أنت لا تكره يوم الاثنين، بل تكره الرأسمالية!
مقال "الأيام طويلة والسنوات قصيرة" لديفيد هارفي David Harvie و"إذا أردنا أن ننقذ العالم علينا أن نتوقف عن العمل" لديفيد جريبر
* ديفيد هارفي David Harvie: أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة ليستر بإنجلترا، ديفيد جريبر (1961-2020): عالم أنثروبولوجي وناشط سياسي أناركي أمريكي.
ترجمة سارة علاء
الترجمة خاصة بـ Boring Books
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.
الأيام طويلة والسنوات قصيرة
ديفيد هارفي
لقد كنت أنوي كتابة بعض الملاحظات عن العمل منذ فترة لكن.. حسنًا.. يظل العمل يعطلني. تحل الإجازات لكنها تنتهي سريعًا، ثم نعود للعمل. بالاستخدام المتكرر، تعاش الحياة عند الحد اﻷدنى وتبدأ بإيقاع من الحقد. لست وحدي، إنما هو شعور معتاد لأي شخص سبق له الوقوع في فخ العمل المأجور. لكن ربما زادت حدة شعوري بهذا الأمر مؤخرًا، من المرجح أنه نتيجة للتقدم في السن والاقتراب من خط النهاية يكثر التفكير في الموت (ولنتجنب الحديث عن المعاشات).
أتذكر عندما كانت الحواسيب باكورة عصر "وقت الفراغ من العمل"؟ لكن كما ندرك جميعًا حتى النخاع، أننا نقضى عددًا أكبر من الساعات في العمل عن ذي قبل. من السهل أن نفكر في الرأسمالية كنظام اقتصادي مبني على الحاجة في لتوليد الربح، لكن في الحقيقة الأمر أكثر من ذلك، الرأسمالية نوع من الإنتاج يتحكم ويسيطر على الجنس البشري ويجبرنا على العمل سواء أكان مأجورًا أم لا، حرًا أم إجباريًا. بإعادة صياغة السطور الأولى من كتاب رأس المال لكارل ماركس، تظهر ثروات المجتمعات التي يسود فيها النمط الرأسمالي من الإنتاج على هيئة "تجمع هائل من الوظائف". إما أن يكون رأس المال وحش يجب إطعامه أو ربما يمكننا أن نقلب هذا رأسًا على عقب ونفكر في البشر كوحوش يجب ترويض رغبتهم في الحرية والتحكم بها وتوجيهها وإخضاعها.
لكن إن كان العمل يمثل مشكلة، لا يزال تخيل عالم بدون عمل شديد الصعوبة، وهذا جزئيًا.. حسنًا.. سببه العمل. لأنه يشكل حياتنا وأجسادنا ومن نكون، كما أنه يقوض خيالنا. منذ سنوات مضت، أتذكر اجتماعًا بشأن التغير المناخي، وعدد قليل منا يجادل أن رفض العمل يجب أن يكون في صميم المناقشة. كانت هناك مقاومة، وجادل البعض بشغف كبير بأن العمل الذي أدوه في وظائفهم اليومية مفيد اجتماعيًا إلى حد كبير، وهنا تكمن المشكلة، حيث تخلط فكرة "العمل" مجموعة من الأشياء معًا: يوجد العمل والشغل والنشاط اﻹنساني الهادف والأشياء التي نحتاج القيام بها لنبقى على قيد الحياة. وهذا لا يعني أن هذه الأنشطة منفصلة عن بعضها، لكن دوامي الكامل من العمل المأجور عادة يضم الأربعة. وهذه ليست صدفة.
لا يتعلق الفرض المتواصل للعمل بضم البشر لقوة العمال المأجورين من خلال إجبارهم على الانتقال من أرضهم للمدن، ولا يتعلق فقط بجعل الموظفين يعملون لوقت أطول وبكد أكبر، لكن أيضًا يتعلق بالطريقة التي يحاول بها رأس المال سحق النشاط الإنساني بأكمله وتحويله إلى شيء يتبع نمط وضعه العمل المأجور، وما "وقت الفراغ" إلا مثالًا نموذجيًا، حيث أنه يتعلق بالوقت الذي نقضيه بعيدًا عن قيود العمل المأجور. سواء تعمل مدرسًا، أو ممرضًا، أو بنّاءً، فرض وقت الفراغ ليكون طريق هروبك: يصبح عملك هو ما تقوم به لسد احتياجاتك الأساسية وما يتيح لك إشباع رغباتك. تعيش من أجل الإجازة الأسبوعية، لكن كصورة معاكسة للعمل، ليست فكرة "وقت الفراغ" أقل استلابًا. إن فصل "الحاجة" عن "الرغبة" بهذه الطريقة سينتهي دائمًا بعلاقة مختلة مع الواقع. كيف نعيدهم معًا مرةً أخرى بطريقة تجعل يوم الأحد غير مختلف عن يوم الاثنين؟
إذا أردنا أن ننقذ العالم علينا أن نتوقف عن العمل
ديفيد جريبر
إن مجتمعنا مدمن للعمل، وإن كان هناك شيء يبدو أن اليمين واليسار يمكن أن يتفقا عليه معًا، فهو أن الوظائف جيدة، وينبغي على كل شخص أن يحصل على وظيفة، ﻷن العمل وسام المواطنة الخلوقة. ويبدو أننا أقنعنا أنفسنا كمجتمع أن أي شخص لا يعمل بجد كما ينبغي له أن يعمل -حتى لو كان شيئًا لا يستمتع به- فهو شخص سيء وعديم الفائدة. ونتيجة لذلك يمتص العمل جزءًا كبيرًا من طاقتنا ووقتنا.
