الخروج من قلعة مصّاصي الدماء
مقال لمارك فيشر
ترجمة جبرا صدقي
مقال منشور في 24 نوفمبر 2013، باللغة الإنجليزية، على موقع OpenDemocracy.
* مارك فيشر كاتب وناقد ثقافي بريطاني، أشهر كتبه «الواقعية الرأسمالية».
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
فكّرت بجديّة خلال الصّيف في الانسحاب من أيّ نشاط سياسي. كنت مرهقًا من فرط العمل وغير قادر على أداء أيّ نشاط منتِج، فوجدت نفسي أنجرف مع شبكات التواصل الاجتماعي وأشعر باكتئابي وإرهاقي يتفاقمان.
كثيرًا ما يكون تويتر «اليساري» منطقة بائسة ومحبطة. في وقت سابق من هذا العام، حدثت عواصف تغريد رفيعة المستوى، و«استُحضِرت» بعض الشخصيات اليسارية وأُدينَت علنًا. كان ما قالته تلك الشخصيات مرفوضًا أحيانًا، ومع ذلك، تركت الطريقة التي طوردوا بها وشُوِّهت بها سمعتهم مُخلّفات فظيعة: نتن الضمير المذنب والنزوع الأخلاقي لمُطاردة الساحرات. منعني الخوف من الحديث عن أيّ مما حصل (وأشعر بالخجل من قول هذا). كان المتنمّرون في طرف الملعب الآخر، ولم أرد لفت انتباههم.
رافقت همجية هذه الحوارات العلنية شيئًا أكثر تفشّيًا، وربما لذلك السّبب كان أيضًا أشد وَطْأَة: مناخًا من النَّقَم المُستفِزّ. كان أوين جونز الهدف المتكرّر لذلك النقم، وكان الهجوم عليه (وهو الذي يعود له الفضل أكثر من غيره في رفع مستوى الوعي الطبقي في المملكة المتّحدة خلال السنوات القليلة الماضية) أحد الأمور التي سبّبت لي الغمّ. إذا كان ذلك ما حدث ليساري نجح فعلًا في نقل الصراع إلى مركز الحياة البريطانية، فلماذا يتبعه أيّ شخص إلى المجال السائد؟ هل البقاء في موقع هامشي وعاجز السبيلُ الوحيد لتجنّب هذا الأذى المُتقاطر؟
كان الذهاب إلى مجلس الشعب في إبسويتش قرب منزلي أحد الأمور التي أخرجتني من هذا الذهول الاكتئابي. استُقبل المجلس بالسخرية والفظاظة المعتادة. قيل لنا إنها كانت حيلة غير مجدية، إذ كان يساريو الإعلام (بمن فيهم جونز) يبجِّلون أنفسهم في استعراض آخر لثقافة المشاهير الهرمية. لكنّ ما حصل بالفعل كان مختلفًا جدًا عن هذا التصوّر الهزلي. قاد متحدّثون كبار فعلًا النصف الأوّل من الاجتماع الذي توِّج بخطاب مثير لجونز، لكنّ نصف الاجتماع الثاني شهد حوارًا ودعمًا بين نشطاء الطبقة العاملة من جميع أنحاء سوفولك وتبادل الخبرات والإستراتيجيات. لم يكن مجلس الشعب مثالًا آخر على اليسار الهرمي؛ بل على كيفية دمج الرأسي والأفقي: يمكن لقوّة الإعلام والكاريزما أن تجذب من لم يسبق لهم حضور اجتماع سياسي إلى الغرفة، حيث يمكنهم التحدّث ووضع الإستراتيجيات مع نشطاء مُخضرمين. كان المناخ معاديًا للعنصرية والتحيّز الجنساني، لكن خاليًا وبشكل منعش من الارتياب والشعور بالذَّنب الذي يُسبِّب الشَّلل ويخيّم على تويتر اليساري كالضّباب اللاذِع الخانِق.
