بينما تستكمل طالبان حملاتها عبر البلاد، يقع الأفغانيون أسرى لنظام اجتماعي جديد مبني على العنف والخوف والقمع. وضعت طبيعة الاحتلال الأمريكي المطوَّل والمساوئ التي يتركونها خلفهم المدنيين في موقف التبعية والإهانة والذل

الولايات المتحدة ومساوئ الإنتاج المعرفي الاستعماري عن أفغانستان

مقال: منزه ابتكار*

نُشر في موقع مركز أفغانستان بجامعة كابول

ترجمة: شهاب الخشاب

*منزه ابتكار طالبة دكتوراه بقسم الدراسات الشرقية في جامعة أوكسفورد، وحسابها على تويتر @mebtikar


يدور الحديث المعتاد بيننا كمجموعة من الأصدقاء من أفغانستان وإيران وقبرص الشمالية ومصر حول لغاتنا وتراثنا والتطورات والصراعات السياسية في بلادنا الأصلية في غرف جامعة أوكسفورد المشتركة. نتحدث عن أبحاثنا وأعمالنا الميدانية وبيوتنا في كابل وطهران وفاماجوستا والقاهرة، تحت الحوائط التي تحمل لوحات تُظهر ضباط الاستعمار البريطاني المعروفين والمرتبطين ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الجامعة. نتحدث ونتأمل في المفارقة الكامنة في البحث عن «ميادين عمل» نعتبرها أيضًا أوطاننا. رغم أن معظمنا قد درس في نفس الجامعة لسنوات طويلة، ما زال إحساسنا بالغربة مقبضًا، وخاصةً أن المؤسسة التي نعمل بها مرتبطة بتاريخ استعماري مؤلم وعميق الجذور يساهم في الإنتاج المعرفي عن بلادنا الأصلية.

تعد جامعة أوكسفورد فضاءً متميزًا للإنتاج المعرفي، ولديها سمعة قديمة الأمد في توليد وتوزيع المعرفة التي تؤدي دورًا أساسيًا في تشكيل العالم الذي نعيش فيه. تم تشكيل بعض المجالات لدراسة الأماكن التي تبدو غريبة وبعيدة، مما استدعى تدريب الطلاب لصالح الأغراض الاستعمارية للإمبراطورية، وأصبح الكثير من هؤلاء الطلاب نخبة من ضباط ومسؤولي الاستعمار. صاحب الإنتاج المعرفي خيالًا سعى نحو تحويل تلك الأماكن إلى خارطة مقروءة بعيون الطموحات الاستعمارية والإمبريالية، قد تعتمد على فهم «الآخر» بشكل شامل وليس العواصم الأوروبية. اتخذ هذا الإنتاج المعرفي أوروبا الغربية كنموذج، وتنكر خلف شعار «الحياد» و«العلم» غالبًا، وهكذا تم إنتاج وإعادة إنتاج المعرفة من وجهة نظر محددة.

تعد معرفتنا عن أفغانستان، وعن جزء كبير من الجنوب العالمي، معرفة تستهدف الجمهور الأنجلو-أمريكي وتتجذر في الأطر المعرفية الإمبريالية السابقة. تعتمد الأسس الأخلاقية والفكرية للسلطة والسيطرة والهيمنة على كتابات إثنوغرافية وخرائط ومفاهيم لغوية وثقافية وتقسيمات إثنية قد تقادمت منذ دهر. ينظِّر هذا الشكل المنحاز والمخطئ من الإنتاج المعرفي للشعوب والمجتمعات التي ربما يستحيل لها أحيانًا أن ترى نفسها فيه، وتصبح تلك التنظيرات من جملة الحقائق الكونية الموضوعية. تتحول تلك الحقائق إلى ما تسميه نيڤي مانتشاندا (Nivi Manchanda) «الطريقة الوحيدة للمعرفة»[1] وتظل جزءًا لا يتجزأ من الإنتاج المعرفي الحالي عن تلك الأماكن التي يزعمون غرابتها. علينا نحن كطلاب وباحثين أن نحذَر من إعادة إنتاج التراتبيات الاستعمارية، وعلينا أن ننقد السرديات الكبرى التي تشكل الخطاب المهيمن عن المجتمعات التي ندرسها ونتفاعل معها.

