لم يكن الطبيب ساكس الشاب مجرد عالم أعصاب موهوب مُلهم بفكرة عبقرية عن العلاج الثوري، لكنه كان أيضًا كاتبًا شغوفًا ملتزمًا بكتابة التقارير حول القصة الاستثنائية التي تكشفت أمامه يومًا بعد يوم.

الإيقاظ لأوليفر ساكس (1973)

مقال لروبرت مكروم

نُشر بموقع الجارديان، أبريل 2016

ترجمة: حسين الحاج وياسمين أكرم


أوليفر ساكس، عن الجارديان

من بين الكتب العظيمة التي تتصدى لأحوال الإنسان في هذه السلسلة، يبرز كتاب «الإيقاظ»، الصادر في السبعينيات، بوصفه كتابًا طبيًا كلاسيكيًا بالغ التأثير، وما زال صدى قصته الاستثنائية يتردد حتى اليوم.

كان كتاب «الإيقاظ» مصدرًا للإلهام لقصص قصيرة وقصائد وروايات ومسرحيات، أبرزها مسرحية «كأنها ألاسكا» للكاتب المسرحي الإنجليزي هارولد بينتر. تستولي على العقل موضوعات الكتاب الأساسية، كالنوم وتحول المرء إلى حجر وإيقاظه بعد عقودٍ من الزمن لمواجهة عالم غير الذي عهده من ذي قبل، كما تفعل أفضل الأعمال الدرامية، مع فارق أن الأحداث التي عرضها طبيب الأعصاب الراحل أوليفر ساكس حدثت بالفعل.

عصفت جائحة «مرض النُعاس»، التي انتشرت منذ عام 1916 إلى عام 1917 واستمرت في فترة العشرينيات، بحياة ما يُقارب من خمسة مليون شخص، قبل أن تختفي عام 1927 بصورةٍ مُفاجئة وغامضة كالتي ظهرت بها. تُوفي ثلث المُصابين بهذا الالتهاب النُوامي للدماغ في المراحل الحرجة للمرض، وهم في حالات مُتقدمة من الغيبوبة أو الأرق. في كثيرٍ من الأحيان عجز مرضى آخرون ممن عانوا من هجماتٍ بالغة الشدة من الخدر/الأرق عن استعادة ما كانوا عليه في السابق من حيوية، وعاشوا أيامهم الأخيرة معزولين عن الناس في حالة بالغة الغرابة من التجمُد، «كأنها ألاسكا»، يتعذر فيها التواصل معهم، غير واعين لمرور الزمن أو بما ألمَّ بهم. وصف أول طبيب تعرف على الالتهاب النُوامي للدماغ هؤلاء الناجين بأنهم «براكين خامدة». كانوا يجلسون طُوال اليوم على كراسيهم واجمين دون حراك، مُفتقرين كُليًا إما إلى الطاقة أو الحافز أو روح المُبادرة أو الدافع أو الشهية أو الرغبة.

في غالبية الحالات، توقف هؤلاء المرضى عن تكوين أفكار ومشاعر عند النُقطة التي حاصرهم فيها «نومهم» الطويل. بالنسبةِ إلى كثيرٍ من الناجين، كانت فترة العشرينيات هي الفترة التي ستظل أكثر واقعية بالنسبة إليهم من أية عقودٍ لاحقة. ظلت أذهانهم، رُغم ذلك، شفافة وصافية. والآن، وحيث أن هؤلاء المرضى كانوا عاجزين عن العمل أو تلبية احتياجاتهم، وفي أغلب الأحيان تخلى عنهم أصدقاؤهم وعائلاتهم، وُضعوا في مُستشفيات ودور رعاية المُسنين ومصحات الأمراض العقلية، ونُسيوا كأنهم نُفايات من القرن العشرين. بيد أن بعضهم عاش وازدادت شيبته وضعفه، ضمن هؤلاء المُودعين في هذه المؤسسات، في عُزلة بالغة، محرومين من التجربة، مُنقسمين بين نسيانهم للعالم الذي عاشوا فيه ذات مرة وبين مُراودته لأحلامهم.

في عام 1969، بعد ما يزيد عن أربعين عامًا من من عيش حياة أشبه بالأشباح في هشاشتها، وكحياةِ الموتى الأحياء (الزومبي) في خمولها، عادت هذه «البراكين الخاملة» المُبعثرة في المُستشفيات المُخصصة للإعاقات الذهنية المُزمنة في بريطانيا وأوروبا والولايات المُتحدة إلى الحياة، بفضل تدخل عقار مُذهل جديد «للإيقاظ» يُدعى إل-دوبا أو (laevodihydroxyphenylalanine). في مستشفى بعينها وهي ذا بيث أبراهام في حي برونكس، عاد إلى الحياة فيما يُشبه الانفجار 80 من المرضى ممن كانوا في عِداد الأموات لفتراتٍ طويلة من الزمن.

كان أوليفر ساكس طبيب الأعصاب العبقري الشاب من منح المرضى هذا العقار العجيب، ودَوًّن مُلاحظات بالغة الدقة تُوثق رحلة تعافي مرضاه، أصبح كتاب «الإيقاظ» بمثابة توثيقه الشخصي لتجربة فريدة، عودة نساءٍ ورجالٍ ممن تلاشت شخوصهم في سُبات عميق بعد إصابتهم بالتهاب الدماغ. لم تخلُ هذه التجربة من مساوئ. فقد كانت حدة بعض الآثار الجانبية لعقار إل-دوبا مُخيفة، فوفقًا لما ورد على لسان أحد المرضى: «لم تعد مُحاولاتي للسيطرة عليها تختلف عن مُحاولات المرء للسيطرة على المد في فصل الربيع. جل ما أفعله هو أن أركب الموجة وأنتظر أن تسكن العاصفة… هذا العقار المُسمى بإل-دوبا، كان عليهم منحه اسمًا مُلائمًا وهو دوبا الجحيم».

دَوَّن ساكس مُلاحظاته إثر احتدام هذه العواصف الدماغية. وكتب فيما بعد: «لا يسعني مُعاودة التفكير في تلك الفترة دون أن تُثير في نفسي انفعالاتٍ عميقة». «كانت اللحظة الأهم والأكثر استثنائية في حياتي كما كانت بالنسبةِ إلى مرضانا». «غمرتنا جميعًا في مُستشفى ماونت كارمل (بيث أبراهام) المشاعر والحماسة بشيءٍ أقرب إلى السحر أو الشعور بالرهبة».

لم يكن الطبيب ساكس الشاب مجرد عالم أعصاب موهوب مُلهم بفكرة عبقرية عن العلاج الثوري، لكنه كان أيضًا كاتبًا شغوفًا ملتزمًا بكتابة التقارير حول القصة الاستثنائية التي تكشفت أمامه يومًا بعد يوم. لقد كتب في ربيع عام 1969 قائلًا: «انتقلت إلى شقة تبعد مئة ياردة عن المستشفى، وكنت أقضي أحيانًا بين 12 إلى 15 ساعة يوميًا مع مرضاي - ألاحظهم وأتحدث معهم وأحثهم على أن يسجلوا في مذكراتهم وأن أسجل ملاحظات كثيرة بنفسي تقدر بآلاف الكلمات كل يوم. وإذا حملت قلمًا في إحدى يديَّ، حملت الكاميرا في اﻷخرى: ربما كنت أرى تلك اﻷشياء كما لم أرها من قبل، وعلى اﻷرجح لن أراها مجددًا ». قال ساكس إن واجبه وبهجته كانا في «أن يصبح شاهدًا ومسجلاً لما يراه»، ما انتهى بكتابة اﻹيقاظ.

تعتبر القصص التي يحكيها ساكس عن حياة فرانسيس دي ورونالدو بي ولوسي كيه وجورج دابليو مؤثرة بعمق، وغالبًا صادمة وأحيانًا مأساوية. يستكشف ساكس من خلال حالات الدراسة تلك أسئلة المرض والصحة والمعاناة والعزلة والدراما النفسية لحيوات تجددت بفعل دواء إل-دوبا. تتمثل غرابة الحياة في مستشفى جبل الكرمل الذي عمل فيه ساكس في اللحظات اﻷخيرة لماجدة بي، التي حضرها «حدس مفاجئ بالموت». «كان صوتها وقورًا وتقريريًا تمامًا وغير منفعل على اﻹطلاق.. في تلك الليلة، جالت السيدة بي في العنبر، بكبرياء يخرس الضحكات، وهي تصافح الجميع قائلة (إلى اللقاء). ومضت إلى السرير وتوفيت في تلك الليلة» بحسب رواية ساكس. يقذف اﻹيقاظ القارئ في دراما من لحظات كثيرة كهذه اللحظة، فتأخذه في رحلة داخل اللغز الغريب والمحير للعقل البشري.

أصبحت قصص ساكس نوعًا من المذكرات، والرواية العاطفية لعلم اﻷعصاب، ومقالة حساسة بعمق حول الحالة اﻹنسانية. سيحظى القراء الذين سيشاهدون الوثائقي التلفزيوني لدونكان دالاس، «اﻹيقاظ»، بالتزامن مع قراءة الكتاب برؤية لا يمكن أن تنسى حول تجربة فريدة في علم اﻷعصاب.

اقتباس أساسي

«نصف هؤلاء المرضى تقريبًا كانوا مستغرقين في حالات من (النوم) المرضي، بلا حركة أو حديث فعليًا، ويحتاجون إلى رعاية تمريضية كاملة، وكان بقيتهم أقل إعاقة، وأقل اعتمادًا، وأقل عزلة، وأقل اكتئابًا، وقادرين على الاعتناء بالعديد من حاجاتهم اﻷساسية، ومواصلة الحد اﻷدنى من حياتهم الشخصية والاجتماعية. لكن بالطبع الجنس كان محظورًا في مستشفى جبل الكرمل».


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجمان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهما دون إذن منهما