تلى ذلك موضوع راسل براند. لطالما كنت معجبًا ببراند؛ واحد من الكوميديين الشهيرين حاليًا ومن القلّة الآتية من خلفية طبقية عاملة. حدثت على مدى السنوات القليلة الماضية برجزة قاسية وتدريجية للكوميديا التلفزيونية مع المعتوه السخيف مايكل ماكنتاير ورذاذ كئيب من الشخصيات الانتهازية الكيّسة التي سيطرت على المشهد.
شاهدت عرض براند الكوميدي «عقدة المُخلّص» في إبسويتش قبل يوم من بثّ مقابلة براند الشهيرة مع جيريمي باكسمان على برنامج «نيوز نايت». كان العرض مؤيّدًا للهجرة والشيوعية ومعاديًا بشجاعة لرهاب المثلية ومشبَعًا بذكاء الطبقة العاملة بلا هوادة، وكويريًا بالطريقة التي اعتادت أن تكون الثقافة الشعبية عليها (أيْ، لا علاقة له بالورع الهُويّاتي الحامض الذي يدسّه لنا وعّاظ «اليسار» بعد البنيوي). مزيج من مالكولم إكس وتشي والعمل السياسي باعتباره تفكيكًا هلاوسيًّا للواقع القائم: كانت شيوعية «كوول» ومثيرة وبروليتارية عوضًا عن كونها عظة تنظيرية.
أنتج ظهور براند لحظة انقسام بدت جلية في الليلة التالية. اعتبر بعضنا إطاحة براند التشريحية بباسكمان شيئًا مؤثرًا وخارقًا للغاية. لا أذكر آخر مرة منح فيها شخص من خلفية طبقة عاملة فرصة لتدمير شخص «متفوّق» طبقيًا باستخدام الذكاء والعقل. لم يكن هذا جوني روتن يسُبّ بيل جروندي (عمل عدائي أكّد على الصور النمطية الطبقية بدلًا من تحدّيها)، بل فاق براند باكسمان دهاءً، وكان استخدام الفكاهة ما ميّزه عن حموضة الكثير من «اليسار». يجعل براند الناس يشعرون بالرضا عن أنفسهم في حين يتخصّص اليسار الأخلاقي الواعظ بجعل الناس يشعرون بالسوء ولا يفرح حتى تنحني رؤوسهم إحساسًا بالذنب وكراهية الذات.
فطن يسار الوعظ سريعًا إلى أن القضية لم تكن في خرق براند غير العادي للأعراف الساذجة «للمناظرة» في وسائل الإعلام السائدة، ولا في ادّعائه أن الثورة ستقوم (فَهِمَ «اليسار» النرجسي البرجوازي الصغير المتبلِِّد من ذلك الادّعاء أن براند يريد قيادة الثورة، واستجابوا بامْتِعاض نموذجي: «لست بحاجة إلى مشهور متعجرف ليقودني»). كانت القضية الأساسية عند الوعّاظ الأخلاقيين سلوكَ براند الشخصي، وتحديدًا تحيّزه الجنسي. في بيئة اليسار الأخلاقي المكارثي المحموم، تعني الملاحظات التي يمكن تأويلها على أنها متحيزة جنسيًا أن براند متحيز جنسيًا، مما يعني بدوره أنه يكره النساء. قُطِّع براند وجُفِّف وقُضِي عليه وأُدين.
يجب أن يساءَل براند عن سلوكه ولغته كغيره منّا، لكنّ على هذا الاستجواب أن يتم في مناخ من الرفاقية والتضامن، وربما ليس في الفضاء العام في المقام الأول (رغم قيام مهدي حسن باستجواب براند عن التحيّز الجنسي، فإن براند أظهر بالضبط تواضعًا منشرحًا افتقدته تمامًا الوجوه الحجرية لأولئك الذين حكموا عليه). أجاب براند: «لا أظن أنني متحيّز جنسيًا، لكنّي أذكر جدتي؛ أجمل شخص عرفته على الإطلاق، لكنها كانت عنصرية، إلّا إنّني لا أعتقد أنها كانت تدرك ذلك. ربما أعاني من صداع ثمالة ثقافي، لكني أعرف أني أحبّ اللغويات البروليتارية مثل «حبيبتي» و«عصفورتي» كثيرًا، ولذلك، إذا كنتُ في رأي النساء متحيّزًا جنسيًا، فهن في موقع أفضل للحُكم، لذا سأعمل على تصحيح نفسي».
