كان كيرواك فنانًا ولكنه لم يكن محصنًا ضد سحر الحلم الأمريكي. تعتبر«على الطريق» قصة الحب الأمريكية الأسمى، إنها  نسخة معاصرة من توق هيكلبري فين إلى «استكشاف منطقةٍ جديدة».

اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

على الطريق لجاك كيرواك (1957)

مقال لروبرت مكروم

نُشر بموقع الجارديان مارس 2015

ترجمة: أحمد طارق أبو دنيا


جاك كيرواك

في عام 1855 أعلن شاعر أمريكي شاب يدعى والت ويتمان، بحماس نموذجي، أن الولايات المتحدة هي نفسها القصيدة الأعظم، وقام بصنيعٍ طيبٍ إثر ذلك الادعاء في مجموعته الشعرية المميزة «أوراق العشب» مغيرًا مخيلة أمريكا الأدبية إلى الأبد. عندما بدأ كيرواك (بعد مائة عام) يخط مسودة تحفته الفنية، كان يجيب بقصدٍ على تحدي ويتمان (أن تعبر عما لا يمكن التعبير عنه). هذا سوف يصبح طموح كيرواك، والذي عبر عن نفسه في رواية «على الطريق». الكتاب الذي سيكون مخطوطًا مرجعيًا لعَقد جيمس دين.

عقيدة ويتمان «أنا أسمع أمريكا تغني» بالنسبة لكيرواك كانت أقرب إلى عبارةٍ افتتاحيةٍ. تنبض «على الطريق» على إيقاعات الخمسينيات: الجاز، والجنس، والمخدرات، والجوع اليائس لجيلٍ جديدٍ تجاه تجاربٍ ملتهبةٍ، غزيرةٍ ومفعمةٍ بالإمكانات اللامحدودة للحظة الآنية. كان كيرواك فنانًا ولكنه لم يكن محصنًا ضد سحر الحلم الأمريكي. تعتبر «على الطريق» قصة الحب الأمريكية الأسمى، إنها  نسخة معاصرة من توق هيكلبري فين إلى «استكشاف منطقةٍ جديدة». لقد كانت بحق فكرة كيرواك عن نفسه وعن عمله -رغم أنه اعتُبر نبي الثقافة المضادة في الستينيات- هي استعادة الفردانية الحازمة والروح المقدامة التي اتسمت بها أيام الريادة في ماضي أمريكا.

يبدأ السرد في أعماق شتاءٍ في نيويورك عام 1947 مع سالفاتور بارادايس: «يشعر أن كل شيء ميت»

يتسكع سال (إيطالي أمريكي) بالقرب من جامعة كولومبيا مع مجموعة من رفاقه (جيل البيت Beat Generation) (*) - تعبير جديد - بوهيميين لا يعبأون ولا يهدأون، يضمون كارلو ماركس (الشاعر ألن جينسبرج) ودين موريارتي (عضو جيل البيت الأصلي كان اسمه نيل كاسادي). يشعر الجميع بنداءٍ جامحٍ، ويطمحون أن يسلكوا الطريق، ويتجهوا باتجاه الغرب. هذا باختصار ما تدور حوله «على الطريق»، التوق إلى التحقق الكامل قبل أن تغرب الشمس. أطلق كيرواك على تلك اللحظة السحرية (هي) it وكرَّس حياته عبر الارتباط الحر، والارتجال الأدبي للسعي نحو إلهامٍ جامح. بالنسبة لجيل البيت ما يهم هو الرحلة وليس الوصول. سوف يطارد سال بارادايس الفتيات، ويشرب الكحول عبر الليل، ويمشي على الجانب الجامح ولكنه دائمًا ما ستغويه (هي). سيتبعه القارئ (مع دين موريارتي صاحب الكاريزما) كتذكرةٍ غامضة وبليغة بالشباب الآفل وتلك السنوات الرائعة، عندما شعر الجميع أنهم خالدون.

ملاحظة على النص

ربما لا يوجد مخطوطٌ بهذه القائمة يملك تاريخًا فنيًا وماديًا غريبًا مثل رواية «على الطريق». بدأ جاك كيرواك المولود في لويل ماساشوسيتس عام 1922 بكتابة الأدب بينما يعمل تاجرًا بحريًا في زمن الحرب العالمية الثانية. في عام 1943 أنهى رواية تسمى«البحر أخي» وبدأ في مقابلة عددٍ من الشخصيات (شباب جيل البيت لاحقًا) الذين سيجدون طريقهم  في النهاية إلى رواية «على الطريق». دائمًا ما كانت طريقة كيرواك الأدبية تختطف سيرته الذاتية بلا رحمة.

 في عام 1948 جهز كيرواك أول رواية له للنشر بعنوان «البلدة والمدينة»، كانت تسجيلًا لحياته من 1935-1945 ونُشرت في العام 1950، ولكنها لم تحظ باهتمام يذكر ولم تحقق مبيعات. لكنّ كتابته لهذه الرواية قدمته إلى نيل كاسادي الذي يعتبر تجسدًا لجيل البيت والذي استُلهمت منه شخصية دين موريارتي بالرواية. وُصف لقاؤهما في هارلم عام 1947 في أول فصلٍ من "على الطريق». بدأ كيرواك بعد رواية «البلدة والمدينة» بكتابة واحدةٍ من النسخ الأولية من «على الطريق»، مستخدمًا أسلوبًا تحقيقيًا في الكتابة، في محاكاةٍ لثيودور درايسر (الرقم 33 في هذه السلسلة). بدأ كيرواك بالاحتفاء بما وصفه بحرية أكبر في الكتابة عما كان الوضع حتى تلك اللحظة.

في تلك المرحلة من فترة ولادتها الطويلة خُططت (على الطريق) -لم يتغير العنوان تقريباً- كرواية بحث مثل رواية «رحلة الحاج» لبونيان (رقم واحد في هذه القائمة). لم يعد الراوي، الذي سيصبح في النهاية الأمريكي من أصول إيطالية واسمه سلفاتور (سال) بارادايس يدعى سميث، بل فقط سميتي، بينما دين موريارتي كان حتى الآن ريد مولتري. كان كيرواك مستغرقًا بشدة في هذه النسخة عندما عرض هاركوت بريس أن ينشر «البلدة والمدينة»، وطالب بتغييراتٍ تحريريةٍ كبرى. لذلك وضع كتاب «الطريق» جانبًا حتى يجيب الناشر. ولن يعود إليه إلا في يونيو عام 1949. عند تلك المرحلة وعندما عاد إليه لم يكن راضيًا بما صنعه وارتحل إلى سان فرانسيسكو ليلحق بنيل كاسادي، وهي رحلة سيتم استيعابها في الجزء الثالث من«على الطريق». بعدها في مارس 1950 أخذه كاسادي إلى المكسيك (الجزء الرابع من الكتاب)، حيث سيتزوج كيرواك إلى جوان هافرتي. واصل كيرواك في نفس الوقت الابتعاد عن «على الطريق» وطور صداقته مع ويليام بوروز، وآلن جينسبرج، وكاسادي، والذي كان لكلٍ منهم تأثير مصيري على النص المنشور من الرواية. من حينٍ لآخر كانت زوجته الجديدة تسأله عن مغامراته مع كاسادي وبدأ هو كتابة «على الطريق» كنوعٍ من الشرح، سردٌ بضمير المتكلم عما حدث في حياته قبل أن يتزوجا.

