كان والد «أفسانه» ووالدتها يرفضان هذه الزيجة إذ كان «علي»، في نظرهما، صغيرًا على الزواج؛ فهو أصغر من «أفسانه» بأربع سنوات، وما زال طالبًا، ولا يعمل، ولا يمتلك دخلًا، فيما كانت «أفسانه» تعمل سكرتيرة في مستوصف خاص بدوام جزئي، وحتى لا يمكن بالراتب الذي تتقاضاه أن تستأجر غرفة ضيقة.
صاحب السماحة
قصة لجعفر مدرس صادقي
ترجمها عن الفارسية: محمود أحمد
*جعفر مدرس صادقي كاتب ومحرر ومترجم إيراني، اشتُهر برواية «گاوخونى» المترجمة إلى العربية باسم «المستنقع»، كما عمل على تحقيق عدد من النصوص التراثية.
كانت «أفسانه» ترفض التقاط الصور، وترفض فستان الزفاف الأبيض وسفرة العقد[1] أيضًا، ولم تقبل أن يستدعوا المصوِّر مهما أصرت أمها.
كانت تقول ما من خطب لالتقاط الصور. وحقًا ما كان ثمة خطب أيضًا؛ إذ كان سيحضر الوالدان وكبار العائلة فقط.
تلا المأذون صيغة النكاح، ولم تطق «أفسانه» صبرًا ليطلب المأذون الإذن ثلاث مرات، طبقًا للعادة، وقالت «نعم» من المرة الأولى، وانعقد النكاح.
اعترى الخجل جميع الحضور. حتى العريس نفسه ذاب خجلًا. كانت أم «أفسانه»، مثل جميع الأمهات، قد نصحتها: «لا تقولِنَّ نعم من المرة الأولى والمرة الثانية! يجب أن تعزز العروس نفسها! لا تضحكي! لا تكثري الكلام!».
كانت «أفسانه» قليلة الكلام، ولا تتقن كيف تعزز نفسها. فقط كانت بطيئة وواهنة، وحين تمشي تجر قدميها على الأرض، وتُقدِّم بطنها إلى الأمام، وتتحدث بوضوح وهدوء، وتضحك من آنٍ إلى آخر، وإذا كانت سعيدة، وقررت أن تضحك على شيء فكاهي، فتضحك، وترتسم على وجهها ابتسامة بسيطة شاحبة فقط.
في يوم الزفاف وضعت زواقًا متواضعًا بإصرار أمها، وجلست إلى سفرة العقد بفستانها الذي كانت ترتديه من حين إلى آخر للمناسبات فقط؛ كانت ترفض ارتداء الملابس الأنيقة والتزين. حتى أنها كانت ترفض الزواج نفسه أيضًا.
لو رضي أبوها وأمها لفضلت أن ينهيا الأمر أمام الحضور، لكن لم تشأ أن تزعجهما؛ كانا منزعجين فعلًا، ولم تشأ إزعاجهما أكثر مما كانا، لقد أزعجتهما بما يكفي.
كانا يودان أن تلبس «أفسانه» فستان الزفاف، وكانا يرغبان في إقامة حفل مشرف واستدعاء المصور لالتقاط الصور من الحفل، والأهم من كل هذا أنهما كانا يريدان أن تتزوج «أفسانه»، كريمتهما الوحيدة، رجلًا ذا شأن.
لو تزوجت رجلًا جديرًا بأن يكون صهرًا، ويمتلك بيتًا وحياة ووظيفة شريفة، أو على الأقل له مظهر مشرف، لربما رضيا بالزواج بدون حفل زفاف أو صور. لكن الآن إذ أنفذت «أفسانه» إرادتها، وراحت تتزوج الصبي الذي ارتضته لنفسها، اكتسبت إقامة حفل الزفاف والتقاط الصور والفستان والزواق مزيدًا من الأهمية لدى أبيها وأمها.
ما العيب في التقاط الصور للمراسم المقامة اليوم ليرياها لهذا وذاك بعد سنوات ويتذكران ذلك اليوم؟ فلطف الحياة يكمن في هذه الأشياء المبهجة. الشبان لا يفهمون. لقد تبدل الزمن، وشبان هذا الزمن لم يعودوا ينصاعون لكلام الآباء والأمهات.
كان والد «أفسانه» ووالدتها يرفضان هذه الزيجة إذ كان «علي»، في نظرهما، صغيرًا على الزواج؛ فهو أصغر من «أفسانه» بأربع سنوات، وما زال طالبًا، ولا يعمل، ولا يمتلك دخلًا، فيما كانت «أفسانه» تعمل سكرتيرة في مستوصف خاص بدوام جزئي، وحتى لا يمكن بالراتب الذي تتقاضاه أن تستأجر غرفة ضيقة.
بعد الزواج، بحثا عن منزل لمدة طويلة، وبعد أشهر من البحث بلا جدوى، دعا أحد أصدقاء «علي»، الذي كان قد تزوج حديثًا أيضًا واشترى له والده الثري شقة صغيرة، «علي» و«أفسانه» ليسكنا هنالك.
لم تحتوِ الشقة على أكثر من غرفتين، فوضع إحداهما تحت تصرفهما، والغرفة الأخرى للزوجين الآخرين. كان الزوجان كلاهما يعيشان حياة بسيطة، وكانت محتويات الشقة، والأغراض الموجودة من قبل، والأغراض التي اشتراها «علي» و«أفسانه» فيما بعد وأحضراها معهما، كلها مشتركة، وما من أحد يملك شيئًا.
ولم تكن نفقات هاتين الأسرتين الصغيرتين حديثتي التأسيس منفصلة، وكل ما يشتريه أحدهم يشتريه لهم جميعًا، ويجلسون أربعتهم إلى مائدة واحدة. ولم يكن صديق «علي» يأخذ منهما إيجارًا إذ كان، مثل «علي» و«أفسانه»، مريدًا لدى «صاحب السماحة»، وكان سعيدًا لأنه يعيش مع نظرائه في الفكر تحت سقف واحد.