لم يكن تدخّل براند محاولة قيادة، بل مصدر إلهام ودعوة لحمل السلاح. ولقد ألهمني. كنت سأبقى صامتًا قبل بضعة أشهر لأن منظّري اليسار الأنيق أخضعوا براند لمحاكمات كنغر واغتيالات شخصية (مع «أدلّة» تُجمع عادة من الصحافة اليمينية الجاهزة أبدًا لمدّ يد العون) لكن هذه المرة كنت مستعدًا للنزال. أمست الردود على براند بأهمية حواره مع باكسمان. كانت تلك لحظة إيضاحية كما أشارت لورا أولدفيلد فورد، وكانت الطريقة التي قَمع بها الكثير من «اليسار» المُدّعي مسألة الطبقة في السنوات الأخيرة أحد الأمور التي اتّضحت لي.
الوعي الطبقي هشّ وعابر، والبرجوازية الصغيرة المهيمنة على الأكاديميا وصناعة الثقافة تملك كل أنواع الانحرافات الدقيقة والاستباقية التي تمنع ذلك الوعي حتى من الظهور، وحتى إن ظهر، ستجعل المرء يعتقد أن الطرح وقاحة فظيعة وخرق للإتيكيت. أتحدث في فعاليات يسارية معادية للرأسمالية منذ سنوات، لكنّي نادرًا ما تحدّثت (أو طُلب مني الحديث) عن الطبقة في الفضاء العام.
بعد أن عادت الطبقة للظهور، أصبح مستحيلًا عدم رؤيتها في كل ما يتعلق بقضية براند بعد ظهوره مرّة أخرى في الردّ على القضية. بسرعة شديدة، حكم ثلاثة يساريين على الأقل من خرّيجي المدارس الخاصة على براند (أو استجوبوه). قال لنا آخرون إنه لا يمكن لبراند أن يكون منتميًا إلى الطبقة العاملة لأنّه كان مليونيرًا. أصبح عدد «اليساريين» الذين يبدو أنهم متفقين جوهريًا مع سياق سؤال باكسمان أمرًا مقلقًا: «ما الذي يعطي هذا الشخص القادم من الطبقة العاملة سلطة الحديث؟» مقلقٌ اعتقادهم أن على الطبقة العاملة أن تظلّ في حالة من الفقر واللا أهمية والعجز حتى لا تفقد «أصالتها»، بل وأيضًا مؤلم.
شاركني أحدهم منشورًا عن براند على فيسبوك. لا أعرف من كتبه ولا أرغب بتسميته. ما يهمّ أنّ المنشور كان عرضًا لمجموعة من المواقف المتعجرفة والمتعالية التي يبدو أنه يمكن للمرء اعتناقها وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بتصنيف يسار. كانت اللهجة المستخدمة متعالية بشكل مرعب كما لو كان كاتبها مُعلّمًا يصحح واجب طفل أو طبيبًا نفسيًا يُقيّم حالة مريض. براند على ما يبدو «غير مستقر نفسيًا للغاية بشكل واضح… وعلى بعد علاقة سيئة أو سقطة مهنية واحدة من العودة إلى إدمان المخدرات أو أسوأ». رغم ادّعاء الشخص إعجابه ببراند، فربما لم يخطر له أبدًا أنّ هذا النوع من التقييم المتعالي المتسامي بزيف للبرجوازية «اليسارية» هو أحد الأسباب التي قد تجعل براند «غير مستقرّ». هناك أيضًا أمر جانبي صادم لكنه كاشف، حيث يشير هذا الشخص بشكل عَرَضي إلى «تحصيل براند العلمي غير المنتظم والزلّات اللغوية المميزة للمتعلّمين ذاتيًا، والتي عادة ما تستدعي لمزًا»، ثم يضيف هذا الشخص بسخاء: «ليست لدي مشكلة مع ذلك على الإطلاق». كم هذا لطيف! ليست هذه كلمات بيروقراطي استعماري يكتب عن محاولاته في تعليم بعض «السكان الأصليين» اللغة الإنجليزية في القرن التاسع عشر أو مدير مدرسة فيكتوري في مؤسّسة خاصة يَصِفُ صبيًا قُبل للدراسة بمنحة، بل هذه كتابة «يسارية» نشرت قبل بضعة أسابيع.
