آه يا رَحْمَة مَمْلَكَة الجَنَّة التِي لا حَدَ لَهَا! أيُّ أبٍ آخَرٍ كَانَ ليِتَحَمَّل كُلَّ هَذِه الإهَانَات مِن أبْنِه؟

دَانْتِي أَلِيجْييري

«عَنْ البَلاغَةِ العَامِّيَّة»: الكِتَابُ الأوَّلُ؛ المَقطَع السَادِس والسَابِع.

تَرجَمَة: مينا ناجي

عن التَرجَمَة الإنجليزيَّة لستيفن بوترييل

نشرت في مجلة specimen بتاريخ 8 مايو 2021


دانتي عن موقع True Italian

6

بمَا أنَّ الشُؤُون الإنْسَانيَّة تُقَام الآن بلُغَاتٍ مُختَلِفة عَديدَة، بحَيث أنَّ الكثيرَ مِن النَاس لا يُفهَمون بشَكلٍ أفْضَل مِن قِبَل الآخرين حين يَستخْدِمون الكلِمَاتَ عمَّا لَو لَمْ يستَخْدِمُوها، يَدفعُنا ذَلك لاسْتِقْصَاء اللغة التي يُعتَقَد أنَّها اُستُخدِمَت مِن قِبَل الرجُل الذي لم يَكُن لدَيه أبدًا أمٌّ ولا شَرِبَ مِن لبَنُها، الرجُل الذي لمْ يَرَ أبدًا طُفُولَةً ولا نُضُوج. فِي هَذَا، مِثل أمُورٍ أُخرَى عَديدَة، «بِيترَامَالا» مَدِينَةٌ عَظِيمةٌ بالفِعْل، بيتُ القِسْط الأكبَر من أبنَاء آدم. لمَن هو مُضَلَّل للغَايَةِ أنْ يَظُنَّ مَكَان مَولِده هو أكثَر مَوقِع بَهيجِ تَحْت الشَمْس، فرُبَّمَا يَعْتَقِد أيضًا أنَّ لُغَتِه الخَاصَة – أيْ لُغَتِه الأم- تَفُوقَ كُل الأُخرَيَات؛ وكنَتِيجَةٍ، رُبَّمَا يَعْتَقِد أنَّ لُغَتِه هي لُغَة آدم. بالنِّسبَة لي، على أيَّة حَال، العالمُ كُلَّه وَطَنٌ، مِثل البَحرِ للسَمَكَةِ –على الرَغْم أنِّي شَرِبتُ مِن «آرْنُو» قَبل أنْ أُسنِّن، وأُحِبُّ «فلورنسا» للغَايَة إلى حَدْ أنِّي، بسَبَبِ أنِّي أحْبَبْتُها، أُعَانِي النَفْي ظُلمًا– وسأزِنُ حُكمي بالمَنْطِق أكثَر مِن العَاطِفَة. وبالرَّغم أنَّه لا يُوجَد مَكَانٌ أكثَر قُبُولاً عَلَى الأرضِ مِن «فلُورَنْسَا» لمُتْعَتِي (أو بالأحْرَى لإشبَاعِ رغبَتي)، فَحِين أقلِّب صَفَحات كُتُب الشُعَرَاءِ والكُتَّابِ الآخرَين، الذِينَ عَبرَهُم وُصِفَ العَالمَ بشَكْلٍ كُلِّيِّ وفِي أجْزَاءِه المُكَوِّنِة، وَحِينَ أتَأمَّلُ بَاطِنيًا مَوَاقِعَ الأمَاكِنَ المُخْتَلِفَةِ فِي العَالَمِ، وعِلاقَتِهِم بالقُطْبَيِنِ والدَائِرَةِ عِنْدَ خَطْ الاسْتِوَاءِ، أقتَنِعُ، وأقِرُّ بُوضُوحٍ، أنَّ هُنَاكَ مَنَاطِق ومُدُنًا عَديدَة أكثَر نُبْلاً وبَهْجَة مِن «تُوسْكَانِي» و«فلُورَنْسَا»، حَيثُ وُلِدْتُ وتَوطَّنْتُ، وأُمَمٌ وشُعُوبٌ عَديدَة يتحدَّثونَ لُغَةً أكثَر أنَاقَة وعَمَليَّة مِن الإيطَاليين. بالعَوْدَةٍ، إذن، لموْضُوعِي، أقولُ إنَّ شَكلاً مَا مِن اللُغَة خَلَقَه الله مَع الرُّوح الأولَى؛ أقُولُ «شَكلاً» بالإحَالَةِ إلى الكَلِمَات المُسْتَخْدَمَة للأشْيَاءِ، وبِنَاء الكَلِمَاتِ، وتَرْتِيب البِنَاء مَعًا؛ وكَانَ لِهَذَا الشَّكْل مِن اللُغَة الاسْتِمْرَارُ فِي اسْتِخْدَامِه مِن قِبَل كُلِّ المُتَحَدْثِينَ، لَو أنَّه لَمْ يُهشَّم عَبْرَ خَطَأ الافْتِرَاض الإنْسَانيّ، كَمَا سَيُبيَّن بالأسْفَل. فِي هَذا الشَّكْل مِن اللُغَة تَحَدَّثَ آدمُ؛ فِي هَذا الشَّكْل مِن اللُغَة تَحَدَّثَ كُلُّ نَسْلِه حَتَّى بِنَاء بُرْجِ بَابِل (الذي تُرْجِمَ بـ«بُرْج البَلْبَلَة»)؛ هَذَا هُو شَكْل اللُغَة المَوْرُوُث مِن قِبَل أبْنَاء «عِبر»، الذين دُعِيوا عِبرَانِيين لأجل ذلك. لِهَؤلاء فَقَطْ بَقِيَتْ بَعد البَلْبَلَة، كَي لا يَتَحدَّث مُخلِّصنَا، الذي كَانَ لِيَنْحَدِر مِنْهُم (بِمِقْدَار مَا كَان إنْسَانًا)، لُغَة البَلْبَلة، بَل النِعْمَة. لِذَا كَانَت اللُغَة العِبْريَّة هِي التي شَكَّلتْهَا شِفَاهُ المُتَحدِّث الأوَّل.

7

واأَسَفَاه، كَم يُخْجِلَنِي الآن تَذَكُّر خِزْيَان الجِنْس البَشَرِيّ! لَكِنْ بِمَا أنَّه لا يُمْكِنَنِي أنْ أُحْرِزَ تَقَدُمًا دُونَ المُرُور بِهَذَا الطَرِيق، بالرَّغْم مِن أنَّ حُمْرَةً تَكْسُو وِجْنَتِي ورُوحِي تَجْفُلُ، يَنْبَغِي عليَّ أنْ أُهِمُّ بِفِعْل ذَلِك. آه أيَّتُهَا الطَبِيعَة البَشَرِيَّة، تَمِيلِين دَوْمًا تِجَاه الخَطِيئَةِ! مُتَوَرِطَة فِي الشَّرِ مِن البِدَايَة، وَلَا تُغَيِّريِن أَبَدًا سُبُلكِ! ألَمْ يَكُنْ كَافِيًا لِتَقْوُيِمِكِ أنَّ، مَنْفِيَّة مِن النُّوُر بِسَبَبِ انْتِهَاكُك الأوَّل، عَلَيِكِ العَيِش فِي مَنْفَى مِن مَسَرَّات وَطَنِكِ؟ ألَمْ يَكُنْ كافيًا أنَّ، بِسَبَب الشَّهْوَة والقَسْوَة التِي تَشْمَل جِنْسَك كُلَّه، كُلَ شَيءْ كَانَ لَكِ هَلَكَ فِي طُوفَانٍ، وعَائِلَة وَحِيدَة نَجِيَت، وأنَّ مَخْلُوقَاتَ الأرْضِ والسَمَاءِ كَانَ عَليِهَا أنْ تَدْفَع ثَمَنَ الأخْطَاءِ التِي ارْتَكَبْتِهَا؟ بالفِعْل كَانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُون كَافِيًا. لَكِن، كَمَا أعْتَدْنَا القَوْل فِي صُوْرَة مَثَل، «لَيْسَ قَبْل المَرَّة الثَالِثَة سَتمْتَطِي» [الثَالِثَة ثَابِتَة]؛ وأنْتِ، أيَّتُهَا الإنْسَانِيَّة التَعِسَة، اخْتَرْتِ أنْ تَعْتَلي فَرَسًا حَرُونًا. ولِذَا، أيُّهَا القَارِئ، الجِنْس البَشَرِي، إمَّا نَاسِيًا أو مُحتَقِرًا العُقُوبَات السَابِقة، ومُبْعِدًا عَيْنَيه مِن الكَدَمَاتِ البَاقِيَة، أتَى للْمَرَةِ الثاَلِثَة ليستَحِق الضَرْب، واضِعًا ثِقَتَه فِي كِبْرِيَائِه الأحْمَق. ظَنَّتْ فِي قَلْبِهَا إذن، الإنْسَانيّة غَير القَابِلَة للصَلَاح، بِتَضْلِيل مِن العِمْلاق «نَمرود»، أنْ تَتَخَطَّى فِي المَهَارَة لَيْس فَقَط الطَبِيعَة بَلْ مَصْدَر طَبِيعَتُها نَفْسَهَا، الذِي هُو الله؛ وَشَرُعَتْ فِي بِنَاء بُرجٍ فِي «شِنعار»، التِي سُمِّيَتْ بَعْد ذَلِك «بَابِل» (الذِي هُو «بَلْبَلَة»). بِهَذِه الوَسِيلَة تَمَنَّى البَشَرُ التسَلُّقَ إلى الجَنَّةِ، عَازِمِين فِي حُمْقِهِم لا أنْ يَتَسَاوُوا بَل يَتَخَطُّوا خَالِقِهِم. آه يا رَحْمَة مَمْلَكَة الجَنَّة التِي لا حَدَ لَهَا! أيُّ أبٍ آخَرٍ كَانَ ليِتَحَمَّل كُلَّ هَذِه الإهَانَات مِن أبْنِه؟ مَع ذَلِك، همَّ لا بسوط عَدُو لَكِن أبٍ، مُعْتَادٍ بالفِعْل عَلَى إنْزَالِ العِقَابَ، أدَّب ذُرِّيَّته المُتَمَرِدَة بِدَرْسٍ مُقدَّسٍ كَمَا هُو جَدِيرٍ بالتَذَكُّر. تَعَاوَنَ الجِنْس البَشَرِي بأكْمَلِه تَقْرِيبًا فِي عَمَلِ الشَّرِ هَذَا. البَعْضُ أعْطَى الأوَامِرَ، البَعْضُ رَسَمَ التصَامِيمَ؛ البَعْضُ بَنَى الحُوَائِطَ، البَعْضُ قَاسُوهُم بِمَطَامِيرِ، البَعْضُ دَهَنُوا المَلَاطَ عَلِيهم بالمَوالِجِ؛ البَعْضُ كَانَ مُنْكَبًّا عَلَى تَكْسِير الحِجَارَةِ، البَعْضُ عَلى حَملِهُم مِن البَحْرِ، البَعْضُ مِن اليَابِسَةِ؛ ومَجْمُوعَاتٌ أُخْرَى أيضًا اشْتَرَكَتْ فِي أنْشِطَةٍ أُخْرَى – حَتَّى أصَابَتْهُم جَمِيعَهُم ضَرْبَةٌ هَائِلَة ٌمِن السَمَاء. قَبل ذَلِك، تَكَلَمُوا كُلَهُم اللُغَةَ الوَاحِدَة نَفْسُهَا، بَيْنَمَا يَقُومُون بِمَهَامِهِم؛ لَكِن الآن أُجْبِرُوا عَلَى تَرْكِ أعْمَالِهِم، وألَّا يَعُودُوا أبَدًا إلَى ذَاتِ الشُّغْل، لأنَّهُم قَدْ انْقَسَمُوا إلَى جَمَاعَات تَتَحدَّث لُغَاتً مُخْتَلِفَة. فَقَط مِن بَين هَؤلاءِ الذِين قَامُوا بِنَشَاطٍ مُعَيَّن بَقِيتْ لُغَتِهِم غَير مُتغيِّرة؛ لِذَا، عَلَى سَبِيل المِثَال، هُنَاك وَاحِدٌ لِكُل المِعْمَارِيين، وَاحِدٌ لِكُل حَامِلِي الحِجَارَةِ، وَاحِدٌ لِكُل كَاسِرِي الحِجَارَةِ، وَهَكَذَا لِكُل العَمَلِيَّاتِ المُخْتَلِفَة. بِعَدَدِ أنْوَاعِ الأعْمَالِ المُتَضَمِّنَة فِي المِشْرُوعِ، كَانَ هُنَاك لُغَات تَفَرَّقَ بِهَا الجِنْس البَشَرِي؛ وكُلَّمَا زَادَتْ المَهَارَةُ المَطْلُوبَةُ لنُوعٍ مِن العَمَلِ، زَادَتْ بِدَائيَّةُ وبَرْبَرِيَّةُ اللُغَةِ التِي يَتَحَدَّثُون بِهَا الآن. لَكِن اللِسَانُ المُقَدَّسُ بَقِيَ للذِين لَمْ يَنْضَمُّوا للمَشْرُوعِ وَلا مَدَحُوه، بَلْ عِوَضًا، ازْدَرُوه تَمَامًا، وسَخِرُوا مِن غَبَاءِ البنَّائِين. هَذِه الأقلِّيَّة المُتَوَاضِعَة -مُتَوَاضِعَة العَدَدِ فَقَطْ- كَانَت، كَمَا أعْتَقِدُ، عَائلِة سَامْ، ابن نُوح الثَالِث، الذِي أنْحَدَرَ مِنْه شَعْبُ إسْرَائِيل، الذِين اسْتَخْدَمُوا اللُغَةَ الأقْدَمَ هَذِه حَتَّى زَمَنِ تَشَتُّتِهِم.


يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه