة العلم قد تصوره وألفه فيزيائي تكشف له تاريخ العلم إثر تدريسه المساق الدراسي الجامعي «العلوم الفيزيائية لغير العلماء» ليجد- ولدهشته- أن مفاهيمه الأساسية عن طبيعة المجال قد اقتلعت من جذورها. إن البنية- وبإدراك معمق هو كتاب رجل شاب- مثجذر في عصره. تهيمن فيزياء ما بعد آينشتاين (فيزياء فترة الحرب الباردة) على العلم الذي يناقشه الكتاب لذا لا عجب في أن أفكار كون رأت النور لأول مرة عام 1962 وهو عام أزمة الصواريخ الكوبية. كانت الفيزياء بلا شك في صدارة العلوم بينما كان البنية ما يزال في طور الكتابة إلا أن تحولًا كان يجري على قدم وساق بالفعل . بقدوم الكتاب رقم 15 في هذه السلسلة- اللولب المزدوج (1968)- فإننا بالفعل قد رأينا كيف أنه بعد الخمسينيات كانت بيولوجيا الحمض النووي الجزيئية هى التي تكتسح الطاولة. أصبحت منذ ذلك الحين البيوتكنولوجيا وتزاوج علوم الكمبيوتر مع علم الوراثة وحتى علم الأعصاب هى أفق البحث العلمي.

على الرغم من ذلك وعكس كل الاحتمالات، ما زال كون يتسم بالنضرة. كانت بصيرته النافذة- التي تدين بشيء ما لكانط لكنها ترتكز على دراسته للثورة الكوبرنيكية- على خلاف مستعر مع كارل بوبر (له كتاب في هذه القائمة). ما زال قائمًا إلي هذا اليوم توصيف كون لجدلية التطور العلمي (ظهور البارادايم ثم التعرف على شذوذ ينجم عنه أزمة، وفي النهاية حل الأزمة بتقديم بارادايم جديد) على الرغم من اختلاف البيئة الفكرية جذريًا والتي تسودها الآن علوم المعلومات والبيوتكنولوجيا. ما زال البعض ينازع طرح كون لنموذج تسلسلي لتطور العلم حيث فترات الاستقرار تتخللها مقاطع من العلم الثوري، لكنه يحظى بقبول أغلب الدوائر. كون نفسه كتب: «لأنني أصر على أن ما يتداوله العلماء غير كاف لتكوين إجماع منتظم حول هذه المسائل كالاختيار بين نظريات متنافسة أو التمييز بين الشذوذ المألوف والشذوذ الذي يثير أزمات، فأنه يتم إتهامي من آن لآخر بتمجيد الذاتية وحتى اللاعقلانية».

إن تحدي كون لمفاهيم التطور العلمي الخطية واقتراحه أن الأفكار الثورية لا تنبع من عملية تجريب تدريجية، بل من لحظات تكشف وتربك الحكمة السائدة وتقدم اختراقات غير متوقعة هما ثورة بحد ذاتهما. إذا كان قلب عالم الفكر رأسًا على عقب هو علامة على بارادايم فائق، فإن البنية كان نجاحًا مدويًا وما زال كذلك لما يربو على النصف قرن. وكما كتب جون نوتون في جريدة الأوبزرفر: «إن البحث عن تعبير تحول البارادايم على جوجل يعود بما يزيد على عشرة ملايين نتيجة». ما هو أهم أنه تم الاستعانة بالبنية كمرجع في ما لا يقل عن 18300 عنوان بيع على أمازون، ويقول نوتون إن دراسة كون العلمية هى «واحدة من أكثر الكتب الأكاديمية المستشهد بها على الإطلاق. إن كانت هناك فكرة عظيمة قد راجت على الإطلاق، فهذه هي».

ما زال بنية كون مؤثرًا بشكل كبير على تاريخ العلم وفي نطاقات عدة ذات صلة (علم الاقتصاد، علم الاجتماع، الفلسفة، التاريخ). منذ نشره، بيعت منه 1.4 مليون نسخة كما تُرجم على نطاق واسع ويظل بانتظام مدرجًا كواحد من أكثر الكتب المستشهد بها في آداب النصف الثاني من القرن العشرين وإنسانياته. في التعليقات رفيعة الفكر كما التسويق ضحل الثقافة وتحليلات التصويت الإحصائية، أصبح «تحول البارادايم» كليشيهًا للتغير الاجتماعي والسياسي.

جملة أساسية

«إذا نُظر إلي التاريخ باعتباره أكثر من مستودع للنوادر أو التتابعات الزمنية فإنه قد ينتج تحولًا حاسمًا لصورة العلم التي تتملكنا في الوقت الحالي».


الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه