من الصعب العثور على إنسان جيد

قصة قصيرة لفلانيري أوكونور

ترجمة: جمال مكي

فلانيري أوكونور (1925 – 1964) روائية وكاتبة أمريكية جعلت الجنوب الأمريكي خلفية لكتابة دراما تستكشف مشكلات أخلاقية ووجودية، ببناء جروتسكي للشخصيات وأحداث عنف قاسية.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


لم ترغب الجدة في الذهاب إلى فلوريدا، أرادت أن تزور بعض معارفها في شرق تينيسي وكانت تنتهز كل فرصة لتغيير قرار بايلي. بايلي هو ابنها الوحيد الذي عاشت معه في بيته. كان يجلس على حافة الكرسي خلف طاولة الطعام، انحنى قليلًا ليقرأ قسم الرياضة البرتقالي في الجريدة. قالت الجدة: «بايلي، انظر هنا، اقرأ هذا». وقفت الجدة بيد واحدة على فخذها النحيف وبالأخرى تخشخش بالجريدة فوق رأس بايلي الأصلع: «انظر إلى هذا الرجل الذي يسمي نفسه ‹ميسفيت›، لقد هرب من سجن فيدرالي متجهًا إلى فلوريدا، واقرأ هنا ماذا قيل عما فعله هذا الرجل لهؤلاء. اقرأ هذا فقط. وأنت تريد أن نذهب إلى فلوريدا بينما هذا الـمجرم طليق، لم يكن ليسمح ضميري أن أفعل هذا».

لم يرفع بايلي رأسه عن قراءة الجريدة، لذا استدارت لتواجه أم الأطفال، امرأة شابة ترتدي سروالًا، ولديها وجه عريض وبريء مثل الحلوى، تلف حول رأسها منديلًا أخضر له طرفين، أعلاه يشبهان أذني أرنب. كانت تجلس على أريكة تطعم طفلها الصغير بعض المشمش من برطمان. قالت الجدة: «الأطفال زاروا فلوريدا من قبل، يجب أن تأخذهم إلى مكان آخر ليتسنى لهم رؤية أماكن مختلفة في العالم. لم يذهبوا إلى شرق تينيسي من قبل».

لم يبد على الأم أنها سمعت، لكن ابنها الصغير ذي الثمانية أعوام، جون ويزلي، طفل ممتلئ الجسم يرتدي نظارات، قال: «إذا كنتِ لا تريدين الذهاب إلى فلوريدا، لم لا تبقين في المنزل؟»

قالت جون ستار دون أن ترفع رأسها: «إنها لن تبقى في المنزل ليوم واحد».

قالت الجدة: «حسنًا، ماذا سوف تفعلون إذا أمسك بكم هذا الرجل ميسفيت؟» 

قال جون ويزلي: «سوف أصفع وجهه».

قالت جون ستار: «إنها لن تبقى حتى لو أعطيناها مليون دولار. تخشى أنها سوف تفوت شيئًا ما، تريد أن تذهب أينما نذهب».

قالت الجدة: «حسنًا أيتها الفتاة، تذكري هذا فقط عندما تريدين مني أن أجعد لكِ شعركِ».

قالت جون ستار إن شعرها مجعد بطبيعته.

في الصباح التالي، كانت الجدة هي أول من ركب السيارة واستعد للذهاب. كانت معها حقيبة سفر سوداء كبيرة تشبه رأس فرس نهر من الجانب وأسفلها كانت تحتوي على قفص القط «بيتي سينج»، لم تكن تنوي أن تترك القط لثلاثة أيام على التوالي لأنه سوف يشتاق إليها ولأنها تخاف عليه، فربما يعبث بموقد الغاز وينتهي به الحال مختنقًا. كره ابنها بايلي فكرة أن يذهب إلى أحد الفنادق ومعهم قط. 

جلست الجدة في منتصف الكنبة الخلفية وجون ويزلي وجون ستار على جانبيها، بايلي وأم الأطفال والطفل كانوا يجلسون في الكرسيين الأماميين. تحركوا من أتلانتا في الساعة التاسعة إلا الربع، وكان عداد الأميال في السيارة قد سجل 55,890 ميلًا. سجلت الجدة عدد الأميال لأنها ظنت أنه من المثير للاهتمام أن تحسب عدد الأميال التي قادوها بالسيارة بعد عودتهم من تلك الرحلة. تطلب الأمر منهم عشرين دقيقة كي يصلوا إلى أطراف المدينة. 

جعلت الجدة نفسها مستقرة ومرتاحة، فخلعت قفازها ووضعته داخل حقيبتها ووضعتها على رف أمام زجاج السيارة الخلفي. كانت أم الأطفال ما زالت ترتدي السروال ومنديل الرأس الأخضر على شكل أذني أرنب. ارتدت الجدة قبعة بحار زرقاء داكنة مصنوعة من القش وعليها بعض أزهار البنفسج الأبيض، وفستان أزرق داكن منقط بنقاط بيضاء. ياقة الفستان والأكمام كانوا من الأورجاندي الأبيض المزين بالدانتيل، وعلى خط العنق ثبتت بدبوس جيب بنفسجي مع القليل من الرذاذ الأرجواني. في حالة وقوع حادث على الطريق السريع، إذا نظر أحدهم إلى جثتها سيتأكد على الأقل من أنها سيدة محترمة. قالت إنها تظن أنه يوم جيد لرحلة بالسيارة، ليس حارًا جدًا وليس باردًا جدًا.

حذرت بايلي من أن يزيد السرعة على خمسة وخمسين ميلًا في الساعة، وذلك لأن رجال الدوريات يختبئون خلف اللوحات الإعلانية والأشجار الصغيرة ويسرعون خلفك قبل أن تتسنى لك فرصة لتهدئة سرعتك. وأشارت إلى تفاصيل مثيرة للمشهد: الجبل الصخري، والجرانيت الأزرق الذي يظهر على جانبي الطريق في بعض المناطق، وضفاف الطين الأحمر اللامع المخططة قليلاً بالأرجواني، والمحاصيل المختلفة التي صنعت صفوفًا من الدانتيل الأخضر على الأرض. كانت الأشجار ممتلئة بشعاع الشمس الأبيض الفضي وحتى أصغرها يتلألأ. وكان الأطفال يقرؤون في تلك الكتب المصورة وأمهم في الكرسي الأمامي راحت في النوم. 

قال جون ويزلي: «دعنا نمر عبر جورجيا سريعًا كي لا نراها».

قالت الجدة: «لو كنت أنا ولدًا صغيرًا لما تحدثت عن الولاية التي أعيش فيها بهذا الشكل. تينيسي لديها جبال وجورجيا لديها تلال».

قال جون ويزلي: «تينيسي مجرد أرض غبية مرتفعة، وجورجيا سخيفة كذلك».

قالت جون ستار: «صحيح».

قالت الجدة بعد أغلقت قبضة يدها: «في أيامي، كان الأطفال يحترمون ولايتهم التي تربوا فيها، ويحترمون آباءهم وكل شيء آخر. أوه، انظروا إلى ذلك الطفل الأسمر اللطيف». وأشارت إلى الزنجي الذي وقف عند باب الكوخ. «إنها صورة رائعة، صحيح؟» جميعهم التفتوا ليشاهدوا الطفل الصغير من الزجاج الخلفي للسيارة. لوح الطفل الزنجي بيده لهم.

قالت جون ستار: «إنه لا يرتدي سروالًا».

فَسَرت الجدة: «ربما لا يمتلك سروالًا، الزنوج في بلدنا هذه لا يملكون أشياء مثل التي نملكها. إذا استطعت أن أرسم، لرسمت صورة هذا الطفل».

بدل الأطفال الكتب المصورة فيما بينهم. 

عرضت الجدة أن تحمل الطفل الصغير عن الأم، فناولتها الأم الطفل فوق الكرسي الأمامي. وضعت الجدة الطفل الصغير على ركبتيها وراحت تهدهده وتخبره بالأماكن التي كانوا يمرون بها. كانت تحرك عينيها في جميع الاتجاهات وألصقت وجهها المجعد العجوز بوجهه الناعم الصغير وبين حين وآخر يمنحها ابتسامة هادئة طفولية. مروا بحقل قطن كبير، يتوسطه خمس أو ست مقابر ويلتف السياح حولهم كأنهم جزيرة صغيرة. قالت الجدة: «انظروا إلى تلك المقابر! تلك الأرض تخص مقابر عائلة قديمة. والآن أصبحت تنتمي لمشتل».

سأل جون ويزلي: «أين هذا المشتل؟»

قالت الجدة: «ذهب مع الرياح، هاها!»

عندما انتهى الأطفال من قراءة الكتب المصورة التي أحضروها، فتحوا علب الطعام وأكلوا. أكلت الجدة ساندوتش من زبدة الفول السوداني وزيتونة ولم تسمح للأطفال بأن يرموا المناديل والعلب من الشباك بعد أن انتهوا منها. عندما لم يتبق شيئًا ليفعلوه، لعبوا لعبة وهي أن اختار أحدهم سحابة ما ويترك الاثنين الآخرين يخمنون أقرب شكل لها. اختار جون ويزلي واحدة على شكل بقرة، خمنت جون ستار بأنها بقرة، قال جون ويزلي، لا، إنها سيارة. فقالت جون ستار إنه يغش، وبدؤوا يصفعون بعضهم فوق الجدة.

قالت الجدة إنها ستحكي لهم حكاية إذا هذبوا أنفسهم. عندما كانت تخبرهم القصة كانت تحرك عينيها بينهم وتلوح بيديها، كان الوضع دراميًا جدًا. أخبرتهم أنها ذات مرة عندما كانت فتاة عذراء، قد غازلها السيد إدجار أتكينز الذي كان يعمل في حديقة شاي في جاسبر في جورجيا. قالت إنه كان بهيئة جيدة، وإنسانًا محترمًا، كان يحضر لها كل سبت بطيخة ويحفر عليها الأحرف الأولى من اسمه، إ. أ. ت. وفي أحد أيام السبت، أحضر السيد إدجار لها بطيخة، ولم يكن هناك أحد بالبيت، فتركها على شرفة المنزل الخارجية وركب العربة التي تجرها الدواب وغادر إلى جاسبر، لكنها لم تأخذ البطيخة أبدًا، قالت إن أحد الزنوج قد رآها وأكلها عندما رأى الحروف الأولى مكتوبة، إ. أ. ت! (E. A. T.).

أحب جون ويزلي تلك القصة وصار يضحك ويضحك، لكن جون ستار ظنت أن القصة لم تكن جيدة كفاية لكل هذا الضحك. قالت إنها لم تكن لتتزوج رجل يحضر لها بطيخاً كل يوم سبت. قالت الجدة إنه كان يجب عليها أن تتزوج السيد إدجار لأنه رجل محترم ولأنه قد اشترى سهم في شركة كوكاكولا أول ما طُرحت في سوق الأسهم. منذ بضعة أعوام مات السيد إدجار وهو رجل غني جدًا.

توقفوا عند البرج لشراء سندوتشات لحم مشوي، كان البرج عبارة عن محطة تعبئة وقود مصنوعة من الجص وجزء منها خشب، وفيها قاعة رقص، وتقع في منطقة فارغة خارج تيموثي. أدار هذا المكان رجل سمين يُدعى سامي باتس الأحمر، وكان هناك ملصقات إعلانية في كل مكان على بعد أميال قبل وبعد المحطة، كُتب عليها: جرب مشويات الشهير سامي الأحمر. ليس هناك أفضل مِن الشهير سامي الأحمر! سام الأحمر! الرجل السمين ذو الضحكة السعيدة. المخضرم! سامي الأحمر هو الرجل المنشود!

كان سامي الأحمر مستلقيًا على الأرض الجرداء خارج البرج ورأسه أسفل شاحنة، بينما كان هناك قرد رمادي بارتفاع قدم واحد مربوط بشجرة توت صغيرة تتحرك مع الرياح بالقرب. قفز القرد للخلف وصعد إلى أعلى فرع في الشجرة عندما رأى الأطفال ينزلون من السيارة ويركضون ناحيته. 

داخل البرج كان هناك غرفة طويلة مظلمة وبها منضدة طويلة لها نهاية من ناحية ومن الناحية الأخرى تنتهي بمناضد أخرى أصغر، في المنتصف كانت هناك مساحة للرقص. جلسوا جميعًا على طاولة بالقرب من صندوق لتشغيل الموسيقى وزوجة سامي الأحمر، وهي امرأة بنية البشرة بعيون وشعر أفتح من بشرتها، جاءت وأخذت طلباتهم للطعام. وضعت أم الأطفال عشرة سنتات في الآلة الموسيقية، فتعالت نغمات أغنية «Tennessee Waltz». قالت الجدة إن نغمات هذه الأغنية تجعلها تريد أن ترقص، فسألت بايلي أن يرقص معها، لكنه نظر إليها في صمت فقط. لم يكن بايلي في مزاج رائق مثلها؛ الرحلات تجعله متوترًا. كانت عينا الجدة البنية تلمع ورأسها يتحرك من ناحية إلى أخرى متظاهرة بأنها ترقص في كرسيها. قالت جون ستار إنها تريد أن تشغل موسيقى أخرى حتى يتسنى لها أن ترقص بالنقر، فذهبت الأم ووضعت عشرة سنتات أخرى في الآلة لتخرج إلى مسامعهم موسيقى ذات إيقاع سريع. قامت جون ستار من كرسيها وراحت ترقص رقصها النقري في المساحة المخصصة للرقص.

قالت زوجة سامي الأحمر: «أليست فتاة لطيفة؟ هل تريدين أن تأتي لتصبحي ابنتي أنا؟» 

قالت جون ستار: «لا، لا أريد. لا أريد أن أعيش في مكان نصف مهدم حتى لو أعطيتموني مليون دولار!» وعادت إلى كرسيها راكضة.

ابتسمت زوجة سامي الأحمر وقالت بعذوبة: «أليست فتاة لطيفة!»

همست الجدة بهدوء: «ألا تخجلين من نفسكِ الآن؟» 

دخل سامي الأحمر الغرفة وأخبر زوجته ألا تثرثر وتسرع لإحضار الطلبات. وصل بنطلونه الكاكي حتى أسفل خصره فقط بينما يتدلى كرشه أعلاه ويهتز أسفل قميصه. جلس سامي الأحمر على طاولة بالقرب منهم وأطلق العنان لنفسه وغنى لحن سويسري، غنى: «لا يمكنك أن تفوز.. لا يمكنك أن تفوز»، ومسح عرقه بمنديل من على وجهه الأحمر. قال: «هذه الأيام يصعب عليك أن تعرف بمن تثق.. أليست هذه الحقيقة؟» 

قالت الجدة: «بالطبع، الناس لم تعد لطيفة كما اعتادوا أن يكونوا».

قال سامي الأحمر: «الأسبوع الماضي جاء رجلان يركبان سيارة ماركة كرايسلر، كانت سيارة قديمة ولكنها في حالة جيدة، وبدا الرجلان في حالة جيدة أيضًا، قالا إنهما يعملان في طاحونة، هل تعلمي أني سمحت لهم بتحديد ثمن الوقود الذي اشتروه؟ الآن لماذا قد فعلت ذلك؟»

قالت الجدة: «لأنكَ رجل جيد!»

قال سامي الأحمر: «نعم، أظن ذلك»، وبدا مشدوهًا من الإجابة.

جاءت زوجته بالطلبات، تحمل خمسة أطباق دفعة واحدة دون وضعهم على صينية، كل اثنين في يد وواحد على رسغها. قالت: «لا يوجد شخص يمشى فوق أرض الله هذه يمكنك أن تثق به»، قالتها بينما كانت تنظر إلى سامي الأحمر.

سألت الجدة: «هل قرأتم عن هذا المجرم، ميسفيت، الذي هرب؟» 

قالت المرأة: «لن أكون متفاجئة أبدًا إذا هاجم المكان هنا.. إذا سمع عن المكان هنا، لن أكون متفاجئة أبدًا لرؤيته. إذا سمع أنه ليس هناك أكثر من اثني سنت في هذا المكان، لن أكون متفاجئة أبدًا».

قاطعها سامي الأحمر: «هذا ما سوف تفعلينه، اذهبي واحضري مشروب الكوكاكولا الخاص بهم»، فذهبت المرأة لتجلب بقية الطلبات.

قال سامي الأحمر: «من الصعب العثور على إنسان جيد، الأوضاع تزداد سوءًا. أنا أتذكر اليوم الذي كان المرء يخرج فيه ويستطيع ترك قفل الباب مفتوحًا. لم يعد الأمر هكذا الآن».

تذكر سامي الأحمر والجدة بحنين تلك الأوقات الجيدة. قالت الجدة في رأيها إن أوروبا هي الملامة على الأوضاع التي يعيشونها الآن. قالت الجدة إن الطريقة التي تصرفت بها أوروبا تجعلك تظن أن أمريكا أُمة غنية، فقال سامي الأحمر إنه لم تعد فائدة من الحديث عن هذا الأمر، وإنها محقة بالطبع فيما تقوله. خرج الأطفال عدوًا للخارج تحت أشعة الشمس ليشاهدوا القرد المربوط في شجرة التوت. كان القرد منشغلًا بالتقاط البراغيث من شعره وأكلها بحرص كأنها طعام لذيذ.

ثم انطلقوا على الطريق مجددًا في حر ما بعد الظهيرة. كانت الجدة تنام في غفوات صغيرة وتستيقظ كل بضعة دقائق مع شخيرها. خارج مقاطعة موبسبورو، استيقظت الجدة وتذكرت مزرعة قد زارتها عندما كانت فتاة صغيرة في هذه المقاطعة. قالت إن المنزل كان يقف أمامه ستة أعمدة في الواجهة، وهناك سبيل من شجر البلوط يقود إليه وهناك تعريشتين خشبيتين في كلا الجانبين حيث يمكنك أن تجلس مع حبيبك بعد نزهة في الحديقة. لقد قالت بالتحديد أي طريق تسلكه لتصل إلى تلك المزرعة. كانت تعلم أن بايلي لن يريد أن يضيع وقته في رؤية منزل قديم، لكنها كلما تكلمت عن ذلك المنزل، كلما زادت عزيمتها لرؤيته مرة أخرى، والتأكد من أن التعريشتين الخشبيتين ما زالتا هناك. قالت بمكر: «كان هناك تجويف سري في ذلك المنزل». لم تكن تقول الحقيقة لكنها تمنت أن تكون تلك الحقيقة.. «كانت هناك فضة كثيرة تخص الأسرة مخبأة داخله، عندما أتى شيرمان. ولكن لم يُعثر عليها أبدًا».

قال جون ويزلي: «هيا، دعونا نذهب لنراه! سوف نجد الفضة! سوف نثقب كل قطعة خشبية حتى نجدها! مَن يعيش هناك؟ أين الطريق الذي يؤدي إلى المنزل؟ أبي، هل يمكننا أن نذهب هناك؟»

قالت جون ستار: «لم نر من قبل منزلًا ذا تجويف سري! دعونا نذهب إلى المنزل ذي التجويف السري! أبي، أريد أن أذهب إلى المنزل ذي التجويف السري!»

قالت الجدة: «ليس بعيدًا عن هنا، أعرفه، لن يستغرق الأمر أكثر من عشرين دقيقة».

كان بايلي ينظر أمامه وفكه صلب مثل حدوة حصان، ثم قال: «لا!»

صاح الطفلان وصرخا، يريدان أن يريا المنزل ذا التجويف السري. بدأ جون ويزلي بركل ظهر الكرسي الأمامي والصراخ، أما جون ستار فكانت تبكي وتقول في أذن والدتها بيأس إنهم لم يشعروا بالمرح أبدًا في تلك الرحلات، وإنهم لم يفعلوا ما يريدونه أبدًا. ثم بدأ الطفل الصغير يبكي بينما كان جون ويزلي يركل ظهر الكرسي الأمامي بقوة لدرجة أن والده شعر بركلاته في كليته.

«حسنًا!» صاح الأب وتحرك بالسيارة جانبًا ليقف على جانب الطريق. «اصمتوا، اصمتوا لثانية واحدة، إن لم تصمتوا لن نذهب إلى أي مكان».

غمغمت الجدة: «سيكون الأمر تعليميًا جدًا بالنسبة لهم».

قال بايلي: «حسنًا! ولكن اعلموا أننا لن نقف مجددًا لأي شيء كهذا. هذه أول مرة وآخر مرة».

قالت الجدة: «الطريق الترابي الذي من المفترض أن تسلكه على بعد ميل رجوعًا للخلف، لقد ميزته عندما مررنا به».

تأوه بايلي: «طريق ترابي!»

في طريق عودتهم إلى الطريق الترابي، قالت الجدة بعض التفاصيل الجميلة عن المنزل؛ مثلًا إن له بابًا أماميًا ذا زجاج جميل ومصباح شمعي معلق في الصالة، فقال جون ويزلي إن التجويف السري على الأرجح سيكون في المدفأة.

قال بايلي: «لا يمكن أن تدخل المنزل، نحن لا نعلم مَن يعيش هناك».

اقترح جون ويزلي: «بينما أنتم تتكلمون مع من يعيشون هناك، سوف ألتف حول المنزل وأدخل من شباك خلفي».

قالت أم الأطفال: «سوف نظل كلنا في السيارة».

التفتوا باتجاه الطريق الترابي وكانت السيارة تسير بصعوبة مع دوامة من الغبار الأحمر طوال الطريق. تذكرت الجدة تلك الأيام قبل رصف الطرق، وقت كانت رحلتها اليومية ثلاثين ميلًا. كان الطريق الترابي منحدرًا وطينيًا بصورة مفاجئة، له منعطفات حادة على جسور خطيرة. في لحظة يكونون على مرتفع يمكنهم منه رؤية قمم الأشجار الخضراء أسفلهم، والدقيقة التالية يكونون على أرض حمراء والأشجار المغبرة تنظر إليهم مِن أعلى.

قال بايلي: «يجب أن يستوي طريق هذا المكان وإلا فسوف أعود من حيث جئت».

بدا الطريق كأن أحدًا لم يمش عليه منذ شهور.

قالت الجدة: «ليس المنزل بعيدًا جدًا»، ثم جاءتها فكرة مروعة، محرجة جدًا حتى أن وجهها احمرَّ وعينيها اتسعتا، ثم قفزت قدماها للأعلى فحركت حقيبة السفر في زاوية السيارة، وعندئذ تحركت الجريدة التي كانت تضعها أعلى قفص القط بيتي سينج، الذي فقفز في لحظة على كتف بايلي.

انقلبت السيارة مرة واحدة وحطت أسفل منحدر على يمين الطريق، بقى بايلي على الكرسي كما هو بينما تشبث القط برقبته مثل علقة. سقطت الجدة في المقعد الأمامي، وكانت أم الأطفال تمسك بطفلها بينما وقعت خارج السيارة على الأرض. أما الطفلان فبقيا داخل السيارة على الأريكة الخلفية.

ما أن استطاع الطفلان تحريك أيديهم وسيقانهم حتى خرجوا زحفًا من السيارة، وقالا: «لقد تعرضنا لحادث!» الجدة كانت منزوية تحت لوحة عداد السيارة، آملة أنها قد أصيبت بجروح حتى لا يخرج بايلي غضبه كله عليها فجأة. أما الفكرة المروعة التي راودتها قبل وقوع الحادث فهي أن المنزل الذي كانت تتحدث عنه يوجد في تينيسي وليس في جورجيا.

أزاح بايلي القط بيديه الاثنتين ورماه خارج السيارة بجانب شجرة الصنوبر، ثم خرج من السيارة وبدأ يبحث عن أم أطفاله، التي كانت تجلس أسفل المنحدر الأحمر وعلى قدميها الطفل يصرخ بينما جُرحت هي أسفل وجهها وانكسر كتفها. «لقد تعرضنا لحادث!» قال الطفلان ببهجة مجنونة.

قالت جون ستار بخيبة: «لم يمت أحد»، بعد أن رأت جدتها تخرج من السيارة وقبعتها الزرقاء ذات المقدمة المكسورة الآن لا تزال فوق رأسها. جلسوا جميعًا أسفل المنحدر للتعافي من أثر تلك الصدمة، وعدا الطفلين، كانوا جميعًا يرتجفون. قالت أم الأطفال بصوت خشن: «ربما تمر بنا سيارة».

قالت الجدة: «أعتقد أن عضوًا داخلي قد تأذى»، ووضعت يديها على جنبها ولكن لم يردُّ عليها أحد. كانت أسنان بايلي تقعقع، ووجهه أصفر من القميص الرياضي الأصفر الذي كان يرتديه. قررت الجدة ألا تقول أن المنزل في تينيسي.

كان الطريق يرتفع عشرة أقدام فوقهم، واستطاعوا فقط أن يروا قمم الأشجار على الجانب الآخر منه. أمام المنحدر كان هناك غابة من الأشجار، طويلة، مظلمة وعميقة. بعد بضعة دقائق، رأوا سيارة على مسافة بعيدة أعلى التل، تأتي ببطء كأن الراكبين داخلها يستطيعون رؤيتهم. وقفت الجدة وبدأت تلوح بذراعيها بيأس كي تلفت انتباههم. ظلت السيارة تأتيهم ببطء، تختفي وتظهر من خلف تموجات الطريق، تتحرك ببطء أكثر وأكثر، حتى ظهرت أعلى التل وتوقفت. كانت سيارة سوداء كبيرة تشبه سيارة نقل الموتى، وبداخلها ثلاثة رجال.

وقفت السيارة على الطريق لبضعة دقائق، نظر السائق إليهم بتأمل دون تعبيرات على وجهه ولم يتكلم. ثم استدار وقال شيئًا ما للرجلين اللذين جلسا خلفه ولما انتهى خرجا من السيارة. أحدهما كان ولدًا سمينًا يرتدي بنطلونًا أسود وتيشرت أحمر ومنقوش عليه حصان فضي. التف الولد إلى يمينهم ووقف يحدق إليهم وفمه مفتوح قليلًا وعليه شبح ابتسامة. الآخر كان يرتدي بنطلون كاكي ومعطف أزرق وقبعة رمادية كانت تغطي معظم وجهه. ووقف ذلك الرجل على اليسار ولم يتحدث أيضًا.

ترجل السائق عن السيارة ووقف بجوارها ونظر إليهم. كان السائق أكبر من الآخرين سنًا، وبدأ الشيب يخط في شعره، ارتدى نظارات فضية أعطت له مظهر الطلاب. وكان للسائق وجه مجعد وصدر عار، وقف وفي يده قبعة رمادية واليد الأخرى تحمل مسدسًا، وكذلك الآخران حمل كل منهما مسدسًا.

صاح الطفلان: «لقد تعرضنا لحادث!»

شعرت الجدة شعورًا غريبًا بأن الرجل الذي يرتدي النظارة له وجه مألوف. كانت تألفه كأنها تعرفه مسبقًا لكنها لم تعد تتذكر من هو. تحرك السائق من جوار السيارة وبدأ ينزل المنحدر المؤدي إليهم، بحرص حتى لا ينزلق، وكان جلده متأثرًا بسمرة الشمس، يرتدي حذاء أبيض ولا يرتدي شراب، وكان كاحلاه أحمرين ورفيعين.

قال الرجل: «مساء الخير، أرى أنكم مررتم بموقف سيء هنا».

قالت الجدة: «انقلبت السيارة مرتين».

قال: «مرة واحدة، لقد رأينا الحادث. يا حيرم، جرب السيارة وانظر هل ستعمل أم لا»، وكان يوجه كلامه للولد الذي يرتدي قبعة رمادية.

سأل جون ويزلي: «لماذا تحمل مسدسًا؟ ما الذي سوف تفعله بالمسدس؟»

قال الرجل لأم الأطفال: «سيدتي، هلا قلت لأولادكِ أن يجلسوا بجانبك؟ يجعلني الأطفال متوترًا. أريد منكم جميعًا أن تجلسوا بعضكم بجانب بعض على الأرض». أمامهم كان للغابة طريق ضيق مثل فم مظلم. قالت الأم لأولادها: «تعالا هنا».

قال بايلي فجأة: «انظر، نحن في مأزق هنا، نحن في مأ..»، وفجأة وقفت الجدة على قدميها بصعوبة وصرخت: «أنت ميسفيت! أستطيع أن أميزك!»

قال الرجل مبتسمًا: «نعم، إنه أنا..»، كأنه أحب فكرة أن يُعرف، «كانت الأوضاع لتصير أفضل يا سيدتي لو لم تتعرفي علي».

استدار بايلي بحدة إلى والدته وقال لها شيئًا صادمًا، فبدأت الجدة تبكي واحمرَّ السفاح ميسفيت خجلًا.

قال الرجل: «سيدتي، لا تنزعجي أبدًا. أحيانًا يقول الإنسان أشياء لا يعنيها، أنا أعتقد أنه لم يقصد أن يتحدث إليكِ بهذه الطريقة».

قالت الجدة: «أنت لن تطلق النار على سيدة، أليس كذلك؟» ثم أخرجت منديل وبدأت تمسح عينيها به. حفر السفاح ميسفيت حفرة صغيرة بمقدمة حذائه وغطاها بالتراب ثانية، ثم قال: «أكره أن اضطر لذلك».

صرخت الجدة بالكاد: «اسمع، أعلم أنكَ رجل جيد. أنت لا تبدو إطلاقاً كأنكَ بلطجي، أعلم أنكَ ابن أسرة لطيفة!»

قال الرجل: «نعم يا سيدتي، ألطف أسرة في العالم»، وابتسم فظهر صف من الأسنان القوية، «لم يخلق الله امرأة ألطف من والدتي، وقلب أبي كان من الذهب الخالص». التف الولد ذو القميص الأحمر حولهم ووقف واضعًا المسدس على فخذه، ثم جلس السفاح ميسفيت القرفصاء على الأرض وقال: «انظر إلى هؤلاء الأطفال يا بوبي لي، أنت تعلم، الأطفال يجعلوني متوترًا». نظر إلى الستة أشخاص المتجمعين أمامه على الأرض، وبدا عليه الحرج لأنه لا يستطيع التفكير في أي شيء يقوله. نظر لأعلى ثم قال: «ليس هناك غيوم في السماء، لا ترى شمسًا ولكنك لا ترى غيومًا أيضًا».

قالت الجدة: «نعم، إنه يوم جميل! اسمع، لا ينبغي عليك أن تطلق على نفسك اسم ميسفيت لأني أعلم أنكَ رجل جيد ذو قلبٍ طيب. عندما أنظر إليكَ أستطيع أن أرى ذلك فيك».

قال بايلي: «الصمت! الصمت! فليصمت الجميع، دعوني أنا أتعامل مع هذا»، وكان يجلس القرفصاء في وضعية عداء على وشك الركض لكنه لم يتحرك.

قال ميسفيت: «أنا أقدر هذا يا سيدتي»، ثم رسم دائرة على الأرض بمؤخرة مسدسه.

قال حيرم وهو ينظر من فوق غطاء محرك السيارة المرفوع: «سوف أستغرق نصف ساعة لإصلاح هذه السيارة».

رد ميسفيت: «حسنًا، أنت وبوبي لي، أحضراه هو والصبي الصغير لكي يقفا معك هناك»، وأشار إلى بايلي وجون ويزلي. ثم قال لبايلي: «الأولاد يريدون أن يسألوك عن شيء ما، هل تمانع أن تقف بجانبهم هناك عند طرف الغابة؟»

قال بايلي: «اسمع، نحن في مأزق مروع! لا أحد يدرك هذا» وبُحَّ صوته قليلًا، وكانت عيناه منزعجتين وحادتين مثل الببغاوات على قميصه، لكنه ظل ساكنًا تمامًا.

رفعت الجدة يدها لتعديل وضع مقدمة القبعة على رأسها، لكن القبعة انخلعت في يدها، فنظرت إليها الجدة لثانية واحدة ثم تركتها تسقط على الأرض. سحب حيرم بايلي من ذراعه كأنه يساعد رجل عجوز على المشي. أما جون ويزلي فكان معلقًا بيد بايلي، وتبعهم بوبي لي من الخلف. ذهبوا جميعًا ناحية الغابة وعندما وصلوا إلى حافة الغابة المظلمة، استدار بايلي مستندًا إلى جذع شجرة صنوبر رمادي وصاح: «سأعود بعد دقيقة يا أمي، انتظريني!»

صاحت الجدة بقوة: «عد هذه اللحظة!»، لكنهم جميعًا كانوا قد اختفوا بالفعل داخل الغابة.

«ابني بايلي!»، صاحت الجدة في صوت يائس، لكنها وجدت نفسها تنظر إلى السفاح ميسفيت يجلس القرفصاء على الأرض أمامها. قالت بيأس: «أعلم انكَ إنسان جيد! أنت لست بلطجيًا!»

قال ميسفيت: «لا، أنا لست إنسانًا جيدًا»، بعد ثانية كما لو أنه كان يفكر في كلامها بحرص، ثم استدرك: «ولكني لست أسوأ شخص في العالم أيضًا. قال أبي إني من سلالة أفضل من إخوتي. تعلمين، قال أبي كذلك: بعض الناس يعيشون حياتهم كاملة دون أن يسألوا لماذا، والبعض الآخر يجب أن يسألوا لماذا. ذلك الصبي سيكون واحدًا من هؤلاء الذين يريدون معرفة كل شيء». وضع الرجل قبعته السوداء على رأسه ونظر لأعلى ثم إلى الغابة كأنه يشعر بالحرج مجددًا، وأكمل: «أنا آسف لأني لا أرتدي قميصًا أمامكم يا سيداتي»، قالها وهو يحني ظهره للأمام قليلًا. «لقد دفنا ملابسنا التي كُنا نرتديها عندما هربنا، وننتظر قليلًا حتى نأتي بأفضل، هذه الملابس اقترضناها من أناس مررنا بهم».

قالت الجدة: «لا بأس بهذا، ربما يملك بايلي قميصًا زيادة في حقيبته».

قال ميسفيت: «سأذهب لأرى مباشرة!».

صرخت أم الأطفال: «إلى أين يأخذونه؟» 

واصل الرجل حديثه: «كان أبي حالة خاصة، لا يمكنك تغيير رأيه بشأن أي شيء، وليس له مشاكل مع السلطات رغم ذلك، كان لديه موهبة التعامل معهم».

قالت الجدة: «يمكنك أن تكون شخص أمينًا طيبًا أيضًا إن حاولت ذلك، فكر كم من الرائع أن تستقر وتعيش حياة مريحة، ولن تضطر للتفكير بأن شخصًا ما يريد القبض عليك دائمًا».

ظل ميسفيت يخدش الأرض بمؤخرة مسدسه كما لو أنه يفكر بما قالته، ثم غمغم قائلًا: «نعم، هناك دائمًا شخص ما يسعى خلفك».

لاحظت الجدة كم أن عظام كتفيه نحيفة خلف قبعته، لأنها كانت واقفة تنظر إليه من الأعلى، سألته: «هل تصلي لله؟» 

هز الرجل رأسه. كل ما رأته الجدة أن القبعة كانت تهتز بين عظام كتفيه. قال: «لا!»

دوى صوت طلقة مسدس داخل الغابة تبعها صوت طلقة أخرى، ثم صمت رهيب. تحرك رأس السيدة العجوز، استطاعت أن تسمع الرياح تحرك قمم الأشجار كأن الغابة تتنفس. صاحت الجدة: «ابني بايلي!»

قال ميسفيت: «كنت مغني ترانيم إنجيل لمدة. لقد كنت كل شيء تقريبًا، كنت أخدم في الجيش، في البر والبحر، داخل الوطن وخارجه، تزوجت مرتين، كنت متعهد دفن، عملت في السكك الحديدية، حرثت الأرض، كنت وسط إعصار، رأيت مرة رجلًا يحترق حيًا». نظر إلى أم الأطفال وإلى الفتاة الصغيرة التي جلست بجوار والدتها، وجوههم كانت صفراء وعيونهم كانت مرعوبة. قال الرجل: «حتى أنّي رأيت امرأة تُجلد بالسوط من قبل».

قالت الجدة: «عليك بالصلاة، الصلاة، الصلاة، الصلاة».

أكمل ميسفيت بصوت يبدو حالمًا: «لا أذكر أني كنت ولدًا مشاغبًا، لكن في مكان على طول الخط فعلت شيئًا خاطئًا، وأُرسلت إلى الإصلاحية. لقد دُفنت حيًا!» نظر إلى أعلى وجذب انتباهها بنظرة ثابتة.

قالت الجدة: «وقتها كان ينبغي عليك أن تصلي، وماذا فعلت لكي تُرسل إلى الإصلاحية تلك المرة الأولى؟» 

نظر ميسفيت لأعلى متأملًا السماء الصافية بينما قال: «نظرت إلى اليمين فكان هناك حائط، ونظرت إلى اليسار فكان هناك حائط، ونظرت إلى أعلى فكان هناك سقف، نظرت إلى أسفل فكانت هناك أرض. لقد نسيت ما قد فعلته يا سيدتي. لقد جلست هناك محاولًا تذكر ما فعلته ولم أتذكر ما فعلته حتى هذا اليوم. بين الحين والآخر أحاول أن أتذكر ولم تأتني الذكرى أبدًا».

ردت الجدة بغموض: «ربما وضعوك هناك بالخطأ».

قال الرجل: «لا! لم يكن هناك أي خطأ، كانت هناك أوراق تثبت ما فعلته».

قالت الجدة: «ربما قد سرقت شيئًا ما».

قال الرجل ساخرًا: «لم يكن لدى أي أحد ما أريده. قال الدكتور في الإصلاحية إن ما فعلته هو أني قد قتلت أبي لكني كنت أعرف أن هذه كذبة. أبي مات أثناء وباء الإنفلونزا ولم أكن أنا من تسبب بقتل أبي. لقد دُفن في فناء كنيسة في جبل هوبويل المعمداني، تستطيعي أن تذهبي هناك وتري بنفسك».

قالت الجدة: «إذا كنت تصلي، لساعدك يسوع المسيح».

قال ميسفيت: «هذا صحيح!»

سألته الجدة مع القليل من البهجة في كلامها: «حسنًا، لم لا تصلي إذن؟» 

قال ميسفيت: «لا أريد أي مساعدة، أنا على ما يرام».

تهادى بوبي لي وحيرم رجوعًا من الغابة، وكان بوبي لي يحمل قميصًا عليه ببغاوات براقة. قال ميسفيت: «ارم لي القميص يا بوبي لي»، فطار القميص في الهواء وحطَّ على كتفي ميسفيت، فارتدى ميسفيت القميص. لم تستطع الجدة أن تحدد بمن يذكرها هذا القميص. قال ميسفيت وهو يعقد الأزرار: «لا يا سيدتي، لقد أدركت أن الجريمة لا تهم. تستطيعين أن تفعلي هذا أو ذاك، تقتلين رجلًا أو تسرقين إطار عجلة من سيارته، لأنه عاجلًا أو آجلًا سوف تنسين ما قد فعلتيه وتنالين عقابك عليه».

بدأت أم الأطفال تصدر أصواتًا عميقة كأنها لا تستطيع أن تتنفس. سأل الرجل: «يا سيدتي، هلا تذهبين أنتِ وابنتكِ الصغيرة وتقفين هناك مع بوبي لي وحيرم لكي تنضمي إلى زوجك؟»

قالت الأم بفتور: «نعم، شكرًا لك»، وتدلى ذراعها الأيسر لا حول له ولا قوة، بينما حملت الطفل النائم بالذراع الآخر. قال ميسفيت: «ساعد السيدة على النهوض يا حيرم»، بينما كانت أم الأطفال تجاهد لكي تقف مستندة إلى المنحدر، «وأنت يا بوبي لي أمسك يد الفتاة الصغيرة».

قالت جون ستار: «لا أريده أن يمسك يدي، إنه يذكرني بالخنزير».

احمرَّ وجه الفتى البدين وضحك ثم شدَّها من ذراعها ناحية الغابة بعد حيرم وأمها.

وحدها مع ميسفيت، أدركت الجدة أنها فقدت القدرة على التكلم. لم يكن هناك أي غيوم أو حتى شمس في السماء، لم يكن هناك شيء سوى الغابة المظلمة. أرادت أن تخبره أنه يجب أن يصلي. فتحت وأغلقت فمها عدة مرات دون أن يخرج منها شيء. في النهاية وجدت نفسها تقول: «يا يسوع، يا يسوع!» كانت تقصد أن يساعده يسوع المسيح، لكن الطريقة التي نطقت بها أوحت بأنها تسبه.

قال ميسفيت: «نعم»، كأنه موافق على ما تقوله، «لقد أظهر يسوع المسيح كل شيء غير متوازن. ما حدث معه هو نفسه ما حدث لي إلا أنه لم يرتكب أي جريمة. يمكنهم أن يثبتوا أني ارتكبت جريمة لأن معهم أوراق تثبت ذلك. بالطبع، لم يظهروا لي أي أوراق. لهذا السبب أنا أوقٍّع بنفسي الآن. لقد قلتها منذ زمن طويل، اجعل لك توقيعًا ووقِّع على كل شيء فعلته واحتفظ بنسخة من أصل التوقيع. وبهذا يمكنك أن تعرف ما فعلت، ثم قارن جريمتك مع عقابك وانظر ما إذا كانوا متناسبين، وفي النهاية سيكون معك شيء لتثبت أنك لم تتلق معاملة صحيحة. أنا أسمي نفسي ميسفيت لأني لا أستطيع أن أجعل كل أخطائي تتناسب مع مررت به من عقوبة».

كانت هناك صرخة حادة قادمة من الغابة تبعها طلق ناري. قال ميسفيت: «هل يبدو صحيحًا بالنسبة لكِ أن أحدًا يُعاقَب بإفراط والآخر لا يُعاقَب على الإطلاق؟» 

بكت الجدة: «يا يسوع! أنت رجل جيد! أعلم أنكَ لن تطلق النار على سيدة! أعلم أنكَ أتيت من عائلة لطيفة! فقط صلِّ! يا يسوع! لا يجب أن تطلق النار على سيدة. سوف أعطيك كل ما معي من مال!» 

قال ميسفيت وهو ينظر خلفها داخل الغابة: «سيدتي، لم يكن هناك أبدًا جثة أعطت بقشيشًا لمتعهد الدفن». اتبع ذلك صوت طلقتين ناريتين، ثم رفعت الجدة رأسها وصاحت بحشرجة مثل ديك رومي عجوز يطلب الماء: «ابني بايلي! ابني بايلي!» كما لو أن قلبها سوف يتحطم.

قال ميسفيت: «كان يسوع المسيح الشخص الوحيد الذي استطاع إحياء الموتى، ولم يكن ينبغي عليه أن يفعل ذلك. لقد أظهر أن كل شيء غير متوازن. إذا كان صادقًا في قوله، فليس عليكِ سوى أن تضربي بكل شيء عرض الحائط وتتبعيه، وإن لم يكن صادقًا في قوله، فليس عليك سوى أن تستمتعي بالدقائق القليلة المتبقية بأي طريقة تفضلين، تقتلين شخصًا ما أو تحرقين منزله أو تفعلين كل الأشياء الدنيئة التي تعرفينها. لا متعة دون دناءة!»

غمغمت الجدة دون وعي: «ربما هو لم يحي الموتى»، وكانت تشعر بالدوار وبأنها تغرق في ذلك الخندق أسفل الطريق وقدميها ملتويتين تحتها.

قال ميسفيت: «لم أكن هناك، لذا لا أستطيع القول إنه فعل، أتمنى لو كنت هناك، لعلمت ماذا فعل!»، وضرب الأرض بقبضته، ثم قال بصوتٍ عالٍ: «اسمعيني يا سيدتي، إذا كنت هناك، لعلمت ما حدث، ولم أكن على ما أنا عليه الآن». بدا صوته مبحوحًا، وصفا رأس الجدة للحظة واحدة، رأت وجه الرجل يتلوى ويقترب من وجهها كما لو أنه على وشك البكاء، غمغمت: «يا للعجب كأنك واحد من أطفالي، أنت واحد من أطفالي!»، ثم وصلت إليه ولمست كتفيه. تراجع ميسفيت للخلف كما لو أن أفعى عضته وأطلق النار على صدرها ثلاثة مرات، ثم وضع المسدس على الأرض وخلع نظارته وبدأ ينظفها. خرج حيرم وبوبي لي من الغابة ووقفا أعلى الخندق يشاهدان جثة الجدة التي كانت غارقة في بركة دماء وقدميها ملتويتان أسفلها ووجهها يبتسم للسماء الصافية.

بدون نظارته، كانت عينا ميسفيت حمراء، باهتة ومسالمة. قال لهما: «خذاها واتركاها مع الآخرين»، ثم حمل ميسفيت القط الذي كان يتحسس قدمه.

قال بوبي لي وهو ينزل الخندق: «كانت ثرثارة، أليس ذلك؟»

قال ميسفيت: «كانت لتصير امرأة جيدة، لو كان هناك أحدًا ليطلق عليها النار في كل دقيقة من حياتها».

صاح بوبي لي: «بعض المرح!».

فقال ميسفيت: «اخرس يا بوبي لي، ليس هناك متعة حقيقة في الحياة!»