أين نتجه بعد ذلك؟ من الضرورة قبل كلّ شيء تحديد ملامح الخطابات والرغبات التي وضعتنا في هذا الممرّ الكئيب والمخيّب للآمال الذي اختفى فيه الموضوع الطبقي وحلّت فيه المناقبية* في كلّ مكان، حيث التضامن مستحيل بينما الشعور بالذنب والخوف متفشيان، وليس ذلك لأنّنا نتعرّض لإرهاب اليمين بل لأننا سمحنا لأنماط الذاتية البرجوازية بتلويث حركتنا. هناك برأيي تكوينان خطابيان شهوانيان قادا إلى هذا الوضع. يسمّون أنفسهم يسارًا، إلّا إنهم ومن نواحٍ شتّى –كما أوضحت قضية براند– إشارة إلى أن اليسار المُعرَّف بصفته وكيلًا في صراع طبقي قد اختفى تمامًا.
داخل قلعة مصّاصي الدماء
أسميت التكوين الأول قلعة مصّاصي الدماء. تتخصّص القلعة في إشاعة الشعور بالذنب، مدفوعة برغبة كاهن في الطرد والإدانة، ورغبة الأكاديميين المتحذلقين في أن يُنظر إليهم باعتبارهم أول من يكشف غلطة، ورغبة «هبستر» في أن يحصل على القبول الاجتماعي. يكمن خطر مهاجمة قلعة مصاصي الدماء في أنّ الهجوم قد يبدو موجّهًا أيضًا للنضال ضدّ العنصرية والغيرية الجنسية (وستفعل القلعة ما بوسعها لتعزيز هذه الفكرة)، لكنّها أبعد من أن تكون التعبير الشرعي الوحيد عن هذه الصراعات. أفضل طريقة لفهم القلعة هي كونها تشكل انحرافًا برجوازيًا ليبراليًا واستيلاءً على طاقة تلك النضالات. ولدت قلعة مصّاصي الدماء في اللحظة التي أمسى فيها النضال غير المُعَرَّف بالفئات الهُوياتية مسعىً للحصول على «هُويّات» يَعترف بها برجوازي كبير.
بشكل جزئي، يتكوّن الامتياز الذي أستمتع به بصفتي رجلًا أبيض من عدم إدراكي لعرقي وجنسانيتي، وتنبيهي لتلك النقاط العمياء بين الفينة والأخرى تجرِبة كاشفة ومنبِّهة. لكن عوضًا عن السعي وراء عالم يتحرّر فيه كلّ شخص من التصنيف الهُوياتي؛ تسعى قلعة مصّاصي الدماء إلى إعادة زجّ الناس في معسكرات هُويّاتية، حيث يُعرَّفون إلى الأبد وَفقًا لما تحدّده شروط القوّة المهيمنة؛ يَشلُّهم الوعي الذاتي ويعزلهم منطق التفرّد الذي يصرّ على أنّنا لا نستطيع فهم بعضنا ما لم ننتمِ إلى الهُوية نفسها.
