السائرون بعيدًا عن أُميلاس

قصة أورسلا لوجوين*

ترجمة: محمد صفوت

* أورسلا لوجين (1929-2018): كاتبة الخيال العلمي الأمريكية، تعتبر السائرون بعيدًا عن أُميلاس أشهر قصصها وقد نُشرت للمرة الأولى في عام 1973.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


بجلجلة أجراس حلقَّت منها طيور السنونو ذعرًا يُعلَن عن مقدم المهرجان الصيفي في مدينة «أُميلاس» فترى أنوار أبراجها تنعكس على صفحة البحر والرايات ترفرف براقةً على الصواري في مينائها. وفي الشوارع بين البيوت حمراء الأسقف مزدانة الحوائط بالرسوم والحدائق القديمة وعلى ممرات الأشجار مرورًا بالمنتزهات الواسعة والمنشآت العامة تسير المواكب. بعض المواكب مَعنيٌ بزينتها؛ يسير بها الشيوخ تحيط بهم شرائط بنفسجية وأخرى رمادية، وهؤلاء شيوخ الصنائع، وقورون في مشيهم هادئون، وهناك أيضًا النساء، يسرن في بهجة وسرور ويتبادلن الحديث وأطفالهن على أكتافهن. في طرقات أخرى تُسمَع الموسيقى بوتيرة أسرع، صادرة عن ضرب نواقيس الجونج اللامعة والدفوف، وعلى دقاتها يتمايلون. فما سير الموكب إلا رقصة.

يتسلل الصغار من المسيرة وإليها ويعلو صراخهم فجأة فيتداخل بعضه مع بعض تداخل الطيور إذ تعلو ويتقاطع تحليقها فكأنما بصراخهم تخفت الموسيقى ويتوارى الغناء. تسير المواكب نحو قطاع المدينة الشمالي حيث المرج الكبير المغمور بالمياه، أو ما يدعونه «الحقول الخضراء»، وفيه الصبية والفتيات قد تجردوا من لباسهم ولُطخَّت أقدامهم وأذرعهم النضرة بالطين ثم شرعوا يجهزون خيلهم العنيدة للسباق. وكانت تلك الخيل عارية من جهاز سوى رسن لا خطام له. وأعرُفها مجدولة بشرائط فضية وذهبية وخضراء وكل منها ينخر ويجمز مختالًا على أخيه ومشوقًا لخوض السبق، فقد كانت دون غيرها من سائر الدواب محط أنظارنا وموضوع احتفالنا.

بعيدًا في أقصى الغرب والشمال تشمخ سلاسل من الجبال تشاطر الخليج في تحديد أُميلاس. كان هواء الصبح صافيًا ودافئًا بحيث أذاب الثلج عن قمم تلك الجبال الثمانية عشر بسناه الذهبي في تلك الأنحاء التي طالتها الشمس في ذلك الليل العاتم، وكذلك رياح لطيفة كان تهب لتداعب الإشارات والرايات المنصوبة على مراحل مضمار السبق بين حين وآخر.

عبر السكون المخيم على الغمر تتسلل الموسيقى يحملها النسيم من شوارع المدينة، تارة تخفت وتارة تعلو ولا تزداد إلا جلاءً وقربًا فلا تزال تبث في الجو نفحات خفيفة من المرح تسري من آن لآن، فتتوالى صلصلة النواقيس وتتفجر عنها أجواء مبهجة.

مبهجة؟ بالمناسبة، أنى للبهجة أن تُوصَف؟ وكيف ننعت مواطني أُميلاس؟ هم ليسوا شعبًا بدائيًا ساذجًا على الرغم من سعادتهم، بل نحن من لم يعد يتحدث بالسعادة ويقلب مفرداتها. وكأن التبسم ضل السبيل إلى ثغورنا وصار حبيس الأزمان الغابرة.