طور كيرواك في هذا الوقت أسلوب الطباعة بلا توقف على الآلة الكاتبة، والذي تميز فيه لكي يصل إلى زخم الكتابة العفوية وكان ذلك ضروريًا كي يصل إلى التأثير الأدبي المنشود. في تلك المرحلة وبشكلِ حاسم ألصق اثنا عشر قدمًا من ورق الرسم بعضها البعض، قص أطرافها حتى تكون صالحة، ثم غذى بها آلته الكاتبة كبكرة متواصلة (هذا الأمر لن يكون مفهومًا تمامًا للقراء الذين نشأوا مع أجهزة حاسب آلي محمولة). كان هذا أساسيًا لأسلوب الطباعة المستمرة: ألا يتوقف لإدخال ورق جديد للآلة الكاتبة. قال كيرواك إن ذلك كان بداية صيحةٍ جديدٍة في الأدب الأمريكي. شرع كيرواك وهو يتعرق بغزارة، ويبدل قمصانه خلال اليوم، وقوده حساء البازلاء والبنزيدرين في ماراثون طباعة (ثلاثة أسابيع من أبريل 1951) خلالها كانت المسودة الأولى من رواية «على الطريق» قد انتهت. ربما كانت رواية «وأنا أرقد محتضرًا» لفوكنر فقط مثل تلك التجربة الإبداعية المكثفة.

لكن كيرواك لم يكن انتهى بعد. في أعقاب ذلك الجنون الربيعي سيواصل مراجعة وإعادة كتابة المخطوط الأصلي عدة مرات.بحلول أكتوبر 1951 لم يزل يعيد العمل عليها مؤمنًا أن أسلوبه الجامح في السرد لم يلم بالموضوع بشكلٍ يرضيه بعد. أصبحت هذه نسخة بديلة اسمها «رؤى كودي» حيث يصبح كاسادي «كودي بوميراي».

في مارس عام 1953 وصلت محاولات كيرواك مع تحفته الفنية نقطة محورية عندما عبر مالكوم كاولي -محرر بدار نشر فايكنج- اهتمامه بعمل كيرواك، وأخبره بعدها أنه قرأ المخطوط وصارحه أنه يفضل نسخة المخطوط التي على هيئة بكرة على كل النسخ الأخرى. الآن بدأ عمل كيرواك وأصالته يجذبان الانتباه، وبعد عدة تقلبات راجع كيرواك المخطوطة ليسلمها لفايكنج في ديسمبر 1956. أخيرًا تقرر النشر في سبتمبر 1957. علم ناشروه أنهم يتعاملون مع كاتبٍ مهووس: لم يرسلوا له أي ألواح تجريبية قبل الطباعة، وصُعق كيرواك فيما بعد من بعض التغييرات التحريرية التي أجراها كاولي.

لم يكن هذا شديد الأهمية. فعند النشر استيقظ كيرواك ليجد نفسه مشهورًا. غادر كيرواك شقته في الجانب الغربي الشمالي من نيويورك قبل منتصف ليلة 4 سبتمبر 1957 لينتظر أمام كشك صحف عن الشارع 66 من أجل طبعة اليوم التالي من النيويورك تايمز. قيل له إن جيلبرت ميلستاين سيقدم مراجعةً لها، ولم يكن كيرواك ليتوقع حماس ميلستاين. الذي أعلن أن نشر «على الطريق» كان: «حدث تاريخي يقارن بأي لحظة عظيمة من لحظات التعرض لعمل فني أصيل في عصرٍ أصبح الانتباه مفتتًا والإدراك ضعيفًا بسبب زيادة الموضة الرائجة»، يتابع ميلستاين:

«الرواية أجمل ما نُفِّذ، وأوضح وأهم إشارة تمت بواسطة جيل وصفه كيرواك بنفسه بجيل البيت، والذي يعد كيرواك تجسده الرئيسي».

بعد ذلك كُتب تاريخ الأدب.


الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


(*) Beat generation: جيل البيت هو تعبير أطلق على مجموعة شعراء وكتاب ثاروا على المألوف والنمطي في خمسينيات الولايات المتحدة، الفترة التي اتسمت بالتحفظ الشديد والعنصرية