حياة الطلاب

مقال لفالتر بينامين

ترجمه عن الألمانية إلى الإنجليزية: رودني ليفينجستون. 

ترجمته عن الإنجليزية: لينا الرواس.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


ثمة تصور للتاريخ لا يهتم إلا بالإيقاع، سريعًا كان أم بطيئًا، الذي يمضي به الناس والعهود قدماً على درب التقدم، نتيجة لثقته في لانهائية الزمن. وهذا التصور يتوافق مع غياب الاتساق والدقة والصرامة عن السؤال الذي يطرحه على الحاضر. على النقيض من ذلك، تهتم الملاحظات التالية بظرف معين، يظهر فيه التاريخ مُركَّزًا، كما في نقطة محورية، وهو أمر شوهد منذ زمن بعيد في تصورات المفكرين اليوتوبية.1 لا تتجلى عوامل هذه الظروف النهائية على هيئة نزعات تقدمية لا شكل لها، بل أنها تضرب جذورها عميقًا في كل وقت حاضر على هيئة أكثر منتجات وأفكار العقل الإبداعي عرضةً للخطر والشجب والتهكم. تكمن المهمة التاريخية في إعطاء الشكل لحالة الكمال الكامنة هذه، وجعلها مطلقة ومرئية ومهيمنة في الحاضر. لا يمكن الإحاطة بهذا الظرف عبر الوصف البراجماتي للتفاصيل (المؤسسات والأعراف وما إلى ذلك)؛ فهو في الحقيقة، يروغ عن هذه التفاصيل. وبالأحرى، لا يمكن إدراكه إلا عبر بنيته الميتافيزيقية، كما هو الأمر بالنسبة إلى الوضع المسياني أو فكرة الثورة الفرنسية. وهكذا، فإن الأهمية التاريخية المعاصرة للطلاب وللجامعة، أي شكل وجودهم في الحاضر، لا تستحق الوصف إلا بوصفها مجازًا، بوصفها صورة لحالة ميتافيزيقية سامية من حالات التاريخ. وفي هذه الشروط وحدها، يصبح الوصف مفهومًا وممكنًا. مثل هذا الوصف ليس دعوة إلى رفع السلاح ولا مانيفستو؛ فلو كان كذلك لكان عقيمًا مثلهما؛ بل هو يشير إلى الأزمة التي كانت حتى الآن تكمن في لب الأشياء، والتي تؤدي إلى القرار الذي يستسلم له الجبناء، ويخضع له الشجعان. إن الطريقة الوحيدة للتعامل مع الوضع التاريخي للجسم الطلابي وللجامعة هي عبر النظام في كليته. وبما أن الشروط اللازمة لتحقيق هذا غائبة، لا يبقى أمامنا سوى بديل واحد: وهو تحرير المستقبل من تشوهه في الوقت الحاضر بواسطة المعرفة، وهذه هي غاية النقد الوحيدة. 

السؤال الواجب طرحه هنا، هو ذاك الذي يدور حول الوحدة الواعية الخاصة بالحياة الطلابية. هذه هي نقطة البداية، فلا فائدة من الاهتمام بمشكلات محددة في حياة الطلاب –في العلم أو السياسة أو الأخلاق– إن كانت جرأة الخضوع مفقودة من هذه الحياة. إن ما يميز حياة الطلاب حقًا هو إحجامهم عن الخضوع لمبدأ، وأن تستحوذ عليهم فكرة. يعمل اسم «العلم» أو الانضباط الأكاديمي بالدرجة الأولى على إخفاء شعور مترسخ ومتفش باللامبالاة. ليس من الضروري أن يتضمن قياس حياة الطالب بفكرة العلم أية مثالية –كما يُخشى عادة– إلا أنه يمثل نقدًا مشروعًا، لأن العلم يقدّم عادة على أنه حصن الطلاب في وجه المتطلبات «الخارجية». ومن ثم، ينصب اهتمامنا هنا على الوحدة الداخلية وليس على النقد من الخارج.

وهنا قد يعترض المرء بأن الدراسة الأكاديمية، بالنسبة للغالبية العظمى من الطلاب، لا تعد أكثر من تدريب مهني، لأن «الدراسة الأكاديمية ليس لها أي تأثير على الحياة»، فهي يجب أن تعمل بشكل حصري لرسم حياة أولئك الذين يتابعونها. ومن بين أكثر التحفظات التي يمتلكها الناس افتراءً، بسذاجة، عن العلم، هو افتراض أن الدراسة الأكاديمية ستؤدي إلى مهن متنوعة وللجميع. إلا أن الدراسة الأكاديمية، بعيدة كل البعد عن الإفضاء إلى مهنة، حتى أنها قد تحول دون ذلك في الواقع، لأن العلم بحكم طبيعته لا يسمح لك بالتخلي عنه؛ فهو، بطريقة ما، يضع الطالب تحت واجب أن يصبح معلمًا، ولا يضعه أبدًا تحت واجب أن يعتنق المهن الرسمية للطبيب أو المحامي أو الأستاذ الجامعي. لا خير في السماح لهذه المؤسسات التي تمنح الألقاب والمؤهلات وغيرها من الشروط الأساسية للعيش أو للامتهان، بأن تطلق على نفسها مساحات للتعلم. وما الاعتراض القائل بأن الدولة الحديثة لا يمكنها أن تنتج الأطباء والمحامين والمعلمين الذين تحتاج إليهم بطريقة أخرى سوى أمر غير ذي صلة تمامًا، فهو ليس إلا توضيحًا للحجم الثوري الهائل الذي تقتضيه مهمة إنشاء مجتمع تعلّم، يقف نقيضًا للهيئات المكونة من الموظفين الحكوميين المؤهلين. كما أن هذا الاعتراض يظهر المدى الهائل الذي دُفعت به التخصصات الحديثة، عبر تطور أجهزتها المهنية (من خلال المعرفة والمهارة)، بعيدًا عن أصولها المشتركة لفكرة المعرفة، وهي الأصول التي تحولت إلى لغز، إن لم يكن إلى وهم، بالنسبة لها. أيًا كان من يقبل بالدولة الحديثة كمعطى، ويؤمن بأن كل شيء يجب أن يخدم تطورها، سوف يُجبر على رفض هذه الأفكار. فلا يسع المرء إلا أن يأمل في ألا يطالب مثل هذا الشخص بحماية الدولة وتقديم الدعم من أجل «البحث».

إن الإشارة الحقيقية للانحطاط لا تتمثل في التواطؤ بين الجامعة والدولة (وهو أمر لا يتنافى على الإطلاق مع البربرية الصارخة)، لكن بين النظرية وضمان الحرية الأكاديمية، في حين يفترض الناس في الواقع، وببساطة وحشية، أن الهدف من الدراسة هو توجيه الطلاب إلى فردانية مقبولة اجتماعيًا وإلى خدمة الدولة. لا يمكن لتقبل الآراء والتعاليم، مهما بلغت من الحرية، أن يكون مفيدًا، طالما لا يمكن توفير الحياة التي تأتي بها هذه الأفكار –الأفكار الحرة بقدر تلك الصارمة– وطالما يستطيع الناس أن ينكروا بسذاجة، في وصفهم العلاقة بين الجامعات والدولة، تلك الهوة الفظيعة القائمة بين الأفكار والحياة. ومن المضلل رفع مستوى التوقعات لدى الفرد، إذا كان إنجاز هذه التوقعات يحرم الأفراد من الروح التي توحدهم. إن النقطة الوحيدة الملحوظة والمذهلة التي يجب التأكيد عليها هنا هي الدرجة الكبيرة التي يمكن معها تصوير مؤسسات التعليم العالي على هيئة لعبة غميضة ضخمة، تسعى فيها الهيئتان الجماعيتان لكل من الأساتذة والطلاب، إلى التدافع باستمرار دون أن يرى أيهما الآخر. يبقى الطلاب دومًا في مرتبة أدنى من الأساتذة لأن ليس لديهم أية مرتبة رسمية، والأساس القانوني للجامعة، المُجسد بوزير التعليم المعين من قبل ذي السيادة، وليس الجامعة، هو أشبه بالتحالف المقنع بين السلطات الأكاديمية وأجهزة الدولة؛ وهو توافق يتخذ مكانه فوق رؤوس الطلاب (وفي حالات نادرة ومرحب بها، فوق رؤوس الأساتذة أيضًا). 

يعدّ الإذعان الضعيف والمتساهل في هذه الحالة السمة الأساسية للحياة الطلابية. صحيح أن ما يسمى بالمنظمات الطلابية المستقلة، هي وغيرها من تلك المنظمات ذات التوجه الاجتماعي من نوع ما، حاولت حل هذه المشكلة،2 بيد أن محاولاتهم في نهاية المطاف، كانت تتطلع إلى إلحاق المؤسسات الأكاديمية بالنماذج البرجوازية كليًا، ما يوضح بشكل أكبر أن طلاب اليوم، بصفتهم مجتمعًا، غير قادرين حتى على صياغة سؤال الحياة الدراسية، حياة التعلم، أو إدراك موقفها الصلب ضد المطالب المهنية للعصر. من الضروري انتقاد المنظمات الطلابية المستقلة وأفكار أولئك المقربين منها، لأن ذلك سيوضّح مفهومها الفوضوي عن الحياة الأكاديمية. تحقيقًا لهذه الغاية، سأقتبس من خطاب ألقيته على جمهور من الطلاب آملًا المساهمة في التجديد:3

«هناك معيار بسيط جدًا وموثوق فيه، يمكن عبره اختبار القيمة الروحية للمجتمع، وهو أن نسأل: هل يجد الشخص المنتج تعبيرًا عن كامل جهوده ضمن الجماعة؟ هل يلتزم الإنسان بكامله بالجماعة ولا يستغني عنها؟ أم أن الجماعة هي أمر غير ضروري لكل فرد بقدر ما هذا الأخير غير ضروري لها؟ من السهل جدًا طرح هذه الأسئلة، كما من السهل الإجابة عنها بالإشارة إلى الأنماط المعاصرة للجماعة، وهذه الإجابة حاسمة. يسعى كل من يحقق الإنجاز إلى الكليّة، وفيها بالتحديد تكمن قيمة إنجازه، في الحقيقة القائلة بأن عليه أن يُعبّر عن الطبيعة الكليّة غير المجزأة للإنسان في إنجازه. لكن عندما تحدد مجتمعنا هذا الأخير، كما نرى اليوم، فإنه لا يعبّر عن أية كليّة؛ بل عما هو مجزأ ومتشظٍ تمامًا. ليس من النادر أن تكون الجماعة مقرًا لشن صراع مشترك ومستتر ضد الطموحات الأسمى والأهداف الفردية، في حين يُحجب التطور الأعمق فيها. يؤدي الإنجاز ذو الصلة الاجتماعية للشخص العادي، وفي الغالبية العظمى من الحالات، إلى قمع التطلعات الأصيلة والمتفردة للإنسان المتعين. نحن نتحدث هنا عن أشخاص مدربين أكاديميًا، يملكون لأسباب مهنية نوعًا من الارتباط الذاتي مع الصراعات الروحية، والمواقف المتشككة والنقدية للطلاب. يستولي هؤلاء الناس على بيئة غريبة تمامًا عنهم، ويجعلونها مكان عملهم؛ وفي هذا المعسكر البعيد، يبتدعون نشاطًا محدودًا لأنفسهم.

تتمثل كلية هذا العمل في تحقيق مصالح مجتمع يدركونه بشكل نظري في الغالب. لا يوجد أي روابط حقيقية أو داخلية بين الوجود الروحي للطالب، واهتمامه برعاية أطفال العمال مثلًا أو حتى الطلاب الآخرين. لا وجود لأي رابط، بعبارة أخرى، باستثناء مفهوم الواجب غير المرتبط بعمله الخاص والأكثر ذاتية، وهو المفهوم المبني على أساس الانفصال الآلي، فالطالب يحصل من ناحية على إعانة مالية من الناس؛ ومن ناحية أخرى، يؤدي عملًا للمجتمع. يتم هنا افتعال مفهوم الواجب ونسخه وتشويهه؛ وبهذا، هو لا ينبع عن العمل نفسه. كما أنه لا ينفذ عبر المعاناة في سبيل الحقيقة، ولا عبر تحمل كل الشكوك الصادرة عن الباحث، ولا يرتبط على الإطلاق بالحياة الروحية للشخص. بل على العكس، ينفذ الواجب عبر التناقضات الفجة والسطحية؛ المضاهية لتلك التي نجدها بين المثالية والمادية، أو النظرية والممارسة. وباختصار، لا يمثل العمل المجتمعي تكثيفًا أخلاقيًا، وإنما رد الفعل الخجول للحياة الروحية فقط. لكن مع ذلك، لا يعبّر الاعتراض الأعمق والأكثر أهمية عن أن مثل هذا العمل المجتمعي يظل عائمًا، ومتعارضًا، بشكل نظري، مع الأنشطة الحقيقية للطلاب، فيكوّن شكلًا متطرفًا وشائنًا تمامًا من النسبية، وهو شكل غير قادر على اصطناع الحياة، ويسعى بشكل أنيق إلى ضمان أن يُصاحب كل ما هو روحي، بما هو جسدي، وكل أطروحة بنقيضها؛ إذن، لا يتمثل العامل الحاسم في أن مثل هذا العمل ليس إلا فائدة عامة فارغة، فما هو حاسم بحق هو أنه، بالرغم من كل هذا، يطالب ببوادر وممارسات الحب، حيث يتواجد الواجب الآلي فحسب، وهذا الأخير لا يتجاوز غالبًا كونه أكثر من إزاغة للهدف، وتهرب من تبعات الوجود الفكري والنقدي الذي يلتزم به الطلاب.

ففي الحقيقة، الطالب هو طالب لمجرد أن مشاكل الحياة الروحية هي أقرب إلى قلبه من ممارسة الرعاية الاجتماعية. أخيرًا –وهذه علامة لا شك فيها– لا يُحدث العمل المجتمعي للطلاب تجديدًا على مفهوم العمل المجتمعي وقيمته بشكل عام، فلا يزال مثل هذا العمل يبدو للرأي العام كخليط غريب بين الواجب والإحسان النابع عن الأفراد، إذ لم يتمكن الطلاب من تبيان ضرورته الروحية، ولهذا السبب، لم يتمكنوا أبدًا من إنشاء مجتمع جاد بحق مبني على أساسه، بخلاف ذلك الذي يتحمس للواجب المرتبط بمصلحته الشخصية. إنها الروح التولستوية التي كشفت عن الهوة الهائلة بين الوجود البرجوازي والبروليتاري؛ وعن أن مفهوم خدمة الفقراء هو مهمة البشرية بأكملها، وليس نشاطًا طلابيًا لملء أوقات الفراغ. يستدعي هذا المفهوم هنا، وهنا تحديدًا، كل شيء أو لا شيء على الإطلاق، هذه الروح التي تجذرت في أفكار أكثر الأناركيين إلتزامًا، وفي أنظمة الرهبنة المسيحية، روح العمل المجتمعي الجادة بحق هذه، والتي لم تكن بحاجة إلى أية محاولات طفولية للتعاطف مع أرواح العمال أو الشعب، هي الروح ذاتها التي فشلت في التطور ضمن المجتمعات الطلابية.4 لقد تعثرت محاولة تنظيم إرادة المجتمع الأكاديمي على هيئة مؤسسة اجتماعية للعمل بسبب الطبيعة المجردة لأغراضها وتفككها. لم تتمكن الإرادة الكلية [des Wollenden] من العثور على أي تعبير عنها، لأنه في مجتمع كهذا لا يمكن توجيه الإرادة نحو الكليّة».

تكمن أهمية محاولات الطلاب المستقلين، بمن فيهم من المسيحيين الاشتراكيين وكثير غيرهم، في أنهم عبر رغبتهم بإظهار فائدتهم للدولة وللحياة، فإنهم يعيدون، وبصورة مصغرة في الجامعة، تمثيل الصراع ذاته الذي لاحظناه سابقًا في العلاقة بين الجامعة والدولة. لقد أمنوا في الجامعة ملاذًا لممارسة حب الذات والغير من كل نوع تقريبًا، ولكل استنتاج بائد في العالم بأسره. لا يستبعد من هذا المكان إلا الشكوك الجذرية، والنقد الجوهري، علاوة على أهم شيء على الإطلاق؛ ألا وهو الحياة المستعدة لتكريس نفسها من أجل إعادة بنائها. ما نراه هنا ليس هو الروح المتقدمة للطلاب المستقلين مقابل القوة الرجعية للأخويات المتنافسة فيما بينها. كما حاولنا أن نبين سابقًا، إضافة لما نلاحظه من تماثل نمطي وسلبية تتسم بهما الجامعات ككل، فإن المنظمات الطلابية المستقلة ذاتها بعيدة كل البعد عن امتلاك إرادة روحية مدروسة بعناية، إذ لم يعلو صوتهم في أية من القضايا التي أثيرت هنا، فترددهم يجعل صوتهم غير مسموع، ومعارضتهم تنطلق على المسارات اللينة للسياسات الليبرالية؛ ذلك أن مبادئهم الاجتماعية لم تتطور لتتجاوز مستوى الصحافة الليبرالية. لم يفكر الطلاب المستقلون في المشكلة الحقيقية للجامعة. ولذلك، فإن العدالة التاريخية مريرة إلى درجة أن الأخويات المتنافسة، التي اختبرت وواجهت في السابق مشكلة المجتمع الأكاديمي، تظهر الآن كممثل رديء عن تقاليد الطلاب في المناسبات الرسمية. لم يتحل الطالب المستقل أمام القضايا الجوهرية بإرادة أكثر جدية أو شجاعة أعظم من تلك الموجودة لدى الأخويات، كما أن تأثيره كان أكثر ضررًا، فهو أكثر خداعًا وتضليلًا، ولهذا تدّعي هذه الحركة البرجوازية، محدودة الأفق، وغير المنضبطة، دور البطل والمحرر في حياة الجامعة. لا يمكن العثور على الجسم الطلابي المعاصر في الأماكن التي تندلع فيها النزاعات حول النهضة الروحية للأمة –أو في حلبة صراعها حول الفن الجديد– أو إلى جانب كتّاب هذا الفن وشعرائه، أو حتى في منابع الحياة الدينية، ليس لأنه يرفض الانضمام إلى أحدث الحركات «المعاصرة»، بل لأنه، كجسم طلابي، لا يدرك تمامًا كل هذه الحركات في عمقها، وينجرف دومًا في أعقاب التيار الشائع؛ إذ تتودد إليه كل الأحزاب والاتحادات وتفسده، إنه الطفل الذي يمتدحه الجميع، لأنه بمعنى ما ينتمي إلى الجميع، بينما يبقى خاليًا في كل مجال من النبالة التي أعطت الطلاب الألمانيين مظهرًا بارزًا لقرن مضى ومكّنتهم من المضي قدمًا في أماكن مرموقة كأبطال لحياة أفضل.

إن انحراف الروح الخلاقة نحو الروح المهنية، تلك التي نراها قيد العمل بشكل يومي، قد استحوذ على الجامعات ككل وعزلها عن الحياة غير الرسمية والخلّاقة للعقل. وليس ازدراء المثقف النخبوي لأنشطة الباحثين والفنانين المستقلين، الذين هم منبوذون، وفي الغالب معادون للدولة، إلا دليل مؤلم على ذلك. وقد أشار أحد أشهر أساتذة الجامعات الألمانية في محاضرة له إلى «أدباء المقاهي الذين يعتبرون أن المسيحية انتهت». تتماشى نغمة هذا التصريح تمامًا مع صحته. وإذا كانت الجامعة المنظمة بهذا الشكل تعمل ضد الدراسة الأكاديمية، والتي على الأقل تتظاهر بالصلة المباشرة مع الدولة عبر «قابلية التطبيق»، فكم سيبلغ موقفها من العداء الصريح تجاه الإلهام؟ ستغفل الجامعة حتمًا عن دور الإبداع المباشر كشكل من أشكال المجتمع، طالما أنها توجّه الطلاب نحو المهن.

في الواقع، يمكن تفسير اغتراب الأكاديمية العدائي وغير المفهوم عن الحياة التي يتطلبها الفن على أنه رفض لأي إبداع مباشر لا يرتبط بالصفة الرسمية. وهذا ما يؤكده تمامًا عدم نضوج الطلاب ومواقفهم الصبيانية. لا شك أن الجانب الأكثر إثارة للصدمة والألم في الجامعة، من وجهة نظر حسية جمالية، هو رد فعل الطلاب الآلي أثناء استماعهم إلى المحاضرة. وحدها ثقافة المحادثة الأكاديمية الخالصة أو السُّفسطائية، هي التي يمكنها أن تخلق هذا المستوى من الانفتاح. وبالطبع، فإن الندوات تبعد كثيرًا عن هذا المبتغى؛ ذلك لأنها تعتمد أيضًا بشكل أساسي على قالب المحاضرة، والفارق ضئيل جدًا فيمن يتحدث سواء كان من الأساتذة أو الطلاب. توقفت هيئة الجامعة عن الاعتماد على إنتاجية طلابها، خلافًا لما ظنه مؤسسوها الذين نظروا إلى الطلاب على أنهم معلمون ومتعلمون في ذات الوقت. لقد نظروا إليهم كمعلمين؛ لأن الإنتاجية تعني الاستقلالية التامة، وإيلاء الاهتمام للمعرفة، وليس للأستاذ.

لكن التعلم الحقيقي ينعدم في الحالات التي تكون فيها أفكار المكاتب والمهن هي التي تتحكم بحياة الطلاب. ولا يمكن بعدها أن يكون هنالك أي شك بوجود إخلاص لشكل من أشكال المعرفة، الذي يُخشى عادةً أن يؤدي إلى تضليل الطلاب عن طريق الأمان البرجوازي، وكذلك لا يمكن أن يكون هناك إخلاص للتعلم أو تفاني في حياة المرء للجيل الأصغر. إلا أن مهنة التعليم، وإن كانت تختلف تمامًا عن تلك الموجودة اليوم، هي أمر ضروري لصوغ أي مفهوم أصيل عن التعلم. إن مثل هذا الإخلاص الخطير للتعلم وللشباب يجب أن يتواجد أصلًا داخل الطالب بصورة القدرة على الحب، ويجب عليه أن يكون الجذر لإبداعه. من ناحية أخرى، تقتفي حياة الطالب أثر قطار الأجيال الأكبر سنًا؛ فهو يحصّل التعلم من أستاذه، دون أن يتبعه إلى مهنته، وبقلب مرتاح، يستنكر المجتمع الذي يلزمه بالمبدعين، ويستمد شكله العام حصرًا من الفلسفة.

يجب على الطالب أن يكون خالقًا وفيلسوفًا ومعلمًا في آن معًا، وهذا جزء من طبيعته الجوهرية والحاسمة. إن كلًا من مهنته وحياته سوف تتحددان وفقًا لهذا الأساس، فمجتمع المبدعين يرفع كل مجال من مجالات الدراسة إلى مستوى العالمية على هيئة الفلسفة. ومثل هذه العالمية، لا تتحقق عبر محاصرة المحامين بالأسئلة الأدبية، أو الأطباء بتلك القانونية (وهو أمر حاولت جماعات مختلفة من الطلاب فعله). فهي لا تُحقق إلا إذا كان المجتمع يضمن بجهوده الخاصة أنه قبل كل تلك التخصصات الدراسية (التي لا يمكن أن تتواجد دون أن تُرجع إلى مهنة ما) وفوق كل أنشطة المدارس المهنية، سيكون هو نفسه، مجتمع الجامعة بحد ذاته، السلف والحارس للشكل الفلسفي، الذي لا يكمن في المشكلات التي يطرحها الانضباط العلمي المحدود للفلسفة، لكن في الأسئلة الميتافيزيقية لأفلاطون وسبينوزا والرومانسيين ونيتشه. من شأن أمر كهذا، على عكس الجولات في مؤسسات الرعاية الاجتماعية، أن يدل على الصلة الأوثق بين المهنة والحياة، لكنها حياة أعمق بالضرورة، كما أنه سيمنع التصلب في الدراسة، وانحطاطها إلى مستوى التكديس المعرفي.

على الهيئة الطلابية أن تطوق الجامعة، كما تحيط عامة الناس بقصر أمير كموجات من غير ذي شكل، الأمر الذي سينشر سبل المعرفة الحالية، جنبًا إلى جنب مع المحاولات الحذرة والجريئة، ومع ذلك الدقيقة نحو السبل الجديدة؛ ويشكل موقعًا للثورة الروحية الدائمة، حيث سيتم منذ الوهلة الأولى احتضان الأساليب الجديدة للسؤال، والتي ستكون أبعد متناولًا، وأقل وضوحًا ودقة، لكنها تنطلق في بعض الأحيان من حدس أعمق مما هو عليه في الأسئلة العلمية. يمكن عندها اعتبار الجسم الطلابي، بفعاليته الإبداعية، كمحول عظيم، مهمته هي الاستفادة من الأفكار الجديدة التي تبرز عمومًا في الفن وفي الحياة الاجتماعية قبل بروزها في العلم، وتحويلها وفقًا لمنهجها الفلسفي إلى أسئلة علمية. 

إن الهيمنة الخفية لفكرة المهنة ليست الأكثر مكرًا من بين تلك التشوهات التي يكمن تأثيرها المروع في أنها جميعها تستهدف لب الحياة الإبداعية، فهنالك مفهوم مبتذل للحياة يتاجر بالروح مقابل بدائل متنوعة، وهو ينجح أكثر من أي وقت مضى في إخفاء أخطار الحياة الروحية، وفي تسخيف أصحاب الرؤى، القلة، عبر وصفهم بالحالمين الرومانسيين. على مستوى أعمق، تشوه التقاليد الإيروتيكية الحياة اللاواعية للطلاب، تمامًا مثلما تقيد الأيديولوجيا المهنية للوظيفة الوعي الفكري، كما لو كان ذلك الشيء الأكثر طبيعية في العالم. لذا، يثقل مفهوم الزواج، وفكرة العائلة، كاهل إيروس بقوة اتفاقية غامضة. ويبدو أن الإيروس قد اختفى من عصر يمتد، فارغًا وغير محدد، بين كون أحدهم الابن في أسرة، وكونه الأب لأسرة أخرى. لا يمكن طرح أسئلة حول ما قد يوحد الوجود بين من يولّد ومن يولد، وعما إذا كان من الممكن إيجاد هذه الوحدة في الأسرة، طالما أن هنالك توقع ضمني للزواج، وأكثر ما يمكن للمرء أن يقوم به إزاء الفاصل غير الشرعي هو نصب الحواجز أمام الإغراءات. يجب أن يكون إيروس المبدعين، لدى أي مجتمع في وضع يسمح له بتقديره والكفاح من أجله، حتمًا من الطلاب. لكن حتى عندما كانت كل الظروف الخارجية للحياة البرجوازية غائبة، ولم يكن هناك أي احتمال لتأسيس وضع برجوازي، ألا وهو العائلة؛ وحتى عندما كان هنالك، كما في العديد من المدن الأوروبية، تجمع متعدد الأفرع للنساء اللاتي تعتمد حياتهن الاقتصادية بأكملها على الطلاب (من خلال الدعارة)، حتى في مثل هذه الأماكن، فشل الطالب في طرح سؤال عن الإيروس الملائم له. من المؤكد أنه تساءل عما إذا كان يجب على الإنجاب والخلق، في حالته الخاصة، أن يظلا منفصلين عن بعضهما، وعما إذا كان ينبغي تطبيق الأول على العائلة والآخر على المهنة، وعما إذا كان أي منهما، بما أن كليهما مشوه بفعل هذا الفصل، سينسل إلى شكل وجود خاص به.

وعلى الرغم من أن طرح الطلاب المعاصرون لهذا سؤال قد يكون مؤلمًا ومهينًا، إلا أنه لا يمكن اجتنابه، إذ تفرض طبيعتهم أن يرتبط داخلهم هذان القطبان للوجود الإنساني ارتباطًا زمنيًا وثيقًا. نحن نواجه سؤالًا مفاده أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يُترك دون حل، وهو أمر لم يبرع به أي شعب، من حيث المبدأ، منذ أيام الإغريق والمسيحيين الأوائل. لطالما كان السؤال يثقل كاهل العقول المبدعة العظيمة. كيف يمكن لهم أن ينصفوا صورة الجنس البشري، وأن يرعوا مجتمعًا يتخلله النساء والأطفال، الذين تكون إنتاجيتهم من نوع مختلف؟ لقد حل الإغريقيون المشكلة، كما نعرف، بالقوة. إذ أخضعوا إيروس الإنجاب إلى الإيروس الخلّاق، بحيث تسبب استبعادهم على المدى الطويل للنساء والأطفال من حياة الدولة بانهيارها. قدم المسيحيون الحلول الممكنة من أجل مدينة الله (civitas dei)، فنبذوا الوجود المنفصل في أي شأن. إلا أن أكثر الطلاب تقدمية لم يذهب أبعد من الحديث المجمّل الذي لا نهاية له عن الزمالة مع الطالبات النساء؛ إنهم لا يكلون عن الأمل في «التثبيط الصحي للإيروتيكية لدى كل من الرجال والنساء».

في الواقع، تم تثبيط الإيروتيكية في الجامعات بمساعدة من العاهرات، وحين أخفقن، تم استبدالهن بالمسالمة المفرطة. لقد رُحب بصخب بهذه البهجة الغامرة، وبالطالبة الشابة الخالية من الطابع الأنثوي، كخليفة للمدرّسة العجوز العانس القبيحة. من الصعب مقاومة الملاحظة العامة هنا بأنه لدى الكنيسة الكاثوليكية غريزة أكثر حيوية، رغم اتسامها بالجبن، تجاه القوة والحاجة إلى الإيروس، من تلك الغريزة الموجودة لدى البرجوازية. تبقى المهمة العظمى مدفونة في الجامعة، دون أي حل، وبإنكار تام. وهي مهمة أكبر من تلك المهمات الكثيرة التي تثير حماسة المجتمع، ألا وهي: الانطلاق من الحياة الروحية لإعادة تجميع ما نواجهه، بأسى، من تشوه وتشظ بين الاستقلال الثقافي للإبداع (في الأخويات)، والقوى الطبيعية الخارجة عن السيطرة (في الدعارة)، في جذع واحد لروح إيروسية موحدة. إن الاستقلال الضروري للإبداع والدمج الضروري للمرأة غير المنتجة، وفق المنظور الذكوري، في مجتمع واحد من المبدعين عبر الحب، يشكلان مهمة التكوين التي يجب أن يُطالب بها الطلاب بشكل عفوي، لأنها تشكل نمط حياتهم. لكن هذه الاتفاقية القاتلة، تهيمن على الطلاب الذين لم يأتوا حتى على الاعتراف بذنبهم في مسألة الدعارة، وخيّل إلى الناس أنه يمكن إيقاف هذا الخراب الهائل والمجدف عبر التضرع إلى العفة، لأنهم افتقروا، مرة أخرى، إلى الجرأة لفتح عيونهم على الإيروس الأكثر جمالًا وحقيقة. إن مسألة تشويه الشباب هذه، هي مسألة أعمق من أن نبدد عليها كلمات كثيرة، لذا ينبغي إيلاءها إلى وعي المفكرين، وقرارات الشجعان، إذ لا يمكن التوصل إليها عبر الجدل. 