لاحظت وجود آلية إسقاط/ تنصُّل قالبة ورائعة، حيث يعامَل الموضوع الطبقي فورًا وتلقائيًا بمجرد ذكره كما لو إن المرء يحاول التقليل من شأن العِرق والجنسانية. في الواقع، الأمر عكس ذلك تمامًا، إذ توظِّف قلعة مّصاصي الدماء فهمًا ليبرالي الجوهر للعِرق والجنس بغية التعتيم على الموضوع الطبقي. في وقت سابق من هذا العام، لوحظ غياب نقاش الامتياز الطبقي تمامًا عن عواصف تويتر السخيفة والصادمة عن الامتياز. تبقى المهمّة (كما كانت دومًا) هي بلورة الطبقة والجنس والعرق، لكن الخطوة التأسيسية لقلعة مصّاصي الدماء هي خلع الجانب الطبقي من روابطه مع التصنيفات الأخرى.
أُنشئت قلعة مصّاصي الدماء لحلّ المشكلة التالية: كيف تمتلك ثروة وقوّة هائلة وفي الآن ذاته تظهر كضحية ومُهمشًا ومُعارضًا؟ كان الحلّ موجودًا بالفعل، واستُلهم من الكنيسة المسيحية، فلجأت القلعة إلى جميع الإستراتيجيات الجهنّمية والباثولوجيا المظلمة وأدوات التعذيب النفسي التي اخترعتها الكنيسة المسيحية والتي وصفها نيتشه في كتابه «في جينالوجيا الأخلاق». كهنوت الضمير السيّئ هذا وعُشّ مروجي الكراهية التُقاة هو بالضبط ما تنبأ به نيتشه عندما قال إنّ القادم بالفعل سيكون أسوأ من المسيحية. إنّه هنا الآن...
تتغذّى قلعة مصّاصي الدماء على طاقة الطلاب الصغار وقلقهم ونقاط ضعفهم، ولكنّ الأهم من ذلك كلّه أنّها تعتاش من تحويل معاناة مجموعات معيّنة (كلما كانت «هامشية» كان ذلك أفضل) إلى رأس مال أكاديمي. أكثر الشخصيات المُشاد بها في قلعة مصّاصي الدماء هم أولئك الذين يكتشفون سوقًا جديدةً في المعاناة؛ أولئك الذين بإمكانهم العثور على مجموعة تتعرّض لقمع وقهر أكثر من أيّ مجموعة مستغِلّة سابقة تجد نفسها تتسلّق سُلّم المناصب بسرعة كبيرة.
القانون الأوّل لقلعة مصّاصي الدماء: فردنة كلّ شيء وخصخصته. تدّعي القلعة نظريًا تأييدها للنقد البنيوي، إلّا إنّها عمليًا لا تركّز أبدًا على أيّ شيء باستثناء السلوك الفردي. بعض فئات الطبقة العاملة لم تترعرع بشكل جيّد وبإمكانها أن تكون وقحة للغاية أحيانًا. تذكّر: إدانة الأفراد دائمًا أكثر أهمية من الانتباه إلى البُنى غير الشخصية. تنشر الطبقة الحاكمة الفعلية أيديولوجيات الفردانية وتميل في الآن ذاته إلى التصرّف كطبقة (الكثير ممّا نسمّيه «مؤامرات» هو في الواقع إظهار الطبقة الحاكمة للتضامن الطبقي). تفعل قلعة مصّاصي الدماء (بصفتها خادمة الطبقة السائدة) عكس ذلك: تتشدق بالكلام عن «التضامن» و «الروح الجماعية» لكنّها تتصرّف دائمًا كما لو أنّ الفئات الفردية التي تفرضها السلطة ستصمد بالفعل. أعضاء قلعة مصّاصي الدماء في تنافس شديد لأنّهم برجوازيون صغار حتى النخاع، ولكن هذا يُكبت بطريقة عدوانية سلبية معهودة من البرجوازية. ليس التضامن ما يجمعهم معًا، بل خوف متبادل من كونهم التالين على دور الكشف والفضيحة والإدانة.
القانون الثاني لقلعة مصّاصي الدماء: جعل التفكير والفعل يبدوان غاية في الصعوبة. لا يجدر أن تكون هناك خفّة وبالتأكيد لا فكاهة. الفكاهة بتعريفها ليست جادّة، أليس كذلك؟ والفكر عمل شاقّ للأصوات الفاخرة والحواجب المتجعّدة. أَدخِل الريبة حيث توجد الثقة. قل: لا تتسرّعوا، علينا التفكير بعمق أكبر. تذكّروا: امتلاك القناعات أمر قمعي قد يؤدي إلى معسكرات الاعتقال.