الكثير من هذا العمل غير مجدي إطلاقًا. توجد دائما صناعات كاملة (على سبيل المثال التسويق الهاتفي، قانون الشركات، الأسهم الخاصة*) وخطوط كاملة من العمل مثل (الإدارة الوسطى** وتخطيط الماركات وكبار مديري المستشفيات والمدارس ومحرري مجلات الشركات) لتوهمنا أن هناك سببًا لوجودها، عمل غير مجدي يزاحم عمل نافع (فكر في المدرسين والمدراء المنهكين بالعمل الورقي)، كما أنه يكاد ما يكون عائده المادي أفضل، وكما رأينا في وقت الحظر، كلما كان عملك مفيدًا للناس قل مقدار ما يُدفع لك.
إن النظام غير منطقي، وهو يدمر الكوكب كذلك. وإذا لم نكف بسرعة عن هذا اﻹدمان سنترك أبناءنا وأحفادنا ليواجهوا كوارث تجعل الجائحة العالمية تبدو تافهة مقارنة بها.
إذا لم يكن هذا واضحًا، فالسبب الرئيسي هو أننا دائمًا مدفوعون للتفكير بالمشكلات المجتمعية باعتبارها أسئلة شخصية أخلاقية. كل هذا العمل وكل هذا الكربون الذي ننفثه في الغلاف الجوي لا بد وأن يكون ناتجًا عن استهلاكنا، لذا لنتوقف عن أكل اللحوم وحلم السفر للشواطئ البعيدة. لكن هذا خاطئ تمامًا. ليست متعتنا السبب في تدمير الكوكب، بل إنه تزمتنا وشعورنا بأننا يجب أن نعاني لنستحق تلك المتع. إذا أردنا أن ننقذ العالم سيتحتم علينا أن نتوقف عن العمل.
تصدر أعمال البنية التحتية سبعين في المئة من انبعاثات الغازات الدفيئة عالميًا: الوقود والمواصلات والبناء، والبقية تأتي معظمها من التصنيع. بينما يشعر سبعة وثلاثون بالمائة من العمال البريطانيين أن وظائفهم غير ضرورية، فلو اختفوا في المستقبل لن يصبح العالم مكانًا أسوأ، قم بالحسبة ببساطة، لو أن هؤلاء العمال على حق يمكننا أن نقلل التغير المناخي بشكل هائل فقط بإلغاء الوظائف الهرائية.
وهذا هو المقترح الأول.
المقترح الثاني: البناء الخرائي. هناك عدد مهول من المباني خاضعة للمضاربة تمامًا، في جميع أنحاء العالم تتواطأ الحكومات مع القطاع المالي لتشييد أبراج لامعة لا تُسكن أبدًا ومكاتب عمل فارغة ومطارات لا تستخدم أبدًا. توقفوا عن هذا، فلن يفتقدهم أحد.
المقترح الثالث: التقادم المخطط. أحد الأسباب الرئيسية لوجود معدلات مرتفعة من الإنتاج هو أننا نصمم كل شيء ليتعطل أو ليبلى ويصبح بلا فائدة خلال سنوات قليلة. إذا صممت آيفونًا ليبلى خلال ثلاث سنوات فيمكنك تحقيق ربح مضاعف خمس مرات مقارنة بتصميمه ليدوم 15 عامًا، لكنك أيضًا تستخدم ضعف الموارد خمس مرات، وتنتج ضعف التلوث خمس مرات. إن المصنعين قادرون بكفاءة على صناعة هواتف (أو جوارب أو مصابيح) لا تبلى. في الحقيقة، إنهم يصنعونها ويطلقون عليها "منتجات على مستوى عسكري"، فلنجبرهم على صناعة تلك المنتجات للجميع. يمكننا بذلك أن نقلل نسبة هائلة من انبعاث الغازات الدفيئة ونحسن من جودة حياتنا.
هذه المقترحات الثلاثة مجرد بداية. وبالتفكير فيهم نجد أنها أشياء بديهية. لماذا ندمر العالم طالما لسنا مضطرين لذلك؟
إذا كانت محاولة الحديث عنها تبدو غير واقعية، ربما يجدر بنا أن نفكر جديًا فيما يجبرنا هذا الواقع -كمجتمع- على سلوكه بطرق مجنونة بالفعل.
* الأسهم الخاصة في الشؤون المالية هي فئة من فئات الأصول التي تتكون من سندات الأسهم في الشركات العاملة التي لم يتم تداول أسهمها في البورصة. الاستثمار في الأسهم الخاصة في معظم الأحيان ينطوي إما على استثمار رأس المال في شركة عاملة أو شراء إحدى الشركات العاملة. ويرتفع رأس المال المعد للأسهم الخاصة من الاستثمار المؤسسي.
** تتكون الإدارة الوسطى في أي طبقة من المشرفين في المؤسسة التي تعمل كحاجز بين الإدارة العليا والعاملين في وظائف غير إدارية.