كيف ينظر الجيل الأصغر، الذي يسمح بمثل هذا التعتيم على فكرته الخاصة، والتزييف لمضامين حياته، إلى نفسه؟ وما هي الصورة التي يرسمها في أعماقه عنها؟ تحمل هذه الصورة طابع الأخويات، التي لا زالت تقدم التجسيد الأوضح للمفهوم الطلابي عن الشباب، وفيها تلقي المنظمات الطلابية الأخرى، بقيادة الطلاب المستقلين، بشعاراتها الاجتماعية. إن لدى الطلاب الألمان هاجس، تتفاوت درجته، للاستمتاع بشبابهم، إذ كان لا بد من إعطاء نوع من المحتوى لتلك المرحلة غير المنطقية من الانتظار ريثما يتوظفون ويتزوجون، وكان يجب على تلك المرحلة أن تكون مرحة، ورومانسية، ولو بزيف، حتى تساعدهم على تمرير الوقت. تربط وصمة عار فظيعة بين أغنية الطلاب المفرطة في مرحها «Gaudeamus igitur»، والصعود الجديد للأخويات الطلابية. تمثل هذه الأغنية الخوف من المستقبل، وكذلك الميثاق المطمئن مع التحفظ الذي لا مفر منه، المتمثل في حب المرء أن يتخيل نفسه بإعجاب على صورة «الفتيان القدامى»5، لأنه باع روحه، وكذلك زواجه ومهنته، للبرجوازية، بسبب إصراره على السنوات القليلة من الحرية البرجوازية.

لقد وُقعت هذه المقايضة باسم الشباب. وسواء كان ذلك سرًا أم علنًا، في حانة أو وسط الخطابات المدوية في اجتماعات الطلاب، حُفظ السم الذي تم شراؤه باهظًا، ولا شيء يوجد يؤرقه. وبين وعي الشباب المتبدد، وتخاذل كبار السن الذين يتوقون إلى الهدوء والسلام، أخفقت المحاولات لبث الروح في حياة الطلاب نهاية المطاف. لكن كما يسخر أسلوب الحياة هذا من كل حقائق الواقع، فإنه يُعاقب بواسطة كل القوى الروحية والطبيعية؛ بالعلم عبر جهاز الدولة، وبالإيروس عبر الدعارة، وبالتالي، فأنه يُعاقب بشكل مدمر من قبل الطبيعة أيضًا. لا يشكل الطلاب الجيل الأصغر؛ بل هم الجيل الذي يتقدم سنًا. إن الاعتراف بمستهل العمر يتطلب قرارًا بطوليًا من قبل أولئك الذين فقدوا سنوات شبابهم في الجامعات الألمانية، والذين بدا لهم أن دراستهم الجامعية أتاحت لهم أخيرًا الحياة الشبابية التي انسلت من بين أصابعهم سنة بعد سنة. مع ذلك، ما هو مهم بالنسبة لهؤلاء هو إدراك أن عليهم أن يكونوا مبدعين؛ وبالتالي منعزلين ومتقدمين سنًا، وأنهم بالفعل في وسط جيل يعج بالأطفال والشباب الذين يمكنهم أن يكرسوا أنفسهم لهم كأساتذة فقط. يولّد هذا الأمر داخلهم أكثر المشاعر غرابة. ولهذا يفشلون في إيجاد أنفسهم ضمن وجودهم الخاص، ويكونون غير مهيئين منذ البداية للعيش مع الأطفال –لأن هذا هو ما يقتضيه التدريس– فهم لم يصلوا في أي وقت من الأوقات إلى فلك العزلة، وبرفضهم الاعتراف بأعمارهم هم يبددون وقتهم.

إن الشرط الوحيد للإبداع هو التوق المعترف به إلى الطفولة الجميلة والشباب القيّم، والذي بدونه، وبدون «رثاء العظمة المفقودة»6، لن يكون تجديد حيواتهم أمرًا ممكنًا. إن الخوف من العزلة هو المسؤول عن إيروتيكيتهم المستهترة؛ إنه خوف من الاستسلام. وهم يقيسون أنفسهم بآبائهم، وليس بخلفائهم، وبهذا ينقذون مظاهر شبابهم. كما تخلو صداقتهم من العظمة، ومن العزلة، فلا مكان في حياة الطلاب الجامعيين للصداقة الواسعة التي لدى المبدعين، والتي تمتد نحو اللانهاية، وتهتم بالإنسانية جمعاء حتى عندما تكون بين اثنين فقط، أو بين الواحد منهما وتوقه، إذ يحل محلها التآخي الذي يكون محدودًا وجامحًا في آن معًا. ويبقى الأمر على هذه الحال سواء أكان الطلاب يشربون في حانة أم يؤسسون المجتمعات في المقاهي. كل هذه المؤسسات الطلابية هي مجرد سوق تجاري لما هو مؤقت. كالنشاط الصاخب في قاعات المحاضرات وفي المقاهي؛ هم ببساطة هناك لملء وقت الانتظار الفارغ، مجرد إلهاء عن الصوت الذي يدعوهم إلى بناء حياتهم عبر الروح الموحدة للإبداع والإيروس والشباب. يوجد نوع من الشباب العفيف والمعتدل، وهو يفيض بالتقديس لأولئك الذين سيأتون من بعده، وعلى هذا الشباب تشهد سطور جورج ستيفان7:

«مخترعو الشعر الرنان

الحوارات اللامعة والذكية: الوقت والمسافة.

 اسمحا لي بالنقش على ألواح ذاكرتي الحجرية.

غريمي السابق: افعل الشيء ذاته!

لأنه على سلّم النشوة والعاطفة كلانا ينحدر

أبدًا لن يغريني مدح الشباب وابتهاجهم بعد الآن؛

أبدًا لن يرعد الشعر في أذنك بعد الآن».

لقد أدى وهن القلوب إلى إبعاد حياة الطلاب عن هذه البصيرة. لكن كل شكل من أشكال الحياة ينبع بإيقاعه الخاص، من الضرورات التي تحدد حياة المبدعين. وطالما أن الطلاب ينسحبون شيئًا فشيئًا من هذه الحياة، فإن وجودهم سيعاقبهم بقسوة، وسيضرب اليأس قلوب حتى أشدهم بلادة. ولا تزال هذه الضرورة الخطيرة والشديدة موضع نقاش؛ إذ تحتاج إلى التوجيه الصارم. سوف يكتشف كل شخص ضروراته الخاصة، إذا جعل من حياته السؤال الأشد إلحاحًا. وسيصبح كل واحد قادرًا، بواسطة المعرفة، على تحرير المستقبل من تشوهه في الحاضر.


1 ظهرت مقالة «حياة الطلاب» (Das Leben der Studenten) في نسختين خلال حياة بنيامين؛ الأولى في مجلة «Der Neue Merkur» الشهرية عدد سبتمبر عام 1915، ثم ظهرت في نسخة موسّعة (تحتوي سطور ستيفن جورج في نهايتها) في أنطولوجيا «Das Ziel»، عام 1916، نشرها كورت هيللر، وهو ناشر سابق للتعبيرية الأدبية، يدعم برنامجًا سياسيًا يسمى بـ«مذهب الفاعلية». ندم بينيامين لاحقًا على مشاركته في الإصدار الثاني، ونحّى نفسه عن موقف هيللر العقلاني. في المقطع الأول من المقالة، تترجم كلمة Zustand إلى كلمتي «حالة» و«ظرف» وعبارة «Brennpunkt»، إلى نقطة محورية.

2 يشير بنيامين إلى منظمة الطلاب الأحرار (Freie Studentenschaften)، التي تشكلت ضمن العديد من الجامعات الألمانية، أوائل القرن العشرين، كنقيض للمؤسسات الطلابية المعترف بها، كالأخويات والهيئات المنظمة. شكلت منظمة الطلاب الأحرار الفرع الجامعي الأساسي لحركة أشمل تعرف اليوم باسم حركة الشبيبة الألمانية، نشأت عن جماعة صغيرة من الشباب الذين تمتعوا بالتجوال في الريف حول برلين تحت اسم «الطيور الماشية» (Wandervögel)، بحلول عام 1912، احتوت منظمة الشباب الألماني الأحرار (Freideutsche Jugend)، وهي المؤسسة الرسمية لهذه الجماعة، على جماعات عدة تتراوح بين المثاليين المسالمين الذين أقرنهم بنيامين بالقوميين المتعصبين، والمحافظين المعادين للسامية.

3 انتخب بنيامين كرئيس لمنظمة الطلاب الأحرار من قبل طلاب برلين الأحرار في شباط، عام 1914، لفصل دراسي واحد من صيف هذا العام، وألقى خطاب تنصيبه في شهر مايو، وهو الخطاب الذي يقتبس منه مقالة «حياة الطلاب»، (العنوان بحد ذاته ليس مسجلًا). أعيد انتخابه في شهر يوليو، لكن مع اندلاع الحرب في أغسطس، ابتعد عن قضايا الإصلاح الجامعي، وقطع علاقاته مع معظم رفاقه في حركة الشباب.

4 طوّر الكاتب الروائي الروسي ليو تولستوي (1828-1910) في سنواته الأخيرة أناركية مسيحية غير عنيفة، مما دفعه إلى رفض سلطة الكنائس، ومعارضة الحكومة المنظمة، وإدانة الملكية الخاصة، مع التأكيد على التطور الأخلاقي للفرد، كأساس لأي تقدم اجتماعي. أصبحت التولستوية طائفة منظمة، وبحلول عام 1884، بدأت بكسب معتنقين لها. شرح تولستوي عقيدته الراديكالية في أعمال مثل «اعتراف» (1882)، و«ملكوت الله في داخلكم» (1894)، و«ما الفن؟» (1896) ، و«قانون الحب وقانون العنف» (1908).

5 «alten Herrn»، وهم الأعضاء السابقون في أخوية ما، الذين لا زالوا يحتفظون بتأثيرهم على المنظمة، وهم رعاة للأجيال القادمة.

6 عبارة «رثاء العظمة المفقودة»، (Klage um versäumte Größe)، هي التي ينهي بها فالتر بنيامين المقطع الثاني من نصه «ميتافيزيقا الشباب».

7 ستيفان جورج، قصيدة «.H.H»، من كتاب «سنة الروح» (Das Jahr der Seele).