ريمون تاليس: ملاحظات حول فلسفة للنوم 

مقال لريمون تاليس.

نُشر في مجلة «الفلسفة الآن» (Philosophy Now)، في 2012.

ترجمة: رحاب عيد

ريمون تاليس طبيب وشاعر ومذيع وروائي، وفيلسوف متخصص في الإدراك وفلسفة الذهن.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها


جاء ما تقرؤه الآن نتيجة حادث، حادث سعيد أتوق لسرده. قبل بضعة أسابيع، كنت في حلقة نقاشية مع الفيلسوف كريستوفر هاميلتون، لمناقشة مسألة ما إذا كان العالم من دون ألم هدفًا مناسبًا للبشرية أو ما إذا كان الألم يخدم غرضًا إيجابيًا إضافيًا بخلاف الهدف البيولوجي الواضح والمتمثل في صرفنا عمّا قد يضر بنا (وهو موضوع قد أستفيض فيه مستقبلًا). ذكرني لقاء كريستوفر بعد فترة طويلة بكتابه الممتاز «فلسفة العيّش: تأملات في الحياة والمعنى والأخلاق» (2001). يتضمن المجلد مقالًا رائعًا بعنوان «الحاجة إلى النوم»، يشير فيه إلى أن الفلاسفة لم يولوا اهتمامًا كافيًا لهذه الظاهرة غير العادية. وها أنا ذا، بعد مرور عقد من قراءتي لمقاله، أحاول الرد على دعوة كريستوفر للاستيقاظ.

لتفهم معي لِم أعتقد أن النوم هو بالأحرى ظاهرة غير عادية، إذا قلت لك إنني أعاني من مرض عصبي يجعلني أفقد السيطرة على جسدي بالكامل لمدة ثماني ساعات أو أكثر في اليوم، أنفصل فيها عن العالم الخارجي، وأكون عرضة للهلاوس والخيالات المعقدة — كأن أُطارد من قبل دب رمادي في محطة سكة حديد ستوكبورت — ستعتقد أنني بحالة سيئة للغاية. وإذا زعمت لك أنه معدي، فستتمنى لي التوفيق في التعامل مع مثل هذا المرض الرهيب، وتودعني على عجلٍ لتقي نفسك شر العدوى.

دون شك، النوم ليس مرضًا على الإطلاق، ولكنه حالة يومية (ليلية) يمر بها الغالبية العظمى منا. حقيقة أننا نقبل، دون استغراب، الحاجة إلى فقدان الوعي المطوَّل كجزء من حياتنا اليومية، تخبرنا أننا نميل إلى اعتبار أي شيء عن أحوالنا البشرية أمرًا مسلمًا به ما دام عالميًا. نحن لا نرى كم هو غريب فعل النوم لأن الجميع (تقريبًا) ينام. في الواقع، إن أولئك الذين لا يعانون من متلازمة تاليس اليومية للهلوسة والأوهام حالتهم مروعة، فهم يمرون بحالة يستحقون معها تعاطفنا بحق: الأرق المزمن.

نظرًا لأن جميع الحيوانات تنام، فإننا نفترض أن لذلك غرضًا بيولوجيًا. المشكلة هي أننا لا نعرف الغرض من ذلك بالضبط. هناك العديد من النظريات كالحفاظ على الطاقة، وتعزيز النمو، وضمان عدم الحركة ليلًا عندما يكون من الخطر الخروج والاندماج، وتوطيد الذكريات، لكنها كلها عرضه للاعتراضات الجدية. منذ خمسين عامًا، استنتج ويليام ديمنت، أحد الباحثين الرائدين في القرن الماضي والمشارك في اكتشاف مرحلة نوم حركة العين السريعة، أن «علة النوم الوحيدة، والمؤكدة كفاية، هي أننا ننام لأننا ببساطة نشعر بالنعاس».

