اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

مدار السرطان لهنري ميلر (1934)

مقال روبرت مكروم

نُشر بموقع الجارديان، 3 نوفمبر 2014

ترجمة: أحمد طارق أبو دنيا

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


هنري ميلر، عن الجارديان

منذ بدايتها في القرن السابع عشر، ارتبطت الرواية الإنجليزية -ولاحقًا الأمريكية- بشكلٍ كبيرٍ بالخطيئة. كتب جون بونيان (رقم واحد في هذه السلسلة) من السجن. عوقب دانييل ديفو (الثاني في السلسلة) بالمشهرة[1] في مكانٍ عام. كٌتَّاب كثيرون كانوا يُرَوْن أو رأوا أنفسهم مهمشين وخارجين عن القانون ومشاغبين؛ إنها ثيمةٌ هامةٌ في تاريخ الرواية الإنجليزية. وكلما أصبح الروائيون أكثر احترافًا (مع وجود جمهور يرضونه) ابتعدوا عن أصولهم الآثمة. لهذا من المناسب بينما نتقدم في القرن العشرين أن نجد كاتبًا مثل هنري ميلر، يحرك المياه الساكنة للتقاليد مستعينًا بالصدمة والغضب.

في الأدب الأمريكي وجدت ضفة الخارجين عن القانون التعبير الأكثر ثراءً في عبقرية مارك توين، الذي ظل يشق طريقه ليخالف (التقليد الناعم) لإيمرسون ولونجفيلو. بحلول القرن العشرين لم يُعثر على جبهة الخارجين عن القانون في الغرب الأمريكي، بل في باريس. ميلر، ذلك الأديب العاطل الغاضب، احتفل على جبهةٍ جديدةٍ من الاكتئاب العنيف حيث وُجدت «مومسات مثل الورود الذابلة، ومباول ملأى بخبزٍ غمره البول».

حقّق ميلر، هو وملهمته أنايس نين، الازدهار على هذه الجبهةِ الجديدةِ، كانا حازمين، ومنعزلين، وصبورين في بحثهما عن جماليتهم الجديدة. أعربت نين بشكلٍ لا يُنسى أن عشيقها برغم ضعفه في التحدث إلا أنه دائمًا ما كانت بداخل عينيه الزرقاوين عدسة فوتوغرافية صغيرة ودائرية وقاسية.

كان الأمريكي ذو الثمانية والثلاثين عاماً -بثيابه غير المهندمة ورؤيته التي لا تطرف والشبيهة بالكاميرا- الذي وصل الضفة الغربية لباريس عام 1930، هو المادة الخام للفشل المعيب. كل ما كان يشغله هو الغضب الإبداعي مخلوطًا بالرؤية الغنية لفنانٍ طليعيٍّ حقيقي. «سأبدأ غدًا في كتاب باريس»، هكذا كتب هنري ميللر.

«ضمير المتكلم، لا حذف، لا تكوين، اللعنة على كل شيء».

أوفى ميللر بكلمته في الصفحات الأولى من روايته التي كان عنوانها المبدئي «القضيب المجنون» حيث يحتفل بـ «الفرج الدافئ» معلنًا أنه «سوف يمر على كل ثنية» بواسطة «مسمارٍ طوله ستة إنشات» كان هوسه بذكر مغامراته الجنسية وعشوائية حياته الجنسية هو موضوع الرواية (لم تكن هناك حبكة)، هجومٌ بلا رحمة على التقاليد.

بعد «لطيفٌ هو الليل» لفيتزجرالد وحتى «أبشالوم أبشالوم» لفوكنر لم يكن صدق ميللر الغريزي منفصلًا عن الذائقة المعاصرة، في الأسلوب وفي اللغة. كان استمتاع ميلر بفرك وجه القارئ بالقاذورات مُسكرًا وكذلك ملهمًا.

ألهم شعاره «اللعنة على كل شيء» كيرواك وجينيه وبورو وميلر وجينسبرج ضمن آخرين، ليس سيئًا لرجلٍ كتب يوماً: «لماذا لا يريد أحدٌ قراءة ما أكتبه؟»

ملاحظة عن النص

صدرت تحفة ميللر مدار السرطان بواسطة أوبلسك بريس وهي دار نشر فرنسية متخصصة في البورنوجرافيا الهادئة تحت عنوان «مدار السرطان» بغلافٍ صممه موريس جيوريدياي والذي سيصبح لاحقًا مشهورًا كأهم ناشر فرنسي للأدب الإيروتيكي.

الرواية التي صاحبها تحذيرٌ صريح (لا يتم تصديرها إلى بريطانيا أو الولايات المتحدة) وضعت معيارًا ذهبيًا جديدًا للّغة المشينة والجنسانية الصريحة. منذ البداية هزت صرخة ميلر البربرية الرقابة الأمريكية وألهبت الحساسية الأدبية الأمريكية في جوهرها. ظلت «المدار» ممنوعة لجيل كامل، في هذا الوقت أصبحت جزءًا من فلكلور ما بعد الحرب، يتم تهريبها إلى الولايات المتحدة مطوقةً بالأوشحة أو الملابس الداخلية. قلما حظي لكتاب بتلك البدايات المثيرة والسرية الشديدة.

مكانة «الخارج عن الأعراف» التي اتسمت بها رواية ميلر بالإضافة إلى موضوعها «الحياة والحب في أطراف الوجود» جعلتها مثار إعجاب كُتَّاب مثل أورويل وبيكيت. كتب أورويل في مقالته «بداخل الحوت» عام 1940: «أنا أنصح أي شخص -بشكل جدي- أن يقرأ على الأقل مدار السرطان. يمكنك أن تحصل عليها ببعض الدهاء أو أن تدفع أكثر قليلًا من السعر المكتوب. حتى لو شعرت في بعض الأجزاء بالاشمئزاز ستبقى في ذاكرتك. في رأيي أن الكاتب هنا شديد الثراء واسع الخيال، الكاتب الوحيد ذو القيمة الذي ظهر بين الأجناس المتحدثة بالإنجليزية خلال عدة سنواتٍ سابقة».

بدوره وصف صمويل بيكيت الكتاب بأنه «حدث بالغ الأهمية في تاريخ الكتابة الحديثة». في الولايات المتحدة، وفي تحدٍ صريح للرقابة علق إدمونت ديلسون: «أسلوب الكتابة بلا شك وضيع، مدار السرطان هو أقل كتاب قرأته من حيث القيمة الأدبية الحقيقية».

سادت رؤية ميلر في النهاية، في عام 1961 بعد حصول «عشيق الليدي شاترلي» على حق النشر في المملكة المتحدة انتصرت «مدار السرطان» في معركتها ضد الرقابة ونشرتها جروف برس. لم يسعف هذا الحكم التاريخي فترة الأيقونية الغابرة للكتاب. في البداية اعتُبر كتاب ميلر ثمرة علاقته المعقدة مع أناييس نين والتي كانت شيئًا مبجلًا لدى الحركة النسوية الأمريكية. لاحقًا نددت نسويات مثل كيت ميليت بميلر باعتباره ذكرًا شوفينيًا. بينما سألت جانيت وينترسون بخبث: «لماذا يتبجح الرجال بإهانة النساء؟» يظل هذا السؤال معلقًا فوق صفحات «مدار السرطان» كتوبيخ، لكنني مع بعض التحفظات سأضيفه إلى هذه السلسلة.


[1] المشهرة Stocks: آلة تعذيب تربط فيها قدما المذنب ويتم عرضه مقيدًا في مكانٍ عام ليراه العامة.