موسوعة الملل | النفس البشرية: مقارنة بين دوستويفسكي وسيلينا جوميز

مقال لأحمد الشربيني

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه

دوستويفسكي
دويستويفسكي وسيلينا جوزميز، التصميم خاص بـ Boring Books

في واحدة من أشهر روايات دوستويفسكي، «الإخوة كارامازوف»، الأديب الروسي بيمارس هوايته المشهورة في رسم شخصيات مركبة جدًا، بتتكون من طبقات معقدة فوق بعض وبتمر بصراعات روحية عنيفة، فبنقابل في الرواية شخصيات زي إيفان كارامازوف الملحد المشغول بمعضلة الشر، وأخوه الصغير أليوشا، المسيحي المتدين المشغول بسؤال الخطيئة، وأخيرًا أخوهم الكبير ديمتري، اللي دوستويفسكي بيعمل له مساحة لاستكشاف الصراع الأزلي بين الخير والشر، كأنه بيحوِّله لرمز للبشرية بشكل عام.

شخصية ديمتري تحديدًا هي اللي تهمنا في المقال دا، مش بس عشان تناقضاتها الحادة، لكن عشان ديمتري كارامازوف بالذات لو كان عايش معانا النهارده كنا هنعتبره شخصية «مريضة» ما ينفعش تبقى رمز للبشرية بأي شكل. ديمتري كارامازوف هو ظابط جيش معتد بذاته جدًا، مغرور وأناني، عنده شعور بالاستحقاق، وحاسس إن الناس التانية (من غير حرق للأحداث) بتحسده على إنجازاته. ديمتري مستغل ومتلاعب في علاقاته الشخصية، وكتير بيكون عنيف وعصبي، وكتير بيكون غير قادر على التعاطف مع الآخرين.

لو قريت الرواية وخدت فكرة كويسة عن شخصية ديمتري، وبعدين جبت الإصدار الخامس والأخير (2013) من «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية» اللي بتصدره الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، وفتحت باب اضطرابات الشخصية، وتحديدًا فصل اضطراب الشخصية النرجسية، هتلاقي إن ديمتري كارامازوف حالة نموذجية للمرض ده، الراجل تقريبًا عنده الأعراض كلها.

تخيل بقى لو كان اضطراب الشخصية النرجسية حاجة معروفة في الوقت اللي دوستويفسكي كتب فيه، بدل الألف صفحة اللي أبطال الرواية بيمروا فيها بتحولات عنيفة ونقاشات مطولة حوالين طبيعة الخير والشر والإله والإنسان، كان ممكن بعد أول فصلين ديمتري يروح لثيرابيست ويبدأ رحلة علاجه، أو يتحجز في مستشفى بعد كام نوبة غضب من اللي بيجوله، ونرتاح من القصة دي كلها.

ساعتها كنا هنفقد واحدة من أهم وأجمل الأعمال الأدبية في التاريخ، لكن مش دي بس المشكلة. المشكلة أعقد شوية من كده. هل اضطراب الشخصية النرجسية ما كانش معروف أيام دوستويفسكي عشان بس الطب ما كانش لسه اتقدم كفاية؟ ولا عشان الاضطراب ده (وغيره) بيوصفوا تجارب تاريخية ما كانتش موجودة أصلًا في عالم دوستويفسكي؟ هل ممكن نختزل أزمات ديمتري كارامازوف «الوجودية» ونعتبرها اضطراب نفسي كان بس محتاج يتعالج؟

هو ده السؤال اللي هنحاول نجاوبه، بس الأول محتاجين نستعين برأي سيلينا جوميز عشان هيساعدنا نفهم المشكلة بشكل أحسن.

المتاهة والتفاحة

شخصيات دوستويفسكي ممكن نشبهها بمتاهة، معظم الوقت ملهاش حل نهائي أو قرار أو مخرج.

سيلينا جوميز بتقدم لنا في أغانيها تصور عن الشخصية مختلف أوي عن التصور اللي بيقدمه دوستويفسكي، فإيه هو التصور ده؟ بدل شخصيات دوستويفسكي المركبة من طبقات كتير فوق بعض، كل ما بتقابل طبقة منهم بتكون اكتشفت حاجة جديدة عن أبطال الرواية، فشخصيات سيلينا جوميز بتتكون من طبقتين بس، طبقة المظهر، وتحتها طبقة الجوهر أو حقيقة الشخصية، وطبقة المظهر عند معظم الناس بتكون كويسة، لكن ده غالبًا عشان تخبي حقيقة الشخصية.

مثلًا في واحدة من أغانيها، سيلينا جوميز بتقول: «في الأول كنت مسكر زي الحلويات/ كلامك كان طعمه جميل/ لكن بالوقت السكر داب/ السكر داب/ بدأت تبقى سخيف/ بدأت تكون شفاف»، والأفكار هنا بديهية أوي لدرجة إنه صعب نبرزها بحيث تبقى واضحة أو تبان «إشكالية»، لإن سيلينا جوميز بتعبر عن خبرة ناس كتير بتمر بيها، اللي هي إنك تتعرف على شخص كويس «من بره» لكن شخصيته الوحشة «من جوه» تظهر بالتدريج، يعني الشخص ده بالأساس بيتكون من طبقتين، واحدة فيهم ظاهرية والتانية هي حقيقة شخصيته.

الفكرة دي على سهولتها وبداهتها، مش موجودة في عالم دوستويفسكي خالص، لأنك في رواية دوستويفسكي لما بتكتشف حاجة جديدة عن شخص، مش بتبقى هي دي الحقيقة اللي ظهرت أخيرًا، بحيث إن اللي كنت تعرفه قبلها يتحول لمجرد مظهر مزيف، لكن بالعكس، لما بتعرف حاجة جديدة بتبقى طبقة جديدة بتتضاف لشخصية مركبة من طبقات وطبقات وطبقات بصورة أحيانًا يبدو إن مالهاش آخر.

لما الشخص يكون متكون من طبقتين بالشكل ده، بيبقى فيه دايمًا علامات ممكن نستدل بيها على حقيقته، العلامات دي ممكن تبقى كويسة أو مقلقة (red flags)، والعلامات المقلقة دي ممكن تبقى موجودة بس احنا نعمل نفسنا مش شايفينها، زي ما سيلينا جوميز بتعمل برضو لما بتقول «شفت العلامات وتجاهلتها/ كل شيء مشوه في عدسات وردية». بالطريقة دي خبرة الحب بتتحول لعملية بحث عن «الشخص الصح»، لكن مش بالمعنى الأفلاطوني بتاع إن كل شخص ليه نصه التاني، وإنما بمعنى البحث عن الشخص المتسق مع نفسه، اللي جوهره الداخلي مش متناقض مع ظاهره.

هنا احنا قدام كذا فكرة مرتبطين كلهم ببعض، الأولى إن شخصية الإنسان مكونة من طبقتين، ظاهر وباطن، والتانية إن الطبقتين دول مالهمش نفس «الحالة الأنطولوجية»، بمعنى إن فيهم طبقة «حقيقية» وطبقة «مزيفة»، والتالتة إن الظاهر بيشف لكن بشكل غير مباشر عن الباطن، بمعنى إنه بيسيب علامات أو أدلة عليه، والرابعة إنه من العلامات دي احنا بنحاول نستدل على حقيقة الشخصية، عشان نقرر إذا كان ينفع تتعاشر أو لأ، وهو دا اللي بيشكل خبرة المواعدة.

عند النقطة دي ممكن نحط الشخصية اللي سيلينا جوميز بتتكلم عنها قدام الشخصيات اللي دوستويفسكي بيكتبها ونلاقي الفرق واضح جدًا. شخصيات دوستويفسكي ممكن نشبهها بمتاهة، معظم الوقت ملهاش حل نهائي أو قرار أو مخرج، مليانة تناقضات وطبقات متراكمة فوق بعض كل واحد فيهم مُضاف للتاني مش بيلغيه، ومليانة قوى بتتنازع مع بعض في ساحة كبيرة ومعقدة. خلينا نسمي دي «نظرية المتاهة» في النفس البشرية، لإنك ببساطة لما بتحاول تتابع بناء الشخصية وارد جدًا تتوه.

في مقابل نظرية المتاهة، سيلينا جوميز بتعبر عن تصور تاني خلينا نسميه «نظرية التفاحة»، وفي التصور دا النفس البشرية أشبه بتفاحة، بتبصلها وتحاول تعرف من بره هل هي كويسة ولا بايظة، لو مثلًا فيها أجزاء مستوية أو مكرمشة أو فيها أخرام، كل دي علامات مش حلوة، ومعناها إنك مفروض تبعد عنها، ما تاكلهاش، والحب في الحالة دي يشبه إنك رايح تشتري تفاح لكن معظم التفاح بايظ، التحدي هو إنك تلاقي تفاحة سليمة.

اللغة والمؤسسات الاجتماعية

الطب النفسي هو كمان بيحط حدود واضحة عشان يشخص على أساسها الشخصية المضطربة، ويميزها عن الشخصية الصحيحة.

الهدف من المقارنة دي مش إني أقول إن نظرية المتاهة أو نظرية التفاحة واحدة فيهم صح والتانية غلط، وإنما إني أوضح إن النظريتين دول أو التصورين دول عن النفس البشرية مرتبطين بأوضاع تاريخية واجتماعية مختلفة تمامًا، وهو ده السبب إننا لو قلنا على ديمتري كارامازوف إنه ببساطة شخص بيعاني من اضطراب الشخصية النرجسية، هنكون ضيعنا جزء كبير جدًا من شخصيته، واختزلناه اختزال غير دقيق. إزاي الكلام دا؟

نظرية التفاحة بتستخدم لفهم الشخصية الإنسانية مجموعة من «المفاهيم الحدية»، بمعنى إن المفاهيم دي بترسم حدود واضحة بين السليم والمريض، بين التفاحة السليمة والفاسدة، وبين مظهر الإنسان وجوهره، وللسبب ده النظرية دي بترجع باستمرار للطب النفسي وتستعير مصطلحاته، لأن الطب النفسي هو كمان بيحط حدود واضحة عشان يشخص على أساسها الشخصية المضطربة، ويميزها عن الشخصية الصحيحة. عشان كده مش غريب إن سيلينا جوميز نفسها ناشطة في مجال التوعية بالصحة النفسية، وكلمات أغانيها كتير بتستعير مفاهيم من المجال ده.

مفاهيم الطب النفسي بشكل عام ليها جذور في مؤسسات معينة، يعني مثلًا مفيش حاجة اسمها شخصية مضطربة لو ما كانش فيه حاجة اسمها مؤسسة تأهيل نفسي، لأن الاضطراب بيفترض إمكانية النبذ أو التأهيل، وبيعكس النوع المحدد ده من الخبرة. «الاضطراب النفسي» مفهوم في لعبة لغوية معينة، وليه معنى دلالي (semantic) محدد، أو معنى وصفي (descriptive)، وهو إن الشخصية معطوبة أو مشوهة بالقياس لشخصية تانية سليمة أو صحيحة، لكن كمان ليه معنى تداولي (pragmatic) أو وصائي (prescriptive)، وهو إن الشخصية دي مفروض تتحط في مؤسسة تأهيل أو تبدأ رحلة علاج.

لو مؤسسة التأهيل مش موجودة في عالمنا الاجتماعي، مش هيكون فيه طريقة نتخيل بيها معنى الاضطراب النفسي، التعبير نفسه هيفقد معناه، لأن مؤسسة التأهيل جزء من المعنى ده، ولأن الاضطراب النفسي هو الحد الفاصل بين انتماء الشخص إلى العالم الاجتماعي الصحيح أو إلى مؤسسة التأهيل. مؤسسة التأهيل هي اللي بترسم خط أو حد بين اللي بيحصل جواها واللي بيحصل براها، وبناءً على الخط ده، مفاهيم تانية بتتبني عشان توضح كل واحد فينا مكانه المفروض يبقى في أنهي ناحية من الخط دا بالتحديد، اللي هو بوابة المؤسسة.

