«ما هو منسيُّ لم يفنَ، بل مكبوت فحسب».
موسوعة المَلَل | عودة المكبوت
مقال: أمير زكي
في مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»، كان عبد الوهاب هو الابن الولد الوحيد للحاج عبد الغفور، وده معناه انه لما يكبر هيكون دراعه اليمين، لكن عبد الوهاب أول ما بدأ يوعى على الحياة من حواليه حس إن فيه حاجة غلط، أبوه بيلبس جلابية وبيشتغل في وكالة البلح، معاه فلوس كتير، بس مش بيصرفها على حاجات هايفة زي تبرعات المدرسة مثلًا.
كل ده أثَّر في عبد الوهاب، خلاه ياخد في نفسه قرار إنه هيبقى حاجة تانية غير أبوه، بيحاول يبعد عنه في كل حاجة، وهنا ما كانتش الحياة سهلة، كان بيتطرف كتير في تصرفاته، يسكر لحد ما يخربها، يتدين لدرجة التعصب، يدخل كلية سياسة واقتصاد، وبعدين يسيبها، يسافر بره وما ياخدش شهادات، يتجوز واحدة أجنبية، أي حاجة تخليه مختلف.
لكن بعد ده كله وفي الحلقات الأخيرة، عبد الوهاب بيقرر يشتغل شغلانة ابوه، ويتجوز بنت خاله، والحقيقة كانت أول مرة نحس انه مرتاح. وبعد ما بيستقل بشغله وبنشوفه بيدخل مزاد ضد أبوه بيبان انه شارب نفس الدماغ العندية في الشغل زيه.
طبعًا إحنا في المسلسلات بتاعتنا ممكن نحس إن السيناريست قلب المسلسل في آخر كام حلقة، وإن التحول الأخير ده مش مقنع، بس ما تيجوا نروح للخواجة عشان نشوف حاجة شبيهة.
معظمنا حافظ فيلم «الأب الروحي»، وفاكر إزاي مايكل كان منفصل عن عيلته الغرقانة في الإجرام، عاوز يبقى مختلف عنهم، وبيقول لصاحبته اللي بتتخض من عيلته إن دي طبيعتهم، بس هو مش هيبقى كده، لكن الأحداث بتمر، ومع الضغط اللي حاصل على عيلة مايكل بيلاقي نفسه بيتحمل المسؤولية، وهنا مايكل بيكتسب صفات أبوه، ويمكن بشكل أقسى، وفي آخر مشهد في الجزء الأول، اللي شغالين معاه بيروحوا يبوسوا إيده عشان بقى الأب الروحي.
الفن بيعكس أنماط من الواقع، والحالتين اللي اتكلمنا عنهم ممكن نستعين بيهم عشان نفتكر مفهوم مهم في مدرسة التحليل النفسي، وتحديدًا عند سيجموند فرويد، وهو «عودة المكبوت».
في كتاب «موسى والتوحيد» عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد بيحكي قصة شبيهة بقصة عبد الوهاب ومايكل، قصة بنت صممت في مراهقتها إن طبعها ومواقفها وصفاتها تكون مختلفة تمامًا عن أمها، وبعدت عن كل حاجة شبهها، لكن بعد ما كبرت واتجوزت بدأت واحدة واحدة تبقى أشبه بالأم وبقت تتصرف تقريبًا نفس تصرفاتها.
يا ترى كان سبب ده إيه؟
فرويد بيتكلم على إن البنت في طفولتها كانت بشكل تلقائي بتقلد أمها في كل حاجة، وإن التمرد ده ما حصلش غير لما زاد وعيها شوية، لكن التربية اللي اتربت عليها، واللي كانت مكبوتة في المراهقة، رجعت تظهر تاني على السطح، ومش بس كده، دي سيطرت كمان وبقت هي الحاجة البارزة.
المسألة طبعًا مش مقتصرة على الستات، فرويد في الكتاب عرض أكتر من حالة لابن، برضو تمرد على أبوه وصفاته في مراهقته، وأول ما بدأ سن النضج بقى شبهه في كل حاجة.
كانت الحجة القاضية عند فرويد إن استعان بشخصية عظيمة زي الشاعر الألماني جوته، وقال عنه: «جوته العظيم نفسه، الذي أضمر بلا جدال في حداثته ازدراء واحتقارًا لأب متصلب مدقق، راح يقلد أباه هذا في بعض سمات طبعه حين تقدم به العمر». (ترجمة: جورج طرابيشي)
من الحاجات اللي بيتكلم فيها فرويد إن عودة المكبوت، بالخطوات اللي اتكلم فيها: «التماهي، التمرد، عودة التماهي» بتحصل ببطء، ومش فجأة، وغالبًا من غير وعي اللي بيمر بيها.
طبعًا الموضوع مش لازم يحصل بنفس الشكل والقوة عند كل الناس، لكن إيه اللي ممكن يرجَّع المكبوت، فرويد بيتكلم عن 3 شروط:
1. ضعف قوة التركيز النفسي المضاد، اللي كان بيحافظ على عدم التماهي ده.
2. إن يحصل تعزيز لعناصر الغريزة الجنسية المرتبطة بالمكبوت، وبحسب فرويد ده بيبان في مرحلة البلوغ.
3. الأحداث المحيطة بالفرد، واللي بتبقى مواد حياتية شبيهة باللي حصل في الذكريات المكبوتة، واللي لما بتظهر بتصَحِّي المكبوت، وفي الحالة دي فرويد بيتكلم إنها ممكن تطَّلع كل طاقة المكبوت الكامنة. (فاكرين مايكل؟)
لحد دلوقتي إحنا بنتكلم إزاي مفهوم «عودة المكبوت» حاضر وبيأثر على الحياة الفردية، بس يمكن وانت بتقرا المقال تكون لاحظت إن الكتاب اللي اتكلم فيه فرويد عن المفهوم اسمه «موسى والتوحيد»، ودي نقطة مهمة، لأن فرويد استعان بالمفهوم ده عشان يفسر مسار تطور الشعب اليهودي والديانة اليهودية، ودلالة ده إن عودة المكبوت مفهوم زي ما بينطبق على الرجالة والستات، فهو بينطبق على الشعوب كمان.
ومش محتاجين نروح بعيد، خلينا نفكر في شعبنا، وفي التاريخ القريب مش القديم.
مع الأيام الأولى لثورة يناير، كتير افتكروا انتفاضة 1978 اللي كانت مؤثرة رغم قصرها، وأثبتت إن الشعب يقدر يعمل حاجة، ذكريات الانتفاضة دي خلت الناس عاوزة تحافظ على ثورة ممتدة تقدر تغير وتحقق مكاسب، وتعيد الحاجة اللي فضلت مكبوتة لسنين من ساعة الانتفاضة دي.
وفي السنين الأولى بعد 30 يونيو 2013، حصل برضو نوع من عودة المكبوت ولكن بشكل مختلف، لأن الجماهير التفت حوالين زعيم، وشافت فيه إنه ممكن يرجَّع مصر ويحطها تاني على الخريطة العالمية ويخليها سيدة قرارها، زعامة شبيهة بزعامة عبد الناصر، أو السادات في بعض فتراته، وفي نفس الوقت تتجاوز أخطاءهم.
ولكن المشكلة إن عودة المكبوت عملية بتحصل في اللا وعي، وبالتالي ممكن تبقى منفصلة عن الواقع، أو بتأثر على التفكير المنطقي. في الحالة التانية مثلًا، تم تجاهل إن الزعامات، اللي كانت منتشرة وبارزة ومناسبة في العالم كله في الستينيات والسبعينيات في القرن العشرين، ما بقتش تصلح تمامًا إنها تتكرر في القرن الواحد والعشرين.
عودة المكبوت مش بالضرورة حاجة وحشة أو مَرَضية، وممكن جدًا تبقى استعادة لمشاعر كويسة، في كتاب «سنة الأحلام الخطيرة» الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك اعتبر مظاهرات إيران الشهيرة في 2009، واللي كانت معترضة على فوز أحمدي نجاد بانتخابات الرئاسة، إنها نوع من «عودة المكبوت»، والمكبوت هنا هو ثورة سنة 1979، اللي كان الغرض الأساسي منها الوصول للحرية والديمقراطية قبل ما النظام الإسلامي يسيطر ويكبت الأحلام دي.
كلنا شفنا في «لن أعيش في جلباب أبي» إن عودة المكبوت عند عبد الوهاب خلته مرتاح أكتر، وغيرته للأحسن، بس كلنا شفنا برضو عودة المكبوت عند مايكل كورليوني عملت فيه إيه في آخر أيامه (لو ما شفتش أرجوك اتفرج على الجزء التالت اللي الناس بتتجاهله).
عودة المكبوت عَرَض وعملية متكررة طول الوقت، بنشوفها في حياتنا اليومية وبنقع فيها بنفسنا، وهي موجودة برضو على المستوى الاجتماعي والشعبي. مش ضروري نعتبرها مرض، لكن ضروري نفهمها عشان نكون واعيين أكتر ليه بنتصرف التصرفات دي، سواء كأفراد أو كشعوب.
المقال خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه