ما بعد الحداثة

مقال لشهاب الخشاب

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه


جان فرانسوا ليوتار، عن egs

إيش عرَّفك؟ بما إن النقاشات اللي دايرة في القهاوي والبيوت وجروبات الشات بتمتاز بدرجة عالية من الفَتي، فالواحد بيخطر في باله السؤال ده كتير. فيه ناس بياخدوا الفَتي ده بجد، وناس بياخدوه على قد إنه كلام، وناس بيفتوا هم نفسهم، وناس بيحاولوا يقفلوا الحوار قبل ما حد تاني يفتي، فيقولوا «وانت يا أخي، إيش عرَّفك؟»

في الكلام اليومي، الفتي بيتحول لجزء من الحكي والرغي، والشخص اللي بيفتي بيعيد إنتاج منظومة معرفية قديمة من الكلام اللي بيجيب كلام وخلاص، بما إن المهم هو الرغي مش الدقة. أما في الكلام العلمي، فالفتي لازم يكون مرتبط بضوابط منهجية وموضوعية إلى حد ما، عشان العلم مش مفتوح عشان أي حد معدّي يفتي وخلاص، وإنما الفتوى دي بتبقى عبارة عن طرح قابل للاتفاق أو الاختلاف، واللي يحسم الجدل هي الملاحظة والتجربة والرجوع إلى المصادر.

رغم وجود الضوابط دي، العلم زيّه زي الحكي بمعنى إنه محتاج قصص كبيرة عشان يثبت شرعيته. السؤال مش بس إيه نوع التجارب والمصادر اللي بيستعين بها العالِم عشان يتأكد إن أفكاره صحيحة، وإنما كمان إيه اللي بيخلّي المعرفة دي معرفة بجد مش أي هري؟ ومين اللي بيقرر ده؟ وفي أي ظروف؟ وإزاي القرار ده بيختلف بين الزمن والتاني؟ دي بعض الأسئلة اللي طرحها الفيلسوف جان فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard) في كتابه عن «الوضع ما بعد الحداثي» (La Condition postmoderne).

ليوتار كان أساسًا كاتب تقرير بخصوص تطور المعرفة في زمن التحول الرقمي، معمول لحساب المجلس الأعلى للجامعات في مقاطعة كيبك في كندا، لكنه اتنشر في صورة كتاب في باريس سنة 1979. رغم إنه ما اخترعش مصطلح «ما بعد الحداثة»، زي ما هو نفسه بيعترف في بداية كتابه، ليوتار كان من أوائل الفلاسفة اللي ربطوا بين التحولات التكنولوجية والاجتماعية اللي حصلت في القرن العشرين وتحول وضع المعرفة في عالم «ما بعد حداثي»، وتحديدًا تحول شرعية المعرفة في العالم ده. في طرح ليوتار، «ما بعد الحداثة» مش مجرّد الزمن اللي بيجي بعد الحداثة وخلاص، أو الأسلوب الفكري والجمالي بتاع الناس اللي عايشين في الزمن ده، لكن هو مفهوم بيعبّر عن تحول معرفي جذري في القرن العشرين.

عشان يبيّن الفرق بين الحداثة وما بعد الحداثة، ليوتار بيشرح الأول المعالم الأساسية للفكر الاجتماعي الحديث. الفكر ده بيقدّم سرديتين كبار عن المجتمع: واحدة بتوصف المجتمع وكأنه سيستم كامل ومتكامل، والتانية بتوصفه وكأنه نتاج صراع دائم. السردية الأولى مرتبطة بالمنهج الوظيفي أو النظامي اللي طوروه مفكرين زي تالكوت پارسونز (Talcott Parsons) ونيكلاس لومان (Niklas Luhmann)، وبتقول باختصار إن الظواهر الاجتماعية مالهاش معنى أو فائدة إلا في إطار النظام السياسي والاجتماعي اللي بتخدمه. أما السردية التانية، فهي مرتبطة بالمنهج الماركسي التقليدي، اللي بيشوف إن المجتمع متكوّن من طبقتين بالأساس، واحدة بتمتلك وسائل الإنتاج والتانية بتشتغل لحساب الأولى، والصراع اللي بينهم هو المُحرك الأساسي للتاريخ وللمجتمع.

السرديتين دول كان قدامهم سرديتين تانيين في زمن الحداثة بخصوص شرعية المعرفة تحديدًا: الأولى بتقول إن الغرض الأساسي للمعرفة هو تحرر الإنسان، والتانية بتقول إن الغرض ده هو تحرر روح الفكر. ليوتار بيربط السرديتين دول بنموذجين متباينين للنظام التعليمي، واحد منهم أقرب للنموذج الفرنساوي الجمهوري، اللي بيعتبر إن التعليم الجماهيري مهم عشان فوائده المباشرة للدولة وللشعب، والتاني أقرب للنموذج الألماني المثالي في القرن التسعتاشر، اللي بيعتبر إن التعليم مهم عشان يطلق الفكر الرفيع اللي بيأدي بشكل غير مباشر إلى ارتقاء الأمم. في الحالتين، شرعية المعرفة مرتبطة بقصص كبيرة عن تحرر الإنسان والفكر، اللي مالهاش علاقة مباشرة مع واقع إنتاج المعرفة نفسه.