والخلاصة إن كل نظرية من النظريتين اللي عرضناهم دول مشروطة بوجود مؤسسات مختلفة في عالم اجتماعي مختلف. طيب إيه بالظبط شكل العالمين دول؟

الجماعة الراسخة والجماعة المقلقلة

إنك «تقطع علاقتك» بحد، بمعنى إنك تغير رقمك مثلًا أو تعمل لحد بلوك فيختفي من العالم الاجتماعي بتاعك، دي عمرها ما كانت ظاهرة معممة أو إمكانية لمعظم الناس، وطبعًا ما كانتش حاجة متاحة في عالم دوستويفسكي. 

اللغة اللي احنا بنستخدمها في حياتنا الاجتماعية الحديثة، خصوصًا في مجال العلاقات والمواعدة، بتستخدم عدد أوسع بكتير من المفاهيم الحدية اللي بتتجاوز حتى قاموس الطب النفسي، زي مثلًا سام (toxic) أو مؤذي (abusive). المفاهيم الحدية دي مش قايمة على وجود مؤسسة للتأهيل النفسي وإنما على حاجة أوسع انتشارًا بكتير، وهي الحياة الاجتماعية المقلقلة (precarious) للمدينة الحديثة. كلمة مقلقلة بتستخدم في العلوم الاجتماعية للدلالة على طبقة جديدة من العمالة بتتميز بإن مصدر رزقها عمره ما بيكون مستقر، أنا هنا بمد المعنى دا شوية للعلاقات الاجتماعية كمان.

فكر فيها كدا، دوستويفسكي عاش في روسيا القيصرية في القرن الـ 19، في وقت كانت روسيا يا دوب بتبدأ تصنيع، ويا دوب ركبت كام خط سكة حديد، ودا معناه إنها كانت بلد ريفية بالكامل تقريبًا، وكمان إن المدن بتاعتها كانت صغيرة جدًا بمقاييس دلوقتي، وكانت قليلة الكثافة. العالم اللي دوستويفسكي عاش وكتب فيه هو عالم «راسخ» أو ثابت أكتر بكتير من أي حاجة ممكن نتصورها دلوقتي، وهو ده بالظبط العالم اللي انت ممكن تفكر فيه في الشخصية كإنها طبقات جيولوجية بتترسب فوق بعض، لأنك بتحاول تفهم شخصيات راسخة ومستقرة وموجودة بإصرار، ممكن تكرههم، لكن هيفضلوا موجودين، وهيفضلوا سؤال مش بيقبل أي إجابة نهائية أو عناوين بسيطة.

لما العالم اللي انت عايش فيه يبقى أسرع وأكبر وفيه تنقل وتواصل أوسع، الجماعة اللي انت بتنتمي ليها بتبقى متقلبة باستمرار، وفيها دايمًا إمكانية تبديل الأشخاص اللي في حياتك بغيرهم. المدينة الحديثة بتنتج الوضع ده لكن كمان وسائل الاتصال المعاصرة بتضاعفه بصورة جنونية، الناس كلها بتتحرك باستمرار وكلهم قابلين للاستبدال. من الظريف إن الهاجس دا نفسه سيلينا جوميز بتعبر عنه برضه لما بتقول مثلًا: «كنا قريبين قوي، لكن الناس ممكن تمشي/ واللي تعرفهم دلوقتي مش هتبقى عارفهم بعدين»، الحالة دي أصلًا شرط للفهم الحدي للشخصية اللي حاولنا نستخرجه من أغانيها برضه.

إنك «تقطع علاقتك» بحد، بمعنى إنك تغير رقمك مثلًا أو تعمل لحد بلوك فيختفي من العالم الاجتماعي بتاعك، دي عمرها ما كانت ظاهرة معممة أو إمكانية لمعظم الناس، وطبعًا ما كانتش حاجة متاحة في عالم دوستويفسكي. الوضع الجديد ده هو اللي محتاج مفاهيم حدية جديدة، عشان معناها يعكس الخط الفاصل الجديد دا، بين الناس اللي أقدر أخليهم في حياتي وبين الناس اللي بختار إني أقطع علاقتي بيهم، ودا أوبشن سيلينا جوميز بتعبر عنه برضه في أغنية تانية: «هقطع علاقتي بيك/ انت مش في دماغي دلوقتي/ لما بكون بعيد عنك/ مش بفكر كتير/ بكون براحتي/ هقطع علاقتي بيك/ انت بره حياتي دلوقتي/ هقطع علاقتي بيك».

في الحالة دي مفاهيم زي سام ومؤذي بتكون مفيدة وليها معنى واضح، وكذلك كل المفاهيم الحدية اللي بتميز تفاحة سليمة (مرحب بيها جوه حياتي) من تفاحة فاسدة (المفروض تبقى بره حياتي). من غير الخط دا بين «داخل» الحياة الشخصية و«براها» المفاهيم دي برضه مش هتعبر عن حاجة، والخط بين الداخل والخارج ده فجأة بقى موجود بسبب سرعة التنقل وهشاشة التواصل اللي بيميزوا حياتنا الحديثة.

يعني باختصار، انت ممكن تكون فعلًا بتخرج حد من حياتك لإنه «توكسيك»، لكن ده وجه واحد للقصة، لأن العكس كمان صحيح: الشخصية التوكسيك أصلًا بقت موجودة لأنك أخيرًا ممكن تخرج الناس من حياتك بسهولة.

القلقان والنرجسي والتروماتايزد

اليسار نفسه اتبنى لغة الطب النفسي تبني غير مشروط في المساحات الشخصية وفي السياسة.

الكلام اللي فات ده معناه إن «النفس البشرية» اللي هي موضوع دراسة الطب النفسي، دي مش مثال أفلاطوني متعلق كده في الهوا، وإنما أساسًا موضوع تاريخي بيمر بتحولات طول الوقت، والتحولات دي ليها أساس في الواقع الاجتماعي، في نمط حياتنا، وفي المؤسسات اللي بتنظم عيشتنا مع بعض. ولو النفس البشرية كانت مفهوم تاريخي فبالتبعية كتير من مفاهيم الطب النفسي برضو تاريخية، خصوصًا المفاهيم المتعلقة باضطرابات الشخصية اللي بدأنا المقال بالكلام عنها.

في وقت من الأوقات، خصوصًا في الستينات والسبعينات، اليسار كان عنده مشروع نقد راديكالي للطب النفسي، برزت فيه أسامي كتير زي توماس ساس ورونالد ديفيد لاينج وديفيد كوبر وجوزف بيركي، بالإضافة طبعًا للمنظرين المشهورين زي فوكو ودولوز وجاتاري وفانون وغيرهم وغيرهم. عدد كبير من دول كانوا أصلًا ممارسين، سواء أطباء أو أخصائيين نفسيين.

لكن تدريجيًا الطاقة دي فضلت تتضاءل لحد ما بقى الوضع حاليًا معكوس، اليسار بقى قريب جدًا لمؤسسة الطب النفسي لدرجة إن الكلام اللي أنا كاتبه هنا ده ممكن يبقى مُستهجن بالنسبة ليساريين كتير. أسباب ده مختلفة ومالهاش مكان هنا، لكن من أهمها إن اليسار نفسه اتبنى لغة الطب النفسي تبني غير مشروط في المساحات الشخصية وفي السياسة.