كان والد «علي» يعارض هذه الزيجة أيضًا. لقد كان رجلًا ثريًا، ويمتلك مطبعة في «خرم آباد»، وجاء إلى «طهران» من أجل حضور مراسم الزفاف فقط، وبوجه عابس انزوى في أحد الأركان، وطفق يحدِّق إلى العروسين الصغيرين؛ العروسين اللذين ما من شيء فيهما كان يليق بالعرسان، ويبدوان مضحكين بالنسبة إليه؛ «العروس الصغيرة» و«العريس الصغير».
أطلق عليهما هذين اللقبين حينئذٍ، وهمس بهما لزوجته، ولم ينبس مرة أخرى قط. لقد كان منزعجًا، وكل من يعرفونه يعلمون كم كان منزعجًا، ويعطونه الحق في أن ينزعج.
لقد كان كبير عائلتهم، والعائلة كلها سواء هؤلاء الذين يسكنون في «خرم آباد» أو أولئك الذين يعيشون في سائر المدن، عندما تحدث مشكلة ما، أو يدهمهم أمر ما، يهرعون إليه، ويتشاورون معه.
والآن نجله الذي ذهب إلى طهران ليدرس وينال مكانة ما، بحسب زعمه، لم يكد يمر عامان على دراسته حتى وقع في حب هذه العروس الصغيرة، ووسَّط أمه لتجلب رضا أبيه. وتعرفون هؤلاء النساء: ينجزن كل عمل بالبكاء والنحيب.
وبالبكاء والنحيب أجبرت زوجها على الموافقة، وبالبكاء والنحيب ناشدت زوجها أن يحضر مراسم الزفاف.
ما أحسن أنهم لم يستدعوا المصور! أصلًا لم يكن والد «علي» يود أن يسخروا من صورته وهو بجانب هذين العروسين.
وعند سفرة العقد لم يهدِ العروس الهدية، ولم يُقدِم على مساعدة نجله لمواجهة الحياة، وأصلًا لم يساوم على المهر، وقال فقط: «لا شأن لي. عليه أن يدفع بنفسه». حتى أنه قطع مصروف «علي» الشهري الذي كان يرسله إليه خلال العامين الماضيين.
قال: «هو نفسه يعرف»، وقال لزوجته التي كانت تنتحب: «لقد حقَّرتُ نفسي بالقدر الكافي حتى الآن». وفي غد يوم الزفاف، قفل راجعًا إلى «خرم آباد».
حتى قبل الزواج كان لـ«أفسانه» غرفة مستقلة في بيت أبيها؛ بيت بفناء فسيح من طابق واحد وفيه حوض وحديقة وست غرف يقع في شارع «نياوران». وكانت الغرف الست لثلاثة أشخاص: غرفة الأب والأم، وغرفة لعمل الأب، وغرفة لها، والغرف الثلاث الأخرى كانت خاوية وبلا استخدام.
لم يكن والد «أفسانه» عنيدًا، وكان مهتمًا بمصيرهما مع أنه لا يعجبه «علي»، ولا يرغب في أن تتزوج كريمته بهذه السرعة. ومع أنه كان يريد أن يأتيا الآن إذ تزوجا ويعيشا في بيته، لم يصر كثيرًا، وعندما سمع أنهما قررا العيش في منزل أحد أصدقاء «علي»، تذمر قليلًا، لكن وافق فيما بعد عندما رأى أنه لا يجاريهما. حتى أنه خصص لهما مصروفًا شهريًا لأنه يعلم أن حياتهما لن تسير براتب «أفسانه».
كانت والدة «أفسانه» تريدها أن تتزوج. فقد وصلت «أفسانه» إلى سن الزواج، وحتى إذا أردتم أن تتشددوا، فربما قد تأخرت قليلًا أو تكاد: كانت قد أنهت دراستها الجامعية منذ أربع سنوات، وستتم عقدها الثالث بعد عام أو عامين.
لكن «علي» كان اختيارًا سيئًا؛ كان «علي» فتى حديث السن وبلا عمل ولا مال وفيه كل العيوب الممكنة. حتى أن مراسم الزفاف نفسها التي أصرت «أفسانه» على إقامتها بدون بهرجة كانت الفكرة التي أزعجت والدة «أفسانه» باستمرار.
لم تكن والدة «أفسانه» ترغب في أن يقيموا الحفل في أحد الفنادق ولا أن يدعوا العازفين والمطربين ولا أن يرقصوا سبع ليالٍ وسبعة أيام. لا. كانوا يكرهون هذا التبذير، ولم يكن ذلك ضروريًا.
يا ليت فقط أقيم حفلًا مشرفًا، وليتهم قدموا كعكة؛ لا كعكة مكونة من عدة طبقات، ولا كعكة ذات طابق واحد، وإنما كعكة مكتوب عليها اسمي «أفسانه» و«علي».
وليتهم أعدوا عشاءً فاخرًا، وارتدت «أفسانه» فستان الزفاف، وارتدى «علي» حلة العريس، ودعوا كثيرًا من الأصدقاء والمعارف من كل حدب وصوب، وليتهم التقطوا الصور، وكان هذا أشد وجوبًا من كل شيء: الكعكة، والضيوف، وسفرة العقد، والعروسين، والعروس بفستان الزفاف، والعريس بالحلة ورابطة العنق.
بدأ تذمر والدة «أفسانه» من غد يوم العقد، ولم تكن «أفسانه» تكترث بهذا التذمر حتى الشهر أو الشهرين الأولين بعد الزواج حين لم يكونا قد ذهبا إلى منزل صديق «علي» بعد.
واستمر التذمر أيضًا بعدما غادرت «أفسانه» بيت أبيها، واستقرت في بيت صديق «علي»، وفقدت الحياة المشتركة مع «علي» طراوة الأيام الأولى، وتحولت إلى عادة مثل سائر الحيوات مع اختلاف بسيط.