ولكن ما زالت معظم الأبحاث المنتجة عن أفغانستان في العالم الأنجلوفوني غير خاضعة لمساءلة أهالي البلد. منذ عام 2001، أصبحت أفغانستان  مفعمة بالخبراء الدوليين والكوادر العسكرية والمدنية من قريب ومن بعيد، حيث تفاقمت «الحرب ضد الإرهاب» كما أسمتها إدارة الرئيس الأمريكي بوش. نظرت المنشورات والملخصات السياسية التي أنتجها هؤلاء الخبراء في شؤون أفغانستان من خلال عدسات إمبريالية، وجعلت من الأهداف العسكرية أولويتها الرئيسية. اعتُمِدَت الغالبية العظمى من تلك الأبحاث لأغراض عملية ولإنتاج تعليمات سياسية سريعة، واعتَمَدت تلك الأبحاث أحيانًا بعض التصورات المسبقة عن البلد وأهلها، الذين تم إجبارهم حتى على اتباع مفاهيم السياسات المتغيرة التي تتبناها الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية. هكذا استحوذ هؤلاء الخبراء على الساحة السياسية في أفغانستان وخدمت أبحاثهم مصالح النخبة الاقتصادية والسياسية.

في المقابل فإن تلك الأدبيات ليست متاحة إطلاقًا للبشر الذي كُتب عنهم فيها. تُنتج المعرفة على يد بعض الأفراد ومن أجلهم في ساحات إقصائية، ويعمل الكثير منهم كحراس أو كمنظمي تلك المعرفة. ليس للتواريخ المحلية والإنتاج المعرفي المحلي إلا قيمة ضئيلة في هذا الإطار، ولا يُستعان بالخبراء في التراث الأفغاني إلا قليلًا. كما تقول غمخور ودولتزي[2]، تتأسس المعرفة عبر الحديث عن الآخرين «وليس أبدًا معهم»، إذ يندر التفاعل مع الأفغانيين كمحاورين فكريين. تصبح المعرفة التي تتجذر في تاريخ وسياسة أفغانستان غير ضرورية بالمرة، لأن الأفغانيين ليسوا «قادة الحاضر» حسب تعبير بنجامين هوپكنز (Benjamin Hopkins)[3]. لقد أصبح تقديم التعقيدات وابتكار المفردات والتصورات الجديدة بالتعاون مع أهالي أفغانستان أمرًا أكثر ضرورية مما كان عليه من أي وقت مضى.

أكتب حاليًا بينما تموت الناس في أفغانستان. رغم أن العنف السياسي أصبح أمرًا عاديًا في المجتمع الأفغاني منذ الاحتلال السوفييتي عام 1979، يدعو العنف الكريه والمتصاعد الذي تختبره البلاد على يد طالبان حاليًا إلى تساؤل الكثير من الأفغانيين عن إعادة تشكيل بلدهم باسم فرض «السلام». بينما تسعى الولايات المتحدة إلى الانسحاب التام يوم 11 سبتمبر من هذا العام، أعادت تصنيف طالبان بالتعاون مع جزء من النخبة الأفغانية المبجلة بتحويلها من مجموعة إرهابية إلى مجموعة سياسية ذات شرعية تشاركها الهموم نفسها. بدأت العديد من المراكز البحثية في واشنطن تُبرز تحولات طالبان حتى تغير الانطباعات العامة عنهم. حصل المتحدثون باسم طالبان على منصات بارزة في وسائل الإعلام الأمريكي، وضمنها الـ«نيو يورك تايمز» و«سي إن إن»، ونُشرت مقالات الرأي الرائجة مثل «أوراق أفغانستان» (Afghanistan Papers) على غرار «أوراق البنتاجون» التي صدرت بعد حرب فيتنام. إن طالبان مجموعة إرهابية تستخدم العنف كوسيلة ذات غرض سياسي، وتحارب وتقتل المدنيين الأفغانيين تحت إشراف الكوادر العسكرية الأجنبية والمنظمات الإنسانية الدولية، التي تبرر وجودها ونشاطاتها في أفغانستان تحت ادعاءات إنسانية.

والآن، في أجواء من الخوف والغموض الرهيب، يضطر المدنيون الأفغانيون إلى تسليح أنفسهم أمام مجموعة إرهابية تدعمها الدولة الباكستانية وتفرضها الولايات المتحدة. إن خيارات السلام والأمان محدودة، ويشعر البعض بضرورة المنفى، والمستقبل غامض لمن يتبقى. وبينما تستكمل طالبان حملاتها عبر البلاد، يقع الأفغانيون أسرى لنظام اجتماعي جديد مبني على العنف والخوف والقمع. وضعت طبيعة الاحتلال الأمريكي المطوَّل والمساوئ التي يتركونها خلفهم المدنيين في موقف التبعية والإهانة والذل، واضطر أهالي أفغانستان إلى تقبل قرارت أٌخذت بالنيابة عنهم، بينما يظل وجودهم تحديًا لأعدائهم المحليين والإقليميين والدوليين، الذين يتبعون سياسة العنف والإبادة. يعتمد عنف الحاضر والمستقبل على عنف الماضي. فمنذ عام 1979، هناك خسائر هائلة عبر الأجيال للحيوات الأفغانية في وسط الحروب الإمبريالية والإقليمية والمحلية الطويلة.

كيف إذن لأهالي أفغانستان أن يصوغوا ويكوِّنوا مفاهيم ويخلقوا مستقبلًا بديلًا لأنفسهم وبشروطهم وسط العنف والحروب والصراعات المتداخلة؟ كيف يخلقون مستقبلًا غير مقيد بما يضطرون لتقبله وبما يُخيل للآخرين عنهم، ونحو مستقبل يسمح لهم بتخيُل وخلق نظام اجتماعي جديد يتأسس على السلام والتحرر بالمعنى الراسخ للكلمة؟ وكيف لنا أن نتفاعل نقديًا مع الغرائز الاستعمارية في الإنتاج المعرفي، ونخلق المفردات التي تتيح لنا فهم أفغانستان بشكل أفضل، حتى نتعرف على صراع أهالي أفغانستان الدائم ونعمل بناءً عليه؟


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


[1] نيڤي مانتشاندا (Nivi Manchanda) صاحبة كتاب «تخيُل أفغانستان» (Imagining Afghanistan) الصادر عن جامعة كامبردج عام 2020، والذي يحلل العلاقة بين المعرفة عن أفغانستان والسلطة الاستعمارية البريطانية والأمريكية، وتعمل حاليًا أستاذة مساعدة في السياسة الدولية بجامعة الملكة ماري في لندن (Queen Mary University of London).

[2]  سحر غمخور (Sahar Ghumkhor) باحثة مقيمة بأستراليا ومتخصصة في التحليل النفسي بالتقاطع مع تحليل العرق والنوع. أنيلا دولتزي (Anila Daulatzai) باحثة في الأنثروبولوجيا متخصصة في علاقة الحروب بالمنظمات الإنسانية في أفغانستان وباكستان، وتعمل حاليًا أستاذة زائرة بجامعة هارفارد.

[3] بنجامين هوپكنز (Benjamin Hopkins) أستاذ مساعد في التاريخ بجامعة جورج واشنطن، وهو متخصص في تاريخ أفغانستان وعلاقتها بالإمبراطورية البريطانية.