الإعراب عن السعادة والإبانة عن مظاهرها صار يفرض تصورات حتمية، فلا بد للعقل حينها أن يتخيل ملكًا على صهوة جواد مُطهَّم وهو مُكتنَف من كل جانب بخاصة فرسانه من النبلاء، وربما يتخيله المرء على سرير مذهب يحمله على الأكتاف نفر من العبيد الأشداء.

على كلٍ، لم يكن لهم ملك ولا سيف، ولم يحتبسوا عبيدًا، وكذلك لم يكونوا شعبًا من الهمج.

لا علم لي بأعرافهم وقوانين مجتمعهم لكن ظني أن لهم منها نصيبًا غير هين.

وأعلم أيضًا أنهم كما استغنوا عن رئاسة الملوك واستعمال العبيد، لم ينشئوا سوقًا لتداول الأسهم ولم يستغلوا الدعاية أو يسلطوا شرطة سرية ولم يصنعوا القنابل، أؤكد ما ذكرت آنفًا، لم يكونوا شعبًا ساذجًا يأنس لرعي الماشية أو بدائيًا يرأسه طبقة من النبلاء غلاظ القلوب وليسوا كذلك طوباويين صرفتهم أحلامهم عن موالاة شؤونهم.

أمورهم لم تكن على قدر أقل من الدقة والتشعب إذا ما قورنت بأمورنا ولكنها تلك الخصلة التي ألفناها ولم نفتكّ منها، تلك النظرة التي حض عليها جموع المتحذلقين والسفسطائيين والتي تسفه من السعادة وتحط من الشعور بها، فالعقل ليس له إلا الألم والشر وحده يقدح زناد فكرهم ويجتذبه. وهذه خيانة يقترفها الفنانون حين يأبون الاعتراف بأن الشر غث والألم ممضّ مُسقِم.

إن لم تكن بك طاقة أن تعض يدًا، فقبِّلها إلى أن تستمرئ تقبيلها، ولكن تقبيل يد البؤس يوجب نبذ السرور واعتناق العنف لا يترك فسحة لما سواه، وقد أوشكنا أن نهجر السرور حتى فقدنا كل أداة ننعت بها رجلًا خالطه السرور أو محفلًا للمرح والبهجة، فكيف عساي أحدثك حديث شعب أُميلاس؟

هم ليسوا سُذجًا ولا هم محض صغار فرحين، وإن كانت هذه حال صغارهم؛ فهم أناس بالغون وعلى قدر من النضج والسداد وحدة الذهن والإقبال على الحياة ولا يعيشون عيشَ شقاءً أو ضعة.

المدد من صاحب المدد! قد وددت أن أجيد وصفهم، ورمت أن أريك ما هم عليه، ولكني لا أهُم أن أقترب حتى أبعد، فلا أصفها إلا وتنحو أوصافي نحوًا لا يكون إلا في البلاد المرسومة في الأساطير البعيدة والقصص القديمة.  

لعلني أحبذ أن تدعوا لخيالكم العنان في تصور ما المدينة عليه من حال شريطة أن ترقى تصوراتكم لتلك الحال، فليس بوسعي أن أرسم تصورًا يلائمكم جميعًا. لأتناول التكنولوجيا المتوفرة فيها على سبيل المثال، لا أرى وجودًا لسيارات تسير في شوارعها ولا مروحيات تحلق فوقها ومرد تصوري أن أناس أُميلاس سعداء والسعادة تنبني على التمييز بين فئات ثلاث: ما يلزم، وما لا يتحتم استخدامه ولا يضير، وما يضر استخدامه. في الفئة الثانية من الوسائل (تلك التي لا يتحتم استخدامها ولا يضير، وتهيئ أسبابًا للراحة والرفاهية والترف وما شابه) يُحتمل أنهم شيدوا نظام تدفئة مركزي وقطارات أنفاق ويستعملون الغسالات بالإضافة إلى كثير من الأجهزة المذهلة التي لم نخترعها بعد كالمصابيح الهائمة وأساليب تُولَّد بها الطاقة دون حاجة للوقود وعلاج يبرئ من نزلات البرد. ربما ليس لديهم شيء مما ذكرت ولا أهمية لهذا فتصور ما تشاء.

أميل إلى تصور سكان المدن المجاورة لهم في محاذاة الساحل شمالًا وجنوبًا لا يزالون يقصدون أُميلاس قبيل المهرجان عبر القطارات الصغيرة والحافلات مزدوجة الطابق إلى محطة أُميلاس، أبهى منشآت المدينة على بساطتها، فهي ليست بروعة سوق المزارعين. ولكني أخشى بعدما حدثتكم عن قطارتها أن بعضكم ما زال يحسب المدينة محلًا ساذجًا غفلًا. هناك بسمات وهناك نواقيس واستعراضات وخيل وما تريد، ولا عليك إن زدت على ذاك كله جنس جماعي، ولكن، رجاءً، دع عنك أن تتخيل معابد يندفع عبر أبوابها كهنة وكاهنات حسان، وهم عرايا وفيهم نشوة تؤول بهم إلى مضاجعة من يرون، رجلًا كان أم امرأة ولا فرق لديهم بين حبيب وغريب، فما على مضاجع أحدهم إلا الرغبة في اعتلاق دمه بدم الإله، وقد كان تضمين ذاك المشهد نيتي، وقد تراجعت عنها؛ وذاك أصوب وأصح، فلا يحبذ وجود المعابد، خاصة حين يقوم عليها رجال. لا بأس بالدين، طالما ظل بلا كهنوت. أما عن العراة الحسان، فيطوفون المدينة يهبون أنفسهم فتقع الهبة من نفس متلقيها موقع أطايب الطعام من ذوي المسغبة واختلاجات النشوة من أعضاء الجسد. وإذن، فلينضموا للمواكب وتُضرَب الدفوف على إيقاع معاشرتهم وليعرف سمو شهوتهم بالطرق على الجونج ولا نغفل شأنًا على قدر هين من الأهمية يتعلق بالذرية التي تخلفها تلك الاحتفالات البهية، تنشأ تلك الذرية في كنف الجميع ورعايتهم فلا يمسها إلا العطف وحسن المعاملة. فلا تحمل قلوب أُميلاس شيئًا من تأثم أو لوم.

وما يكون هناك أيضًا؟ قد عزمت ألا تكون في المدينة مخدرات غير أني وجدت في ذاك حدة في النزوع إلى التطهر؛ فأولئك الذين يحبون الدروز يطيب سيرهم في طرقات المدينة ويحسون خفة تسري إلى عقولهم وتخف بها أطرافهم لساعات يسبحون بعدها في أحلام الرقاد حيث يتبدى لهم المستور ويفترّ الكون عن أخفى أسراره، وبه يحلو الجماع حلاوة تفوق كل وصف، ومتعاطيه، مع ذلك، لا يدمنه. أما من قل جنوح مزاجهم فلهم الجعة. ماذا بقي إذن؟ ماذا يعوز وصف هذه المدينة المبتهجة؟ النصر؛ فلا بد لها من شعور عام بالانتصار واحتفاء بالبطولة، فليكن إذن وليعم، ولكن لينبذ الجنود من تلك الصورة كما نبذنا الكهنوت سابقًا؛ فالنصر إن قام على النحر والقتل فهو نصر مُروِّع مخيف لا يحسُن أن يكون سبيلًا للإبهاج ولا يخلص من تفاهة. الحبور المنشود منبعه كريم ومرامه سامٍ لأنه لم يتحقق بظفر على عدو خارجي بل باجتماع الأنفس من شتى على الصفاء والسماحة للابتهاج بروعة الصيف، فما يملأ أفئدة شعب أُميلاس إلا هذا وليس نصرهم الذي به يسعدون به ويحتفلون إلا انتصار الحياة نفسها فلا أظن أكثرهم في حاجة لتعاطي الدروز.

وصلت أغلب المسيرات إلى الحقول الخضراء توا وبدأت رائحة الطعام اللذيذ تتسلل من خيمات حمراء وزرقاء نصبها الطباخون. ازداد جمال الأطفال وآثار الطعام على وجوههم وصرت، أيضًا، ترى كسرات صغيرة من المعجنات عالقة بلحى الشيوخ. في موضع آخر ترى الشبان والفتيات قد تجمعوا على صهوات الجياد للاصطفاف بمحاذاة خط البداية. وتدلف امرأة عجوز وهي تحمل سلتها ضاحكة توزع الزهور على الحضور فيتلقاها شبان طوال ويجعلونها في شعورهم اللامعة. ثَم طفل عمره تسع سنوات يقعد بعيدًا عن الزحام وحيدًا يعزف بناي خشبي والناس يمرون به ويتوقفون للاستماع لعزفه مبتسمين، ولكنهم لا يتحدثون إليه، وكذلك هو؛ إذ أنه مستهام بالنغم الذي يعزفه يعشى عن منظرهم فلا يترك نايه حتى يفرغ. فلما انتهى أنزل الناي عن شفتيه بطيئًا وهو ممسك به.

بدا السكون الذي خلفه الصبي كأنه إشارة انطلق معا دوي الأبواق من السرادق القريب من بداية السبق عاليًا وشجيًا فكأنما يكسر الهواء.

الخيل تهيئ أقدامها الضامرة ويصهل بعضها مجيبًا الأبواق.

الخيالة، هادئو الملامح، يربت أحدهم على عنق فرسه ليهدئها ويهمس في أذنها: «مهلًا مهلًا يا جميلتي، مهلا يا أملي ...» ثم يتهيؤون، كل في موضع انطلاقه والجمهور على جانبي المضمار يتمايلون كما يتمايل الكلأ والزهر مع الريح إعلانًا عن انطلاق مهرجان الصيف.

هل وجدت ما وصفته معقولًا؟ قبلتَ حديث الاحتفال والمدينة وبهجتها؟ إن لم تستسغه فإليك شيئًا لم أتحدث به بعد.

في سرداب يقر فوقه إحدى تلك البنايات العامة الجميلة، أو ربما بقبو أحد المنازل الفارهة غرفةٌ، بابها موصد ولا نافذة لها ولا يدخلها إلا بصيص ضوء تتلألأ في سناه ذرات التراب بعد أن يمر عبر شقوق في الألواح الخشبية، قادمًا من نافذة مقابلة تغطيها خيوط العنكبوت.

في ركن الغرفة تنتصب ممسحتان، على عصويها لزوجة وخيوطهما متيبسة لا تنقطع عن بث ريحها الخبيثة، وعلى مقربة منها دلو صدئ، والأرضية متسخة رطبة لا تختلف حالها عن حال الأقبية عادة. وعن اتساعها فطولها ثلاث خطوات وعرضها اثنتان. مجرد خزانة للمماسح أو غرفة مهملة.

يجلس في الغرفة طفل. أو طفلة، لا يهم. تحسبه ابن ست سنين ولكنه قد عاش ما يقارب العشر، وهو أنوك بليد وقد يعزى صغر عقله إلى جبلته وربما غباوته نتيجة حتمية لما مر به من ذعر وفزع وسوء تغذية وإهمال. يعبث ذاك المخلوق بمنخاره وحينًا بقدميه وأخرى يعيث بمحاشمه وهو جالس يتكئ على الحائط بأبعد ما يمكن عن الممسحتين ودلوهما؛ فهو مرتعب منهما حتى أنه يغلق عينيه وهو يعلم أنهما لن يغادرا محلهما ويتركاه أبدا؛ فالباب موصد لا ينتظر أن يفتحه إنسان.

الباب مغلق دائمًا ولكن، من حين لحين، وهذا المخلوق لا يعلم ما الحين ولا يخفف عنه إدراك مفهوم للوقت أو الزمن، يهتز الباب ويفتَحه شخص أو نفر من الناس ويبقون بالخارج إلا أحدهم، يدخل ويركله ليقف بينما ينظر الآخرون عن بعد بعين قلقة مشمئزة. يضع ذاك الشخص إناء الطعام ودورق الماء المعدين على عجل ثم يغلق الباب عليه مرة أخرى وتختفي الأعين.

لا ينبس هؤلاء النفر بكلمة، بخلاف المخلوق الصغير الذي لم يولد بالغرفة، فقد عرف المخلوق العيش خارجها وكان فيما مضى قد ألف ضوء الشمس وعرف صوت أمه، فهو ما زال يذكره ويردد أحيانًا بعض العبارات ويقول: «سأكون مهذبًا ومطيعًا، دعوني أخرج وسأكون مهذبًا» ولكنه لا يلقى منهم جوابًا.

اعتاد الطفل أن يصرخ ليلًا راجيًا النجدة، ثم يخفت صراخه حين يدركه اليأس ليستحيل نشيجًا متقطعًا "إيءء آه إييي-هاااه"  يستصحبه سائر ليلته، أما لسانه فما زال ينحسر ويقل بمرور الوقت كلامه.

صار جسده هزيلًا ضعيفًا حتى ضمرت ساقيه ونتأت حوصلته فلم يكن ثمة ما يقيم أوده طوال نهاره سوى نصف طبق من الذرة وبعض الزيت.  

هذا الشيء عار أيضًا من الثياب والقيح يملأ جلد إليتيه وفخذيه لدوام قعوده على برازه.

شعب أُميلاس كافة على علم ودراية بهذا، فبعضهم يذهب ليطلع عليه وسائر الناس مطمئنون لعلمهم بوجوده على تلك الحال. الكل هناك يعلم أن وجوده هناك ضروري ومحتم. وبعضهم يدرك العلة وراء ذلك وسائرهم لا يعلم ماهيتها على وجه التحديد، ولكنهم يعون أن سعادتهم وطيب حال مدينتهم وكل ما ينعمون به من وشائج صداقتهم وعافية ذريتهم وحكمة علمائهم وحذاقة صناعهم وحتى وفرة المحاصيل وطيب الجو وصفاء السماء لا يقوم إلا بتعاسة ذاك الطفل وبشاعة حاله.

عادة ما يُطرَح هذا الأمر ويُبيَّن لأطفال المدينة إذا بلغوا من العمر ما يعينهم على تفهم الأمر، وعادة يكون هذا العمر بين الثامنة والثانية عشر، لذا فسواد من يذهب لمطالعة الطفل من الفتية، غير أن زواره عمومًا لا يخلون من أناس بالغين يرغبون في رؤيته مجددًا. وبمجرد رؤية الفتيان ذاك الطفل الحبيس وحاله يهرع من أفهامهم كل ما لُقِّنوا من ضرورة بقائه هكذا ولا يسعهم إلا أن يراعوا من منظره ويتقززوا أشد التقزز وقد كانوا يظنون قبلها أن تفهمهم سيحول بينهم وبين ما سيرون من بشاعة، فيغادروه وقد اضطرمت نفوسهم بغضب وهياج لا تقوم له الأعذار والمبررات. يجدون في نفسهم رغبة في مساعدة الطفل ولكن ما بيدهم من حيلة! فإن أُخرج الطفل من ذاك الموضع المُدمِر واعتني به وبنظافته وطعامه وراحته، كان ذاك طيبًا ولا ريب، ولكن من شأن ذاك البر أيضًا أن يذهب، من ساعته، بكل ما تنعم به المدينة من رخاء وسرور وطيب عيش ذهابًا لا رجعة فيه. فذاك هو الشرط، إما الوفاء به أو إتعاس الألوف المؤلفة وإبدالهم بؤسًا بعد رخاء وشقاءً بعد راحة وهذا ذنب تنأى عن حمله الجبال.

الشرط واضح إذن ولا تهاون فيه، غير مسموح حتى أن يوجه للفتى حديث يحمل ذرة من تعاطف أو ود.

إذن يعود الفتية إلى بيوتهم تسفح أعينهم دموع الأسف وربما لا تدمع أعينهم ولكن الغضب يغلي في أحشائهم بعد رؤية ذلك التناقض المفجع في وجه الطفل وربما لازم فكرهم مشهده لأسابيع، بل لأعوام ولكن الزمان هو الزمان، يغير الفكر ويذهب بالرواسخ، فعاجلًا أم آجلًا يبلغ بهم إلى قناعة مفادها أن لا فائدة كبيرة تعود على الحبيس حال إطلاقه، قد يأنس بالدفء قليلًا وبالطعام ولا شك، ولكن منعه عتهه وتخلفه من إدراك أي سعادة حقة، كما أن طول عهده بالخوف قد ترك فيه أثرًا لا يمحى وأورثه طباعًا تجعل بينه وبين التعامل الإنساني وحشة لا يستطيع أن يسلكها، ربما يفتقد ستر الجدران التي طويلًا ما حبسته ويروم الظلام الذي ألفته عيناه ويسعى إلى التبرز ليقعد ويقر وهكذا يتوقف دمعهم عن الانسكاب إزاء مرارة الجور ويرون في واقعهم عدلًا وإن قسا فيقبلون قسوته. وما كان ذاك عدلًا، بل هو دموعهم وغضبهم وسماحة أنفسهم مع استيعاب تام لعجزهم، ولربما يكون هذا الذي ذكرت منبع سعادتهم ورفاههم، ولا تقوم سعادة أبدًا على أساس ساذج يخلو من التضحية والمسؤولية. فهم كالطفل، إذن، مغلولون ولكن إلى سعادتهم.

الشفقة شيمة هؤلاء القوم، لكن حال الطفل مع علمهم بها هي ما استمدت منه بناياتهم سموها ومنها اتخذت موسيقاهم عاطفتها واستقت علومهم منها الجزالة والعمق. حال الطفل هي ما يبث فيهم الإشفاق على أطفالهم والعطف عليهم، فلو غابت رجفة ذاك المعذب في الظلام ونشجه لما عزف صاحب الناي موسيقاه العذبة ليتجهز الخيالة على أنغامها لسباقهم مع بزوغ النهار الصيفي الأول.

هل صدقتني الآن؟ ألم يصر ما أحكيه الآن منطقيًا؟ بقي أمر آخر لأحكيه ولكني أقر بمخالفته المعقول.

أحيانًا، بعد أن يزور أحد الفتية أو الفتيات الطفل، لا يعود إلى منزله سافحًا دمعه أو حاملًا حنقه كالمعتاد، وإنما يغادر السرداب فلا يعود لبيته أبدًا. ومن الكبار أيضًا من يسهم فجأة فيصوم عن الكلام يومًا أو اثنين ثم يغادر منزله ويضرب في الطرقات والشوارع وحيدًا.

وهكذا يسيرون إلى خارج مدينة أُميلاس، يمرون عبر بواباتها الجميلة وحقولها، كلٌ بمفرده، شبان وشابات ورجال ونساء يسلك كل منهم طريقه حتى يجن على أحدهم الليل فيسير في ضوء النوافذ الأصفر من حوله حتى يبلغ ظلمة الحقول، فيتجه شمالًا من يتجه ويتجه غربًا من يتجه، إلى بقاع أبعد عن تصوراتنا من مدينة السعادة، ليس في وسعي أن أصفها. أكاد حتى ألا أجزم بوجودها. ولكن أحدهم يعلم مقصده، أولئك السائرون بعيدًا عن أُميلاس.