في أيام الجمعة حين كانا يذهبان إلى بيت والد «أفسانه» ووالدتها لتناول الغداء، كانت والدة «أفسانه» تطرح حديث يوم الزفاف مجددًا، وتتحسر على أنهما ليس لديهما أي صورة لذلك اليوم، وتلومهما وتتحدث وتتحدث وتتحدث حتى قبلت «أفسانه» أن يكررا مراسم الزفاف مرة أخرى، لا باسم العقد، وإنما حفل بمناسبة زواجهما ليدعوا العائلة كلها ويلتقطوا الصور، وترتدي «أفسانه» الفستان، ويرتدي «علي» حلة العريس.
لم يكن «علي» يرتدي الحلة قط، وارتداها مرة واحدة فقط عند سفرة العقد، وكانت حلة مستعارة أيضًا من الصديق الذي أصبح الآن شريكه في السكن.
كان عليه أن يستعيرها من الصديق نفسه ثانيةً، وهو الصديق الوحيد الذي يمتلك حلة؛ لا واحدة فقط، وإنما عدد منها. وهذه المرة قاس جميع الحلل ليجد واحدة على مقاسه، فالحلة التي ارتداها عند سفرة العقد لم تكن على مقاسه؛ كانت واسعة، وجميع حلل صديقه كانت واسعة عليه.
ارتدى واحدة من حلل صديقه القديمة التي قد ضاقت على صديقه. كانت تليق عليه، ولكن لم تكن على مقاسه. كان كتفا المعطف كبيرين على كتفي «علي»، وكان البنطال طويلًا، ويجر أطرافه على الأرض. ثنت «أفسانه» أطراف البنطال إلى الداخل، لكن لم يكن التدخل في المعطف ممكنًا. وإن أرادا أن يطلبا حلة أفضل، فعليهما أن يرجئا الحفل لمدة أسبوعين، ولم تكن والدة «أفسانه»، التي بالكاد أقنعت «أفسانه»، تستطيع صبرًا.
فستان زفاف «أفسانه» كان يخص أمها، لكنه كان على مقاس «أفسانه» بالضبط كما لو أنه حيك أصلًا لها. وبسبب حذائها المسطح كانت أطراف الفستان تنجر على الأرض وتكنس أرضية الغرف. لكن عندما انتعلت حذاء أمها عالي الكعب، ارتفعت حافة تنورة الفستان المكرمشة عن الأرض بمقدار إصبعين أو ثلاثة أصابع.
كانت تنورة الفستان واسعة ومنتفخة ولها زنبرك وثقيلة. لكن اعتادت «أفسانه» على هذا الفستان بعد بضع دقائق، وارتاحت فيه، وراحت تجوب من هذه الناحية إلى تلك، وتدور، وتشاهد نفسها في مرآة الصالة الكبيرة، وتتفقد الغرف كلها.
فتحت باب غرفة أبيها، الذي كان مغلقًا، بغتةً، وأفزعت أباها الذي كان غافيًا على مقعده خلف مكتبه.
اهتز الوالد في المقعد، وألقى نظرة من رأسها إلى أخمص قدمها. كان اللعاب يسيل من شدقيه و فرك عينيه المنتفختين، وقال: «هل أرى حلمًا؟»
ضحكت «أفسانه»، ودارت ليشاهد أبوها فستانها جيدًا، وقالت: «فلتخمن من صاحبة هذا الفستان؟!».
كان والدها لا يعلم، ولا يريد أن يعلم. أيًا كانت صاحبته فهو الآن على جسد ابنته ويليق عليها كثيرًا. قال: «كم صرتِ جميلة؟!».
ردت «أفسانه»: «شكرًا جزيلًا». ودارت مرة أخرى، وبينما كانت تخرج من الغرفة، سمعت أن أباها قال شيئًا مثل: «خسارة فيه»، فسألت: «أقلتَ شيئًا؟»
قال الوالد: «قلتُ مبارك. قلتُ فلتشيخا معًا».
ردت «أفسانه»: «شكرًا جزيلًا».
أقيم الحفل في بيت والد «أفسانه». جاء «علي» بحلته الجديدة، ويبدو أكبر من سنه. لكن مجددًا على الرغم من هذا المظهر الجديد، عندما كان يقف بجانب «أفسانه»، لا يليق به أن يكون زوجها. كانت «أفسانه» أطول وأعرض منه. كان يليق بـ«أفسانه» أن تكون شقيقة «علي» الكبرى. وإذا بدلا ملابسهما، لكان يليق بها أن تكون زوج «علي». لكن لم يكن يليق بـ«علي» أن يكون زوج «أفسانه».
قبل ساعة من قدوم المدعوين، وقفا كلاهما أمام المرآة الكبيرة، وشاهدا أنفسهما فيها، وضحكا. ما أحسن لو كانا التقطا صورة مثل صورتهما في المرآة بمظهرهما السعيد والضاحك، مظهرهما الذي يخصهما وملابسهما التي لا تخصهما، لكن لم يكن واضحًا في الصورة هل تخصهما أم لا.
كانت آلة التصوير جاهزة أيضًا: آلة تصوير خالة «أفسانه» التي قد جاءت مبكرًا لتساعد والدة «أفسانه»؛ كانتا تعدان عشاءً حافلًا للمدعوين.
لم تخبر والدة «أفسانه» أيًا منهم ما مناسبة دعوتهم. فقط اتصلت هاتفيًا، وقالت فلتشرفونا في منزلنا ليلة كذا، وإن سأل أحدهم «ما المناسبة»، أجابت «لنجتمع معًا». صاروا عشرين أو ثلاثين شخصًا وهذا العدد كافٍ لالتقاط الصورة.
كانت «أفسانه» متعجلة على التقاط الصورة. وقفت خلف خزانة الكتب في غرفة أبيها وتحيط يديها بعنق العريس، وطلبت من خالتها التقاط الصورة الأولى.
لم تكن والدة «أفسانه» موافقة، وقالت: «فلتصبروا حتى يأتي المدعوون!»؛ كانت ترغب في التقاط جميع الصور عندما يأتي المدعوون؛ حتى الصور الثنائية. كانت صورة والدة «أفسانه» ووالدها الثنائية؛ والدتها بفستان الزفاف ووالدها بالحلة السوداء والقميص الأبيض والبابيون الأسود، مستقرة على الرف في الصالون.
كانت والدة «أفسانه» جالسة على المقعد، وقد وقف والدها بجانبه ووضع يده على ظهره.
مسحت والدة «أفسانه» إطار الصورة بالمنديل، ولمَّعت زجاجها، وحدقت إلى الصورة لبرهة. كما لو كان بالأمس.
كانا قد التقطا الصورة في محل التصوير. آنذاك لم يكن من المعتاد التقاط الصور في حفل الزفاف، وبعد الحفل يذهب العروسان إلى محل التصوير، وكان في محلات التصوير ملابس للعروسين من أجل التقاط الصور.
لم يكن يروق لوالدة «أفسانه» أن تلتقط الصورة بفستان محل التصوير، فأحضرت فستانها معها لتلتقط الصورة به. كانت تروم أن تقول لكل من يرى الصورة إن هذا الفستان فستانها، وتقول إن محل التصوير كان يملك فستانًا، لكن هذا الفستان الذي ترونه هو فستاني؛ الفستان الذي حفظته في الخزانة سليمًا حتى الآن؛ الفستان الذي كانت ترتديه ابنتها بهذا الجمال والاستحقاق.
كان زي والد «أفسانه» مستعارًا من محل التصوير. كانت والدة «أفسانه» تريد أن يعلم الجميع أن فستان «أفسانه» هو نفسه الفستان الظاهر في الصورة.
كانت خالة «أفسانه» تعلم. لكن خال «أفسانه» (الذي لم يأتِ بعد) لم يكن يتذكر بالتأكيد. أصلًا والد «أفسانه» لم يتذكر. كان كافيًا أن تلقوا نظرة متمعنة على هذه الصورة فقط. استغرق تنظيف زجاج الصورة نصف ساعة.
كان هذا الفستان يختلف عن سائر الفساتين؛ ما من محل تصوير كان يملك فستانًا بهذا الجمال. واليوم كانت «أفسانه» مثلها بهذا الفستان. كانت تدور في الغرف، وتمسح كل شيء مثل والدتها ليلمع ويستعد للحفل.
يا لهما من حماس وبهجة! لِمَ كانت تنظف غرف النوم؟ لا شأن للمدعوين بغرف النوم. كان جميع المدعوين يستقرون في الصالون، ولم يكن من المقرر أن يتفقد أحدهم الغرف.
قالت والدة «أفسانه»: «يا أفسانه، امسحي طاولات الصالون فحسب!».
كانت «أفسانه» تبذل كل ما في وسعها، لقد انقلب حالها تمامًا. لماذا لم ينتابها هذا الحماس يوم العقد؟ كان خطأ ذاك الصبي فهو الذي سلبها عقلها.
ما زالت والدة «أفسانه» أيضًا تعلم أنهما كلاهما كانا يشاركان في جلسات المحفل الأسبوعية باستمرار، وفي إحدى تلك الجلسات تعرف أحدهما على الآخر. صحيح أن «أفسانه» كانت ترتاد هذه الجلسات قبل التعرف على «علي» وتعجبها، لكن لو لم تتعرف على «علي»، لربما هجرتها بعد مدة من الوقت، وبحثت عن تسلية أخرى.
كانت وسائل التسلية كثيرة بالنسبة إلى أقرانها؛ في بعض الأحيان كانت تحضر دروس الجيتار، وأحيانًا تذهب إلى دروس الخياطة، وأحيانًا تقرأ، وأحيانًا تكتب، وأحيانًا تتجادل في المناسبات بشأن السياسة ومستقبل البلاد وتريد إنشاء حزبها السياسي المستقل، وأحيانًا تذهب إلى حوض السباحة...
لكن كانت خبرة «علي» أكبر. لم يكن المحفل بالنسبة إلى «علي» مجرد تسلية، وإنما كان حياته كلها. وحتى قبل الزواج كان يعيش في أحد معابد المحفل، وينشر الكتيبات التعليمية للمحفل؛ كتابات صاحب السماحة الذي كان رئيس المحفل ويعيش في أمريكا.
كان المحفل يرفض الزواج، وكثير من أصدقاء «علي» قطعوا علاقتهم به بعد الزواج. وبعد الزواج لم يعد «علي» يقيم في المعبد؛ كان يزور المعبد ويشارك في جميع الجلسات، لكنه لم يكن مقيمًا، ولم يعد يستطيع قضاء وقته كله في عمل التوزيع والدعاية مثل حاله قبل الزواج؛ ما زال نشطًا، لكن ليس مثل قبل الزواج.
كان والد «أفسانه» ووالدتها يأملان أن يبتعدا كلاهما عن المحفل تمامًا بعد الزواج، لكنهما ما زالا يحضران الجلسات، ويقرآن كتيباتها، ويتحدثان في جميع المناسبات عن صاحب السماحة.
لأحاديث صاحب السماحة وكتاباته تفسيرات مختلفة. وصاحب السماحة نفسه لم يشر إشارة صريحة إلى موضوع الزواج في أي من كتاباته، وإنما كانت تُطرح القضايا الهامة والحيوية وعلى المستوى العالمي والمعضلة غالبًا لدرجة أنه لم يبقَ مجال للنقاش حول الأمور التافهة مثل الزواج.
وخلفاء صاحب السماحة هم المسؤولون عن الأمور الغامضة، ويقدمون التفاسير والشروح لينقذوا المريدين الصغار من الحيرة. لكن «علي» لم يكن يصغي إلى أي شرح أو تفسير، ولا يقبل أيًا من خلفاء صاحب السماحة، بل كان يزن كتابات صاحب السماحة بعقله، ويقبل تفاسيره هو فقط.
كان «علي» يعتقد أن «صاحب السماحة لا يعارض الزواج نفسه»، ويقول «إنه يعارض حفل الزفاف فقط». بعد يوم العقد، اندلعت نقاشات كثيرة بين العروسين الشابين؛ كان «علي» يعتقد أن «صاحب السماحة يؤيد الزواج، لكنه لا يؤيد إقامة حفلات الزفاف والتقاط الصور».
جاء خال «أفسانه» مع أول مجموعة من المدعوين، ولم يكد يصل حتى شرع في الجدال مع «علي».
كان «علي» يردد ذلك الكلام المكرر في جميع المناسبات. لم يكن يبدو عليه أنهم أحضروه عنوة إلى هذا الحفل. وكانت الحلة المستعارة تبدو على مقاسه الآن إذ اتكأ على الأريكة، ووضع ساقًا على أخرى، وطفق يتحدث مع خال «أفسانه» حول رفض سماحته لإقامة حفلات الزفاف والتقاط الصور.
قال خال «أفسانه»: «إذن كيف طبع صورته على غلاف جميع كتبه؟»
أوضح علي: «لم يكن ذلك بإذنه؛ لا التقاط الصور، ولا طبع الصورة على الغلاف الخلفي للكتب، ما كان أي من ذلك بإذنه».
اندهش المدعوون من فستان «أفسانه». كانت «أفسانه» قد وضعت زواقًا كثيفًا، وصففت شعرها، وجعدته، وألقت عليه طرحة بيضاء رقيقة.
أصبحت مثل العروس بالضبط في فستان الزفاف. عندما رأوها بفستان الزفاف، أدركوا للتو أن هذا الحفل لم يكن من أجل «التجمع» فحسب. كانوا قد أتوا بأيد خاوية، وكلهم عاتب والدة «أفسانة» أن لماذا لم تخبرهم بمناسبة إقامة الحفل.
قالت والدة «أفسانه»: «ما من خطب. لقد ارتدت الفستان فحسب، فهي لم ترتده يوم عقدها، واليوم ارتدته».
مع قدوم المدعوين، شرعت خالة «أفسانه» في العمل، وراحت تلتقط الصور يمنةً ويسرةً. وأخذت والدة «أفسانه» تتجول باستمرار، وتستقبل المدعوين بنفسها. لم تكن تريد أن يشبه الحفل حفل الزفاف، ولم تكن تريد أن تعزز نفسها مثل العرائس، وتجلس بجانب العريس في صدر المجلس.
كان العريس منهمكًا في الجدال مع خال «أفسانه» وسائر المدعوين. وتتجول العروس باستمرار وتلتقط الصور مع المدعوين، وتتنقل من مكانها باستمرار لتكون الصور التي تلتقطها خالتها متنوعة.
كانت تحاول ألا تنظر في آلة التصوير، لكنها تعلم متى تضغط خالتها على زر آلة التصوير، وفي تلك اللحظة لا تهتز وترفع رأسها وتبتسم.
كانت «أفسانه» قد أُعجبت بفستانها جدًا، وأعجبتها الطرحة البيضاء المنسدلة على شعرها. وكانت تقول للمدعوين: «إنني أحب هذا الفستان جدًا، إنني أحب هذه الطرحة البيضاء جدًا»، وتريد أن تقول بهذا الكلام أنها ارتدت هذا الفستان لهذا السبب فقط؛ فقط بسبب أنها تحب هذا الفستان.
أعدت والدة «أفسانه» العشاء مبكرًا، والتقطت خالة «أفسانه» عدة صور لمائدة العشاء قبل أن يتوجه إليها المدعوون. كانت المائدة عبارة عن الصويا والدجاج المحمر ونوعين أو ثلاثة أنواع من الحساء متنوع الألوان.
كان العروسان يأكلان الصويا فقط، ولا يذوقان اللحم قط؛ كان هذا من تعاليم صاحب السماحة الأساسية التي على جميع أتباعه الالتزام بها. لم يذق «علي» اللحم منذ خمس سنوات، و«أفسانه» منذ ثلاث سنوات.
اندلع جدال بين خال «أفسانه» و«علي» مجددًا عند مائدة العشاء. غمس خال «أفسانه» ملعقة مملوءة بالأرز والدجاج في فمه، وبيده الأخرى عرض على الضيوف الغلاف الخلفي لأحد كتب صاحب السماحة طُبع عليه صورة ملونة لصاحب السماحة تُظهره وهو يبتسم.
كان وجه صاحب السماحة مدورًا وممتلئًا، وقد غطى فمه شارباه الكثيفان المتدليان، وجلس متربعًا على الأرض مستندًا إلى وسادة كبيرة، ووضع يديه المشعرتين السمينتين على بطنه المنتفخ، ويحدق إلى آلة التصوير. قال خال «أفسانه»: «انظروا! هل يعيش بنظامه الغذائي هذا فقط؟» وأشار إلى طبق الصويا. «إنني لا أصدق».
كان خال «أفسانه» يتكلم أكثر من البقية، ويثرثر، ويُضحك المدعوين، ويتجادل مع «علي»، ويلقي النكات، ويضحك هو نفسه أكثر من الآخرين.
وكان قد أحضر معه آلة تصوير صغيرة تحدث عنها أيضًا؛ آلة تصوير ضئيلة الحجم توضع في الجيب في حجم علبة السجائر بالضبط.
كان قد اشتراها من أوروبا في إحدى رحلاته الأخيرة. من لندن. شرح العنوان بدقة من أي شارع، ويتذكر بكم جنيه. وما أجمل الصور التي التقطها بآلة التصوير هذه في باريس وروما وسائر المدن!