فلاسفة نائمون

من السهل إدراك سبب تجنب الفلاسفة بشكل عام الحديث عن النوم، فمن يعتقدون أن هدف الفلسفة الأول هو غرس مفهوم وأهمية اليقظة من المرجح أن يعاملوا النوم كعدو. كان رُهاب النوم موضوعًا بارزًا في الفكر الوجودي. قال نيتشه بسخرية: «طوبى لمن يشعرون بالنعاس، لأنه سيغلبهم عما قريب». حاول نيتشه في بعض الأحيان الاستغناء عن النوم، وفي إحدى المحاولات تمكن من النوم أربع ساعات فقط ليلًا لمدة أسبوعين. (قرأت هذا، دون انبهار، عندما كنت طبيبًا مبتدئًا في السبعينيات، حيث شمل أسبوعي المكون من 104 ساعات عمل فترات مناوبة تصل إلى 48 ساعة متواصلة أكون فيها مستيقظًا). يعرب جان بول سارتر من خلال البطل المضادّ بروايته الغثيان (1938)، أنطوان روكينتين، عن ازدرائه لمالك المقهى الذي يتردد عليه قائلًا «عندما يكون هذا الرجل بمفرده، فإنه ينام». ومن خلال شخصية في إحدى رواياته الأخرى جعلها تلاحظ برعب الشخص النائم المقابل لها في القطار وهو يتمايل خاضعًا ومتزامنًا مع حركة القطار وقد أصبح مختزَلًا إلى شيء مادي. إن استمرار حياتنا في غياب ذواتنا اليقظة، حيث تُستبدال أضواء النهار الحية بأضواء الليل نصف الحية، هو تذكير مُخيف بتلك الميكانيكية غير الطوعية التي تعتمد عليها حياتنا الطوعية. 

لا يقتصر النوم على تذكيرنا بالعجز المطلق، أو حتى بالدور المحدود الذي يلعبه الفكر أحيانًا في حياتنا، ولكن هناك أيضًا خوف من العدوى، كما لو أن الحديث عن النوم فقط قد يؤدي إلى النوم، أو أن هذه الإشارة للتثاؤب ستؤدي إلى تثاؤب  50٪ منكم على الأقل في الدقائق الخمسة عشر القادمة. (إنها حقيقة!)

بالطبع، لا يوجد سبب يمنع العقل من التفكير في نقيضه، ولا لم لا ينبغي ألا يهتم الفلاسفة الكبار بفترات الغفوة الإلزامية التي نمر بها جميعًا. فقد كرَّس الفيزيائيون الكثير من مجهوداتهم الفكرية الرائعة بشكل غير عادي لتوضيح طبيعة المادة، أو ما هو موجود مجردًا من أنواع المعاني التي تشغل وعيهم. لكن الفلاسفة عانوا من خوف خاص من نوع واحد من النوم: النوم الذي قد تثيره أعمالهم.

لا يبدو أن حجج الفلاسفة المُصاغة بعناية، وعباراتهم المنقحة بشق الأنفس، التي يأملون منها استبصار الجوانب الأساسية للعالم، تقدر على إبقاء قرائهم يقظين أكثر من قطعة كاريكاتير أو مقال في جريدة صفراء. يعلم الفلاسفة الصادقون أنهم لا يستطيعون الشكوى من صب جواهرهم الفلسفية لبشر خاملين يغلب عقولهم النعاس، لأنهم أيضًا قد غفوا أمام أعمال فلاسفة أعظم منهم. أتحدث كفيلسوف ثانوي يغفو في بعض الأحيان أثناء قراءة كتاب الوجود والزمان لهايدجر، والذي قد يعد أعظم عمل فلسفي في القرن الماضي، وكان موضوعًا لكتاب نشرته قبل عقد من الزمن، لا بد أن آخرين قد ناموا في أثناء قراءته أيضًا. في مراتٍ أخرى، استيقظت عندما سقط كتاب نقد العقل الخالص لكانط من يدي المتراخية. لا يمكن أن يوجد نقد أعمق للعقل، خالصًا كان أم غير خالص.

بالنسبة إلى ديكارت، كان التوقف عن التفكير يعني التوقف عن الوجود، لذا كان النوم بالنسبة له، والذي لا يشمل التفكير بالضرورة، مزعجًا بالفعل، واعتبره فجوة عضوية نباتية في حياتنا الروحية. كذلك أشار جيمس هيل (الذي أدين له بمعظم محتويات هذه الفقرة) في «فلسفة النوم: ديكارت ولوك وليبنيز» (في صحيفة ريتشموند للفلسفة، ربيع 2004)، إلى أن نظرة ديكارت للعقل كجوهر لا تسمح بأي وقفة في استمرارية الفكر. إذا كان العقل شيئًا يمكن أن يطفئه صوت المحاضر ويعاد تشغيله بقماشة مبللة، فلن يستحق اعتباره جوهرًا، لأن هذا يجب أن يكون محصنًا من الأعراض. لذلك استنتج ديكارت أننا لا نتوقف أبدًا عن التفكير، حتى في أثناء النوم العميق. إلا أننا لا نعود من  نومنا العميق بأي ذكريات لأفكارنا. فهل حجة ديكارت سديدة؟

لم يقبل جون لوك بذلك الرأي أبدًا، وقال إن الأدلة التجريبية تخبرنا أننا لا نفكر في النوم، هذه هي حقيقة الأمر: «كل إيماءة نعاس تهُز أواصر المذهب الديكارتي». لايبنيز، وكأنه يتنبأ بالتباس البروفيسور فرويد، جادل بأن ديكارت كان على حق: نحن نفكر أثناء نوم بلا أحلام، لكن أفكارنا تلك غير واعية، كالتصورات التي نمتلكها دون ملاحظتها. أترك للقارئ مهمة البت في هذا الأمر، لكن نتائجه غير المرضية تمنحنا سببًا آخر لتفسير لم ابتعد معظم الفلاسفة عن مناقشة النوم.

أن تحلم

احتلت الأحلام أهمية أكبر في الفلسفة، كونها نمطًا للوعي، مما دفع أرسطو إلى القول بأن «الروح تثبت وجودها أثناء النوم» (كتاب المنامات، 458b). تبدو الأحلام أكبر من مجرد مخلفات للنوم. الأهم من ذلك، تشكك الأحلام بشكل مثير للاهتمام فلسفيًا بثقتنا في طبيعة العالم الذي نشاركه مع الآخرين. قد تكون أحلامك، بالضبط كما تحلم بها، حقيقية بشكل مقنع مثل حقيقة أنك تقرأ هذا المقال الآن (وربما تغفو أثناء قرائته). «لا توجد علامات معينة»، كما أشار ديكارت في تأملاته، «أتمكن من خلالها التمييز بوضوح بين اليقظة والنوم». إن الاستجابة الواضحة لهذا أننا لا ينبغي أن نبحث عن مجرد «علامات»، لأننا لا نعتمد على هذه الأنواع من الأشياء لمعرفة ما إذا كنا مستيقظين أو نائمين. إنها طريقة غير مجدية، ولذا فإننا ننطلق في رحلة لا نهاية لها، ومدهشة، سعيًا وراء هذا النوع من اليقين الذي تريده ذواتنا الفلسفية فقط، أو تتظاهر بأنها تريده، أو تحتاجه، أو تتظاهر بأنها تحتاجه.