في عالم ما بعد الحداثة حسب ليوتار، السرديات الكبرى عن المجتمع والمعرفة بتتلاشى شوية بشوية. ده كان واضح مثلًا مع التفكيك التدريجي لمؤسسات الديمقراطية الاشتراكية في أوروبا، أو مع تحول بعض الدول الشيوعية إلى دول قمعية شمولية، زي ما كان واضح في تحولات فلسفة العلوم تحديدًا، بين الرؤى الخطية للتراكم التدريجي للمعرفة اللي نشأت في القرن التسعتاشر، والرؤى غير الخَطية اللي أدركت إن التراكم المعرفي مش ممكن يتحقق في بدايات القرن العشرين. يعني معرفيًا، الإنسان والفكر ما بيتحرروش تدريجيًا مع مرور الزمن، واجتماعيًا ما فيش نظام شغّال بتكامل تام بالفعل ولا الصراع الطبقي أدى إلى تحرر الإنسان بالفعل.

إيه اللي بيحصل بعد انهيار السرديات الكبرى دي؟ اقتراح ليوتار إننا نحلل التفكُّك الاجتماعي والمعرفي باستخدام مفهوم «الألعاب اللغوية» (language-games)، اللي اقتبسه عن كتابات الفيلسوف لودڤيج ڤيتجنشتاين المتأخرة (Ludwig Wittgenstein). تحت دعاية إن العلاقات الاجتماعية في العالم الرقمي اتحولت لعلاقات بين الإشارات (signs)، سواء كان الكلام بين البشر أو الإنتاج العلمي أو التواصل عبر الشبكات الإلكترونية.. إلخ، ليوتار قرر يحلل العلاقات دي باستخدام قواعد تحليل اللغة عمومًا. التحليل ده مش بس بلاغي أو معنوي، وإنما كمان «براجماتي»، بمعنى إنه بيهتم بالمواقف والقواعد العملية اللي بتدي معنى للغة في واقع البشر. في التصور ده، العلاقات الاجتماعية محكومة بقواعد زي ما الشطرنج محكوم بقواعد، بتدي معنى للعبة وبتحدد نوع الحركات اللي الواحد ممكن يتحركها، لكنها كمان بتدي مساحة لكل واحد إنه يتعامل جوة اللعبة بمزاجه.

بعد انتهاء السرديات الكبرى عن النظام المجتمعي والصراع الطبقي وتحرر الإنسان والفكر وما إلى ذلك، اللي بيفضل في رأي ليوتار هي بعض القواعد الجزئية المحلية اللي بتحكم الألعاب اللغوية دي. في عالم ما بعد الحداثة، ما عادش فيه قصة واحدة كبيرة نقدر نعتمد عليها عشان نعرف اللي بيفتي من اللي ما بيفتيش، بما إن الإنتاج المعرفي مالوش كبير في ظروف من الانعدام التام لليقين، والقواعد الجزئية اللي بتحكم الإنتاج ده دايمًا قابلة للتغيير. وزي ما الواحد اللي مش حابب يلعب شطرنج يقدر يلعب طاولة، اللي عايز يستخدم المنهج الفلاني بدل العلاني يقدر برضه ينتج معرفة جديدة مهما كانت محلية وجزئية حسب قواعد اللعبة اللغوية اللي هو حابب يشارك فيها.

كتاب ليوتار كان مؤثر في نشر مصطلح «ما بعد الحداثة» في الأوساط الفكرية، وإنما طرحه الخاص بيختلف عن أفكار الفلاسفة التانيين اللي بيتذكروا في نفس الإطار. من ناحية، ليوتار بيختزل طبيعة العلاقات الاجتماعية في الألعاب اللغوية، وبالتالي بيتغاضى عن الجانب المادي الحِسي للممارسة اليومية. هنا فيه فرق كبير بين ليوتار وفلاسفة زي فوكو ودولوز وريموند ويليامز (Raymond Williams)، اللي كان اهتمامهم تحديدًا في ربط الظواهر الثقافية والرمزية بالأساس المادي للمجتمع. من ناحية تانية، ليوتار بيفرّق بين الحداثة وما بعد الحداثة باستخدام سرديات فلسفية متمركزة في أوروبا، وبالتالي بيتغاضى عن جوانب العالم الحديث اللي ما كانتش بتتاخد في الاعتبار جوة التراث الحداثي – زي الاستعمار والاستعباد والتوسع الرأسمالي العنيف برة القارة الأوروبية نفسها.

رغم الحدود دي، كتاب «الوضع ما بعد الحداثي» ما زال علامة مهمة في تاريخ الفلسفة الأوروبية، مش بس عشان ليوتار تنبأ ببعض جوانب التحولات المعرفية اللي كانت بتحصل مع رقمنة العالم، وإنما كمان عشان فتح مجال للتفكير في السرديات الكبرى اللي بتحكم شرعية المعرفة. البديل اللي قدّمه ليوتار محدود، وإنما اللي قدر يورّيه هو إن سؤال شرعية المعرفة مش بس موجّه للشخص اللي بيفتي، سواء كان في الكلام اليومي أو في الكلام العلمي، وإنما كمان موجّه لأي مؤسسة بتحاول تفرض سلطتها المعرفية في ظرف من انعدام اليقين. الموضوع مش بس تدقيق في تفاصيل الحكي والمصادر والمعلومات قد ما هو إعادة التفكير في أسس المعرفة نفسها، مش بغرض التشكيك وخلاص، وإنما بغرض مسائلة أرباب العلم عن مسؤولياتهم تجاه الناس اللي هم بينتجوا معرفة من أجلهم.

لذلك سؤال «إيش عرَّفك» من أهم الأسئلة اللي بتوصف الوضع ما بعد الحداثي، وما حدش يقدر يفتي في سلام وأمان طالما السؤال ده مطروح.