كانت آلة تصوير بسيطة لا تحتاج إلى ضبط على عكس آلة تصوير خالة «أفسانه» التي كانت ضخمة وثقيلة ويجب ضبط المسافة والإضاءة وكل شيء بدقة.
كانت خالة «أفسانه» قد اشترت آلة التصوير الخاصة بها من طهران، وكانت باهظة الثمن. وكانت آلة تصوير احترافية، ويلتقط المصورون المحترفون الصور بهذه الآلة. اندلع جدال حامٍ بينهما، وأخذ كل منهما يحكي عن آلته والصور الجيدة التي التقطها بها.
منذ جاء خال «أفسانه» كان قد التقط صورًا كثيرة. وقالت والدة «أفسانه»: «يجب أن أرى! طالما لم أرَ الصور فلن أصدق». وتحدثت عن طبخها. لم يكن المدعوون قد تحدثوا عن طبخها بعد، فثرثرة خال «أفسانه» وخالتها لم تدع لأحد مجالًا للحديث.
فاجأت والدة «أفسانه» المدعوين، وشرعوا في الثناء على طبخها. كانوا كلهم يتحدثون بعضهم مع بعض، ويضحكون معًا، وتختلط الأصوات.
كان والد «أفسانه» يذرع غرفة عمله، ويستمع إلى هذه النقاشات العائلية والضحكات. كان باب الغرفة موصدًا، ولم يأتِ أحد بعد ليخبره. حتى لم يدعه أحد إلى مائدة العشاء كما لو كانوا قد نسوا أن ذلك الرجل في البيت.
كان والد «أفسانه» ينتظر أن يستدعوه ويتريث ويرغب في أن يرى من سيتذكره. كان المدعوون كلهم من أقارب زوجته أو من أصدقائها وأصدقاء «علي» و«أفسانه».
كانت زوجته تدعو أقاربها وأصدقائها فقط، ولا يعجبها أصدقاء زوجها وأقاربه، ولا تود استقبالهم.
شاهد والد «أفسانه» مظهره في المرآة الصغيرة الموضوعة بجانب مكتبه؛ كان قبيح الصورة، دميم المنظر، ضخم الرأس، أصلع، ذا عينين منتفختين أحاط بهما هالتان داكنتان. لم ير شيئًا في وجهه يمكن مدحه. ولم يمتلك شيئًا آخر يمكن مدحه.
أجال بصره فيما حوله. كانت غرفته: غرفة المطالعة والعمل، أسمى هذا المكان «غرفة المطالعة»، وأحيانًا كان يقول «غرفة العمل»، لكنه ما من عمل كان يتم في هذه الغرفة ولا مطالعة.
لم يكن يطيق قراءة الكتب، ولم يقرأ أيًا من الكتب المحشورة في الخزائن المحيطة بالغرفة، كان يمتلك كتبًا نادرة ثمينة، وكتبًا ذات طباعة حجرية، وكتبًا مرجعية وغير مرجعية. كان بوسعه أن يتحدث عن كتبه النادرة عن مائدة العشاء، لكنه كان يعلم أن ابنته و«علي» سيستهزئان ويسخران منه. وستسخر منه زوجته أكثر من البقية.
ما من أحد كان يأخذ كلامه على محمل الجد. واعتادت زوجته على مقاطعته دائمًا. لا يتذكر أنه قال جملة كاملة أمام الضيوف على مائدة العشاء أو الصالون، ولو لم يكن عندهم ضيوف، ما من أحد من الأقربين يصغي إلى كلامه، وينصرفون عن كلامه دائمًا، وينسى ماذا يريد أن يقول.
كانت زوجته تستمتع بإهانته وود أن يفسد متعتها. كان يعلم ماذا تقول زوجته لمدعويها وأصدقائها في غيابه. ولو جرى الحديث عنه، فستضحك زوجته، وتسخر منه، وتقول لهم إن زوجها رجل متقاعد غير صالح للعمل جاهل وكسول يهدر وقته من الصباح وحتى المساء في التجول في المتنزهات والشوارع ومشاهدة التلفزيون والاستماع إلى المذياع وتصفح الكتب التي لم يقرأ أيًا منها.
جلس إلى مكتبه، وسحب ورقة بيضاء كانت موضوعة على المكتب. كان يرغب في كتابة شيء ما؛ رسالة إلى زوجته أو «أفسانه». ربما يقرأون رسالته.
كان يود أن يكتب لماذا لم يشعر أحد بغيابه، ولماذا لم ينادِه أحد؟ حتى أن أيًا من المدعوين لم يبحث عنه. لم يكتب أي شيء قط، حتى الرسائل.
ما كان لديه أحد يكتب إليه رسالة. لو سافر «علي» و«أفسانه» أو هاجرا إلى مدينة أخرى، فسيكتب لهما رسالة، وسيكتب لهما واقعة اليوم أيضًا: اليوم الذي لم ينتبه فيه أحد إلى أنه ليس عند مائدة العشاء. لم يبحث أحد عنه، ولم يفتح أحد باب مكتبه ويدخل؛ الأمر الذي يفعله دائمًا؛ كان يود أن يفتح باب غرفة «أفسانه»، بمناسبة وبدون مناسبة، ويدخل.
كانت «أفسانه» تغلق باب غرفتها دائمًا، لا توصده، بل تغلقه فحسب. كان يود أن يفتح باب غرفة «أفسانه» ويختلس النظر، كان يريد أن يرى هل هي موجودة أم لا، وماذا تفعل: يقظة أم نائمة، مرتدية الملابس أم لا. كان معه حق، فالتعس كان أبوها. أحيانًا كانت تمر الساعات ويظل باب غرفتها مغلقًا ولا يصدر من الغرفة أي صوت، وما من أحد يعلم هل هي في غرفتها أم خرجت إلى الفناء. وأحيانًا عندما يزورهم ضيوف، تفر إلى الفناء عبر المخرج بسرعة كيلا تضطر إلى المجيء عند الضيوف وإظهار نفسها. وفي بعض الأحيان حينما يكون باب غرفتها مفتوحًا يرى أنها قد جلست متربعةً في وسط الغرفة. كانت تجلس على الأرض متربعةً في صمت بلا حراك بالساعات. كانت تمارس الـ«مديتيشن».
كانت والدة «أفسانه» ترفض فتحه للأبواب، وتنهره، وتنبهه إلى أن هذا العمل ليس عملًا جيدًا، لكنه لم يكن يصغي إلى هذا الكلام، ويفعل ما يفعله. وذات يوم لم تكن زوجته موجودة، ووجد باب غرفة «أفسانه» موصدًا. فانزعج، وهز مقبض الباب عدة مرات. لم يصدر صوت. طرقه. دق على الباب بقبضته. لم يصدر صوت أيضًا. اضطر إلى أن يركله ليكسر الباب والقفل. وحتى أنه كسر القفل ودخل، كانت «أفسانه» قد ذهبت إلى الفناء، ومن هناك إلى الخارج. ولم ترجع حتى الصباح. كانت قد توجهت إلى المعبد، ونامت هناك. ومنذ تلك الليلة قررت الزواج من «علي».
طفق «علي» يتكلم عند مائدة العشاء، ولاذوا جميعًا بالصمت ليسمعوا صوته. كان يتحدث بهدوء، وحبس المدعوون الذين كانوا قد أطلقوا كل هذا الضجيج قبل بضع لحظات أنفاسهم في صدورهم، والتزموا الصمت لدرجة أن والد «أفسانه» في غرفته المغلقة كان يسمع صوت «علي». راح يتكلم عن صاحب السماحة، ويقول: «إنه معلم العشق. كل شيء لدينا فهو منه. وتُرجمت كتبه إلى جميع اللغات الحية في العالم».
مد يده، وأخرج أحد كتب صاحب السماحة من بين الكتب الموضوعة في الخزانة. كانت قد طُبعت صورة ملونة لصاحب السماحة على الغلاف الخلفي للكتاب. كان مثل القصابين بالضبط.
كان الحق مع خال «أفسانه». كيف تمتلئ هذا البطن الضخم بالأطعمة النباتية؟ يليق بهذا الرجل أن يحشو بطنه الضخمة بالأرز والكباب والأرز والدجاج كل يوم، يليق بهذا الرجل أن يكون قصابًا أو سائق شاحنة، لا صاحب سماحة. ربما قد صار هكذا من فرط ما تناول الحساء. كان يريد أن يكتب على هذه الورقة واقعة اليوم الذي زار فيه بيت متناولي الحساء؛ ذلك البيت الذي يعيش «علي» و«أفسانه» في إحدى غرفتيه.
كانا قد انتقلا هناك منذ مدة، وأخبرته زوجته متأخرةً كثيرًا بأنهما وجدا ذلك المكان.
كان والد «أفسانه» يريد أن يرى أين تعيش ابنته. كان من حقه أن يعرف. لم تستشره «أفسانه»، ولم تكن تستشيره قط، وتفعل ما تشاء.
كان الوالد يعارض زواج «أفسانه»، ويعارض جميع أفعالها، لكنه لم يكن يستطيع أن يظل لا مباليًا. فأخذ العنوان من زوجته، وفي عصر أحد الأيام ذهب إلى هناك على حين غرة.
لم يكن «علي» و«أفسانه» موجودين، واصطحبه صديق «علي» إلى الصالون، وجلس على إحدى الأرائك القريبة من الباب. ورأي عبر فتحة أحد الأبواب الذي كان شبه مفتوح شخصًا نائمًا على سرير الغرفة الواقعة في الناحية المقابلة من الصالة، وأخذ شخص آخر (كان امرأة) يذرع الغرفة.
منذ تلك اللحظة اجتاحت أنفه رائحة بشعة؛ رائحة طعام بائت وتوابل. أصر صديق «علي» أن يجلس حتى يعود «علي» و«أفسانه»، وقال إنهما قد ذهبا للتسوق، وسيعودان الآن. وذهب ليحضر له الحساء.
قال والد «أفسانه»: «لا، شكرًا. لن أتناول شيئًا». ولكن صديق «علي» أصر أن يضيِّفه. لم يكونوا يتناولون الشاي ولا الشربات ولا الحلوى ولا القهوة، بل يتناولون الحساء فقط، وهو طعام ضيافتهم الوحيد.
كانت الكتب مكومة حزمًا حزمًا في ركن الصالون؛ مغلفة ومفتوحة، بعضها مثل بعض. ألقى نظرة. كانت كلها كتب صاحب السماحة. عدد كبير من أحد كتب صاحب السماحة. بالصورة الملونة نفسها على الغلاف الخلفي. وكانت صورة كبيرة مؤطرة لصاحب السماحة معلقة على جدار الصالون؛ صورة الغلاف الخلفي للكتاب نفسها. ربما حقًا لم يكن لديه صورة أخرى، وربما كان «علي» صادقًا أنه لا يحب التقاط الصور، والتقطوا له هذه الصورة خلسة.
ربما لو لبث قليلًا في هذا البيت، وتناول هذا الحساء، لصدق كلام «علي» كله. أحضر صديق «علي» الحساء على الفور.
كان الحساء جاهزًا ومعدًا. كانوا يتناولون دائمًا هذا الحساء، وكان جاهزًا ومعدًا من الصباح وحتى المساء؛ حساء فاتر عديم الطعم لم يكن معلومًا ماذا وضعوا فيه، وتلك الرائحة التي صدمت أنفه عند الباب انسكبت في حلقه الآن من الحساء.
تناول ملعقتين، وغمس الملعقة الثالثة في فمه بالكاد. وضع الملعقة في الحساء، ولم يتناول مرة أخرى. أصر صديق «علي» أن يتناول مجددًا، وأصر أن ينتظر حتى يعود «علي» و«أفسانه» من التسوق. لكنه أصيب بالغثيان، ولم يعد يطيق الانتظار.
نهض، وأوصل نفسه بمشقة إلى الباب. وهناك، خارج الباب، تقيأ.
قال صديق «علي»: «لا بأس. إنه واضح من البداية. طعامنا لا يناسبك». وأغلق الباب. سمع صوت شخص آخر كان يقول: «لم يعتد مزاجه بعد على هذه الأطعمة». ومن خلف الباب، جاء صوت ضحك.
كان صوت عدة أشخاص يضحكون. ومن بين الضحكات ضحكة امرأة. عسى أن تكون «أفسانه» نفسها التي تضحك. كانوا يضحكون جميعًا: «أفسانه» و«علي» وصديقه والجميع وكل من يعرفه. كانت زوجته تسخر منه دائمًا، وتبحث عن ذريعة للسخرية منه. وعندما تسمع غدًا خبر تقيؤه فستضحك أكثر من المعتاد، ولن تتماسك من شدة الضحك، وستضحك لمدة نصف ساعة كاملة، وتتشبث بالأرض، وينحدر الدمع من عينيها.
كتب على الورقة:
«بموجب هذا أعلن أن العالم ليس مكانًا صالحًا للعيش».
رمق صورة صاحب السماحة، وتملكه الضحك. كم كان مظهره مضحكًا. «كم سخرتم مني؟ فلتسمحوا لي بأن أسخر منكم قليلًا». أراد أن يكتب هاتين الجملتين، لكنه لم يكتبهما.
الآن حان دوره ليضحك. نهض من مكانه، وضحك بصوت عالٍ. لا. ما من أحد في الخارج سمع صوته. كان حديث «علي» قد انتهى، وسادت الحوارات العائلية مجددًا. أخذوا يثرثرون ويتبادلون الأحاديث المكررة؛ التفاخر والتظاهر والنكات السخيفة.
كتب على الورقة:
«بموجب هذا، أعزل السيد صاحب السماحة من منصبه، ومنذ الآن فصاعدًا سأتولى شخصيًا هداية الناس، وسأدوِّن كتبي».
سحب كتاب صاحب السماحة ورماه على الأرض. وذهب إلى الفناء.
غادر البيت في صمت، وذهب ليؤلف كتبه.
***
من هو صاحب السماحة؟ لم يكن والد «أفسانه» أشد قبحًا من صاحب السماحة. حتى في الصورة، لو كان التقط صورة، وصورة ملونة أيضًا، لبدا أفضل منه. لم يكن لديه شاربان كثان مثل صاحب السماحة، ولم يكن بطنه بتلك الضخامة.
كانت صورته ذات الأبعاد 4*6 بالأبيض والأسود المطبوعة في الجرائد ترجع إلى سنوات عندما كان موظفًا على الدرجة الثانية عشرة في وزارة المالية ويعمل تحت إمرته عشرون موظفًا.
كان قد كُتب أسفل الصورة اسمه واسم عائلته وتاريخ مغادرته للمنزل، ونوشد الناس إذا عثروا عليه وأبلغوا فسيتلقون مكافأة. لكن ما من أحد استطاع أن يعرفه من هذه الصورة القديمة.
كان مظهر والد «أفسانه» قد تغير تمامًا في السنوات الأخيرة؛ تساقط شعره كله (في الصورة كان لديه طرّة)، وسقطت أسنانه الأمامية وبقيت واحدة أو اثنتان لم تسقطا، كان فمه مخططًا بالسواد، (كان يبتسم في الصورة وكانت ثناياه بيضاء ومنتظمة)، وكانت عيناه صغيرتين وغاصتا في الحفرتين أسفل حاجبيه الكثيفين (في الصورة كانت عيناه واسعتين وجاحظتين).
في الحفل بعد شهر، كانت الأيادي تتبادل الصحيفة التي نُشرت فيها صورة والد «أفسانه». كانت «أفسانه» قد ارتدت فستان الزفاف مجددًا، وارتدى «علي» حلة العريس. كانت صور الحفل السابق قد خربت، واضطرت والدة «أفسانه» إلى إقامة حفل آخر، وهذه المرة دعت ضيوفًا آخرين. لم يحضر أي من المدعوين السابقين هذا الحفل. كانوا كلهم أصدقاءها وزملاء «أفسانه» في الدراسة، وأخذ مصور محترف بآلة تصوير محترفة يدور بين المدعوين ليلتقط أفضل الصور الممكنة وأكثرها طبيعية للعروسين والمدعوين.
اضطرت والدة «أفسانه» إلى أن تشرح للمدعوين أن هذه الصورة المطبوعة في الصحيفة آخر صورة لزوجها. فهو لم يكن يحب التصوير. بالكاد كان يلتقط الصور. وكانت تعرض على المدعوين الأكثر قربة كتاباته وتضحك.
كان «علي» يُحدِّث الضيوف عن صاحب السماحة. ويلوذ المدعوون الذين كان كلام «علي» جديدًا عليهم بالصمت ليتناهى صوت «علي» إلى أسماع الجميع. أحيانًا كان الأبعد عن «علي» يقول: «فلتتحدث بصوت أعلى من فضلك!».
لكن «علي» لم يستطع أن يتحدث بصوت أعلى، ويجب أن يصمتوا ويتقدم ليسمع الجميع كلامه. كلهم كانوا آذانًا صاغية، وأثناء الاستماع ما من أحد كان يضحك ويشوِّش. قالت «أفسانه» لأمها: «من الآن فصاعدًا، لن ندعو خالي أبدًا».
وافقت أمها، وكان خال «أفسانه» الشخص الوحيد الذي لم يكن يأخذ كلام «علي» على محمل الجد.
[1] مائدة يوضع عليها عدد من العناصر الرمزية مثل المرآة والتوابل والعسل والسكر
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منها