بص مثلًا ازاي مفهوم زي «التروما» بقى ثابت من ثوابت الخطاب السياسي اليساري، هتلاقي نفسك بتسمعه عند كل المستويات، من أول نواب الكونجرس التقدميين لحد الناشط المصري العادي، خلاص بقى جزء من اللغة السياسية. نقاد الطب النفسي في الستينات كانوا بيتحركوا في مساحة تقاطع النفسي والسياسي برضو، بس بدوافع نقدية أساسًا، مش بياخدوا مفاهيم الطب النفسي من غير مساءلة ويمدوها للمجال السياسي.

أنا مش بقول إن استعارة المفاهيم دي بالضرورة غلط أو مش مفيد، لكنه بيطرح أسئلة كتير مش هنعرف إجابتها من غير لما نفكر فيها. المقال ده اتكلم عن 3 مساحات مختلفة: الطب النفسي، والعلاقات الشخصية، والخطاب السياسي، وحاول يبين ازاي المجالات دي بتستعير مفاهيم من بعض، زي مثلًا إننا نتكلم عن «النرجسية» أو «التروما» في علاقاتنا الشخصية وفي السياسة، وزي إن الأطباء النفسيين يستخدموا مصطلحات «سام» و«مؤذي» لما بيتحرروا شوية من القيود المنهجية ويوجهوا كلامهم للجمهور. ده مش بس معناه إن المجالات دي بقت مترابطة، لكن كمان إن الدلالات السياسية والاجتماعية للمفاهيم دي بقت جزء أساسي من فهمنا ليها، عشان كدا نقدها السياسي والاجتماعي ضروري بالظبط زي النقد «العلمي» أو الطبي.

جرب مثلًا تبص على تطور مفهوم «التروما» في الدليل الإحصائي من أول إصدار لآخر إصدار، هتلاقيه بيتوسع بشكل منتظم بطول الفترة الممتدة من الخمسينات لحد النهارده. السؤال النقدي هنا هيكون إذا كان خطاب الصحة النفسية بيعلمنا نكون «تروماتايزد»، بمعنى إننا بنتعلم نلاقي أسباب الألم اللي بنمر بيه في حدث مستغلق حصل في الماضي، ونتعلم إن الحل لعلاج حياتنا مش إننا نحصل على أمان مادي واجتماعي في عالم بيسرقهم مننا باستمرار، وإنما إننا «نتعافى» من شيء ما حصل لنا زمان، وهو اللي بيطاردنا ومبوظ علينا حياتنا، حتى لو ما نعرفش هو إيه.

ومن الحاجات التانية اللي ممكن توضحلك ازاي المفاهيم دي مخترقة بالتاريخ ومُسيَّسة وبالتالي لازم تكون موضوع للمساءلة والنقد، إن خطاب الصحة النفسية، خصوصًا في صورته الجماهيرية، بيعمل دايمًا حاجة غريبة شوية، هي إنه بيفترض إن انت صاحب المشكلة لما يكون بيتكلم عن القلق مثلًا، لكن لو بيتكلم عن النرجسية هتلاقيه دايمًا بيفترض إن النرجسي شخص تاني، شريكك، مديرك، حد من أهلك، أي حد تاني غيرك. فليه النرجسي دايمًا شخص تاني؟ وليه اضطراب الشخصية النرجسية مُستثنى من قواعد عدم الوصم والتمييز ضد المرض النفسي؟ وليه كلنا قادرين نتخيل نفسنا في موقع القلقان، ونتخيل الناس اللي حوالينا بس في موقع النرجسي؟

لو انت حاسس إن الأسئلة دي فيها نوع أي من التهديد فده دليل تاني على الطريقة اللي خطاب الطب النفسي اتحول بيها لواحد من بؤر نظام المعرفة-السلطة اللي احنا عايشين تحته، ده السبب إن الأسئلة دي بتظهر إشكالية كده.. لكن مع كده ما اظنش إن الأسئلة دي ممكن تختفي بإننا نعمل نفسنا مش شايفينها. جايز هيكون مفيد لو استعدنا الروح النقدية بتاعة الستينات تاني.