القانون الثالث لقلعة مصّاصي الدماء: إشاعة أكبر قدر ممكن من الشعور بالذنب. كلّما ازداد الشعور بالذنب كان ذلك أفضل. على الناس الشعور بالسوء: هذه علامة إدراكهم خطورة الأشياء. لا بأس في أن تكون محظيًا من الناحية الطبقية إذا شعرت بالذنب حيال امتيازك وأشعرت آخرين من طبقة أدنى بالذنب أيضًا، فأنت تقوم ببعض الأعمال الخيرية لصالح الفقراء، أليس كذلك؟
القانون الرابع لقلعة مصّاصي الدماء: التأصيل. في حين تحسب سيولة الهُوية والتعدّدية والكثرة دائمًا لصالح أعضاء القلعة (ويعود ذلك جزئيًا للتغطية على خلفياتهم الثابتة الثرية أو المحظية أو البرجوازية الاستيعابية)، ينبغي تأصيل العدوّ دائمًا. ونظرًا إلى أنّ الرغبات المحفّزة للقلعة في معظمها رغبة الكهّان في الطرد والإدانة، ينبغي وجود تمييز قويّ بين الخير والشر، مع ضرورة تأصيل الأخير. لاحظ التكتيكات. أدلى (س) بملاحظة أو تصرّف بطريقة معينة: يمكن تأويل هذه الملاحظات أو هذا السلوك على أنه ترانسفوبيا أو تحيّز جنسي، إلخ. جيّد حتى الآن. لكن تكمن الإثارة في الخطوة التالية: يُعرَّف (س) بعدها على أنّه متحيّز جنسيًا وترانسفوبيك وما إلى ذلك. تُحدَّد هُوية (س) بالكامل بعد ملحوظة واحدة غير حكيمة أو زلة سلوكية. بمجرد أن تحشد قلعة مصّاصي الدماء لحملة صيد الساحرات، يمكن دفع الضحيّة (الآتية عادة من طبقة عاملة ولم تتعلم إتيكيت السلبية العدوانية البرجوازي) باتّجاه فقدان أعصابها، وضمان موقعها كمنبوذة أو آخر من يؤكل في حملة التهام مسعورة.
القانون الخامس لقلعة مصّاصي الدماء: فكّر كالليبرالي (لأنّك ليبرالي). يتألّف عمل القلعة في إشعالها المستمرّ للغضب التفاعلي من إشارة أبدية إلى الواضح الجلِيّ: يتصرّف رأس المال كرأس مال (ليس ذلك لطيفًا جدًا!) أجهزة الدولة القمعية قمعية. يجب أن نحتجّ!
النيو-أناركية في المملكة المتّحدة
النيو-أناركية هي التكوين الثاني. بالتأكيد لا أعني بالنيو-أناركيين الأناركيين أو النقابيين المنخرطين في التنظيم الفعلي لمواقع العمل كاتّحاد التضامن، بل من يُعرّفون أنفسهم على أنهم أناركيون لكن مشاركتهم السياسية بالكاد تتعدّى الاحتجاجات الطلابية والاحتلالات والتعليق على منشورات تويتر. يأتي النيو-أناركيون عادة من خلفية برجوازية صغيرة، إن لم يكن من مكان أكثر امتيازًا طبقيًا، كقاطني قلعة مصّاصي الدماء.
أغلبهم أيضًا شباب: في العشرينيات من عمرهم أو في أوائل ثلاثينياتهم. يرشد الموقف النيو-أناركي أفق تاريخي ضيّق، إذ لم يختبر النيو-أناركيون سوى الواقعية الرأسمالية. بحلول الوقت الذي حقّق فيه النيو-أناركيون وعيًا سياسيًا (وقد حقّق الكثير منهم ذلك بشكل ملحوظ مؤخرًا، نظرًا لمستوى التبجّح التنمّري الذي يظهرونه في بعض الأحيان)، أصبح حزب العمل قشرة بليرية**، وطبّق نيوليبرالية مع مقدار صغير من العدالة الاجتماعية على الطبق. لكن النيو-أناركية تعكس هذه اللحظة التاريخية دون تفكير بدلًا من تقديم أيّ مخرج، وهذه مشكلتها. إنها تَنسى، أو ربما لا تعرف بالفعل دور حزب العمل في تأميم الصناعات والمرافق الرئيسة وتأسيس الخدمة الصحّية الوطنية. سيؤكد النيو-أناركيون على أنّ «العمل السياسي البرلماني لم يغيّر شيئًا قطّ» أو أن «حزب العمال كان دومًا عديم الفائدة» خلال حضورهم احتجاجات ضدّ هيئة الخدمات الصحية الوطنية، أو إعادة تغريد شكاوٍ عن تفكيك ما تبقى من دولة الرفاهية. توجد قاعدة ضِمنية غريبة هنا: لا بأس من الاحتجاج على ما فعله البرلمان، لكنّ دخوله أو التفاعل مع وسائل الإعلام السائد لمحاولة هندسة تغيير من الداخل ليس أمرًا جيدًا. (برأيهم) ينبغي ازدراء وسائل الإعلام السائدة، ولكن تجب مراقبة برنامج «وقت السؤال» على البي بي سي والتشنج بشأنه على تويتر. تتحوّل النَّقائية إلى قَدَرِيَّة: من الأفضل ألّا أتلوث بفساد التيار السائد بأيّ شكل كان، و«المقاومة» غير المجدية أفضل من المخاطرة بتلويث يديك.
ليس مفاجئًا إذن أن يصاب كثير من النيو-أناركيين بالاكتئاب الذي يعزّزه قلق الدراسات العليا؛ موطن النيو-أناركية الطبيعي. تعثر النيو-أناركية –كقلعة مصّاصي الدماء– على موطنها الطبيعي في الجامعات، وينظِّر لها طلاب الدراسات العليا أو خريجوها الجدد.
ما العمل؟
لماذا برز هذان التكوينان إلى الواجهة؟ السبب الأول سماح الرأسمالية لهم بالازدهار خدمة لمصالحها. أخضعت الرأسمالية الطبقة العاملة المنظّمة عبر تفكيك وعيهم الطبقي وإخضاع النقابات العمالية بشكل شرير وإغواء العائلات الكادحة لتحديد مصالحها الضيّقة والمحدّدة عوضًا عن مصالح الطبقة الأوسع؛ لكن لماذا يقلق رأس المال من «يسار» يستبدل السياسة الطبقية بالفردانية الأخلاقية التي تنشر الخوف وانعدام الأمن بعيدًا عن بناء التضامن؟
السبب الثاني أسمته جودي دين بالرأسمالية الاتّصالية. ربما أمكن تجاهل قلعة مصّاصي الدماء والنيو-أناركيين لولا الفضاء الرقمي الرأسمالي. كان وعظ القلعة التقيّ سمة من سمات جزء من «اليسار» لسنوات عديدة، ولكن، يمكن تجنب عظات هذه الكنيسة إن لم يكن المرء عضوًا فيها. لكنّ وجود وسائل التواصل الاجتماعي يعني أن هذا لم يعد الحال، ولا توجد حماية كافية من الأمراض النفسية التي تنشرها هذه الخطابات.
إذن ما الذي يمكننا فعله الآن؟ رفض الهُوياتية ضروري قبل كلّ شيء، والاعتراف بعدم وجود هُويات بل فقط رغبات ومصالح ولحظات تماهي. كانت مقاومة الهُوياتية الجوهرية جزءًا من أهمية مشروع الدراسات الثقافية البريطانية (كما كشف عنه بقوة تركيب جون أكومفرا الفنّي «المحادثة غير المنتهية» (حاليًا في تيت بريطانيا) وفيلمه «مشروع ستيوارت هول»). بدلًا من تجميد الناس في سلاسل مصنوعة من معادلات قائمة، كانت الفكرة معالجة أيّ صياغة على أنّها مؤقتة وبلاستيكية. يمكن دائمًا إنشاء تعابير جديدة. لا أحد بالأساس أي شيء. للأسف، يتصرّف اليمين بهذا الفهم بفعالية أكبر من اليسار. يَعرِف اليسار الهُوياتي البرجوازي كيف ينشر الشعور بالذنب ويدير عملية مطاردة الساحرات، لكنه لا يعرف كيفية التبشير. لكن ذلك ليس هدفه. ليس الهدف الترويج لموقف يساري أو جذب الناس إليه، بل البقاء في موقع تفوّق نخبوي، ولكن الآن بإضافة تفوّق طبقي يُضاعَف أيضًا بتفوّق أخلاقي. «كيف تجرؤ على الحديث؛ نحن من نتكلم نيابة عمّن يعانون!»
لا يمكن تحقيق رفض الهُوياتية إلّا عبر إعادة التأكيد على الطبقة. يسار لا يضع الموضوع الطبقي في جوهره سيكون فقط مجموعة ضغط ليبرالية. الوعي الطبقي مزدوج دائمًا: فيه معرفة متزامنة بالطريقة التي تشكِّل وتؤطِّر بها الطبقة كلّ تجربة، وأيضًا معرفة بالموقع المحدّد الذي نشغله في البنية الطبقية. علينا تذكّر أن نضالنا لا يهدف إلى نيل اعتراف البرجوازية ولا حتى تدمير البرجوازية نفسها، بل تدمير الهيكل الطبقي الذي يجرح الجميع بمن فيهم المنتفعين مادّيًا منه. مصالح الطبقة العاملة مصالح الجميع؛ مصالح البرجوازية هي مصالح رأس المال، والتي بدورها ليست في صالح أحد. على صراعنا أن يكون لأجل بناء عالم جديد ومثير وليس الحفاظ على هُويات شكّلها وشوّهها رأس المال.
إذا بدت المهمة موحشة وشاقّة فإنّها كذلك، ولكن يمكننا بدء الانخراط في عدة أنشطة تمهيدية. في الواقع، ستتجاوز هذه الأنشطة التخيّل المُسبق، وبإمكانها بدء دورة فعّالة؛ نبوءة تحقق نفسها وتُفكَّك فيها أنماط البرجوازية الذاتية لتبدأ عالمية جديدة بناء نفسها. نحتاج تعلُّم أو إعادة تعلُّم بناء الرفاقية والتضامن عوضًا عن إدانة وإساءة معاملة بعضنا نيابة عن رأس المال. لا يعني ذلك بالتأكيد أنّ علينا أن نكون على وفاق دائمًا، إنّما يعني أنّ علينا خلق أوضاع يمكن فيها لخلافنا أن يحدث دون خوف من إقصاء أو حرمان.
علينا التفكير بكيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل إستراتيجي للغاية، ونتذكر دائمًا أنه وعلى الرغم من المساواتية التي يدعيها (مهندسو الشهوانية الرأسمالية) لوسائل الإعلام الاجتماعية، فإنّها حاليًا منطقة معادية مخصّصة لإعادة إنتاج رأس المال. لكن لا يعني ذلك أنه ليس باستطاعتنا احتلال الميدان وبدء استخدامه لإنتاج الوعي الطبقي. علينا الخروج من «النقاش» الذي أنشأته الرأسمالية الاتصالية الذي يحثّنا على المشاركة الأبدية ونتذكّر أنّنا منخرطون في صراع طبقي. ليس الهدف أن «يكون» المرء «ناشطًا»، بل أن يساعد الطبقة العاملة على تنشيط (وتحويل) نفسها. كلّ شيء ممكن خارج القلعة.
* الأخلاقيات أو الفلسفة الأخلاقية كنظام على المستوى الاجتماعي لا الفردي
** نسبة إلى توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني اﻷسبق