نحمل نوعًا من الشفقة على أنفسنا الضعيفة، الساذجة، والنائمة، وعلى تلك الأحلام التي يخلقها شخص نكونه ولا نكونه في الوقت نفسه، لبناء سردية منطقية تحوي ما يدور في أدمغتنا وأجسادنا عندما ينفصلان بالكامل، تقريبًا، عن العالم. ولتلبية شهيتنا النَهِمَة لمعنى متماسك، فإننا نخرج مشهدًا كاملًا بناء على مشاعرنا، أو نقول، أو نعطي سببًا للحركة المفاجئة لأحد الأطراف في أثناء النوم بإختراع مشهد هاوية نسقط فيها. إن حقيقة أنه يمكننا أن نمنطق أي شيء يحدث لنا هو أمر مثير للاهتمام حقًا بخصوص مسألة العلاقة بين الحقيقي والعقلاني: كل ما يمكننا عقلنته قد يبدو حقيقيًا بالنسبة لنا، وأي شيء يبدو حقيقيًا بالنسبة لنا نحاول عقلنته، ويتم ذلك بمعدلات نجاح باهرة. إن الانقسام داخل أحلامنا (التي شيدها العقل) بين «الأنا» التي تعطي معنى للوجود، و«هناك» الذي مُنح ذلك المعنى — حتى أننا نتمكن من الانتظار بترقب لما سيحدث بعد ذلك — هو أمر مُثير للعجب بشكل خاص.

اخترع الشاعر والمفكر الفرنسي العظيم بول فاليري  شخصية السيد تسته (Monsieur Teste).كان تسته، «الصوفي من دون إله»، خاضعًا لضرورة إمتلاك فكرٍ غير مشتت ومتواصل بلا انقطاع، وكان هدفه في الحياه هو «قتل تلك الدمية، ذلك الإنسان الآلة الذي بداخله». في قصته الشهيرة «أمسية مع السيد تسته» (1896)، ترك فاليري  بطله ينجرف للنوم، مراقبًا مراحل تلاشي وعيه التدريجي، وهمس قائلًا «دعونا نفكر عن كثب ... يمكنك أن تغفو في أثناء أي موضوع... يمكن أن يواصل النوم التفكير في أي فكرة ...» بينما يتلاشى وعيه عند نقاط معينة. كذلك احتفظ فاليري  نفسه بمذكرات لأكثر من خمسين عامًا (تم جمعها تحت عنوان «دفاتر» (Cahiers)، تبين فيها أنه كان من بين اهتماماته الأساسية مراقبة المراحل المتتالية من استيقاظه، حيث أنه في الساعات الأولى من الصباح، كان يضع ملاحظات عن استيقاظ وانتباه عقله بالتدريج. بطبيعة الحال، شغلته الأحلام بقدر ما شغله الاستيقاظ من النوم يوميًا. واقترح أن الأحلام قد تكون محاولة لفهم مرور الجسم من حالة النوم إلى اليقظة. مثلي، لم يكن منبهرًا بادعاءات فرويد الفقيرة إلى الدليل حول الأحلام كونها «الطَرِيقٌ المَلَكِيٌّ إلى اللاوعي»، تلك الفكرة التي تشبه القلعة الكلامية متعددة الطوابق والمبنية من مواد رخيصة الصّنع، والتي اتخذها الكثير من الأشخاص الأذكياء كفكرة علمية. كذلك لم يتقبل فاليري فكرة أن الأحلام يمكن أن تكون تنبؤية، وأن ينزلق العقل عبر حلقات من الزمن لتمكيننا من رؤية مستقبل العالم أو إرادة الله.

هذه المغامرات الليلية، التي انبثقت من وعي مسموح له بالتحرر من خلال الانفصال عن العالم المُدرَك، تكون ذات أهمية كبيرة فقط عندما نكون في قبضتها كممثل رئيسي أو كمحور أحداث عديم الحيلة. إلا إنه، وياللمفارقة، لا يوجد شيء أكثر إثارة للنوم من قصص أحلام شخص آخر، فعندها نتوق لسماع تلك العبارة السحرية «ثم استيقظت».

يمكنني أن أستمر، لكنني لن أفعل، خشية أن تسقط نسختك من مجلة «الفلسفة الآن» من يديك المتراخية وتغفو عن فلسفة النوم إلى النوم نفسه..