سعادة في السعي

قصة: إرنست همنجواي

نُشرت في النيويوركر، يونيو 2020

ترجمة: محمود راضي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


أرنست همنجواي، عن american magazine

خططنا هذا العام لصيد سمك المارلين في الساحل الكوبي لمدة شهر. بدأ الشهر في العاشر من أبريل، وبحلول العاشر من مايو، كُنَّا اصطدنا خمس وعشرين سمكة مارلين، وانتهت مدة الانتفاع بالمركب. ما توجب فعله بعدها هو شراء بعض الهدايا، وحَمْلها إلى كاي ويست، وتعبئة المركب «ذا آنيتا» بمزيد من الغاز الكوبي الباهظ، الضروري للالتقاء والانطلاق والعودة للوطن، لكن السمك الكبير لم يبدأ في الجريان.

سأل السيد جوزيه: «هل تريد تجربتها شهرًا آخر يا كابتن؟». إنه يملك «ذا آنيتا» ويؤجرها مقابل عشرة دولارات في اليوم. كان اﻹيجار المعتاد خمسة وثلاثين في اليوم. «إن أردتَ البقاء، يمكنني تخفيض المبلغ لتسعة دولارات!»

«من أين سنحصل على التسعة دولارات؟»

«ادفع لي حين تحصل على المال، لديكَ رصيد جيد مع شركة ستاندرد للبترول في بيلوت عبر الساحل، وحين أحصل على الفاتورة، أستطيع الدفع لهم من إيجار الشهر اﻷخير، لو واجهنا طقسًا سيئًا، يمكنكَ كتابةَ شيء ما!»

قلت: «حسنًا»، وأبحرنا شهرًا آخر. حظينا وقتئذ بخمس وأربعين سمكة مارلين، ولم يبدأ السمك اﻷكبر في الظهور بعد، هناك موجةٌ قاتمة ومهولة تقترب من مورو -أحيانًا يكون هناك فدادين من الطُعُوم- وكان ثمة سمكٌ طائر يسري من تحت هياكل قوارب الصيد. والطيور تعمل طيلة الوقت، لم نرفع سمكةً واحدة من المارلين الضخم، رغم أننا نصطاد أو نخسر مارلين أبيض كل يوم، وفي يوم واحد اصطدت خمسة.

كنا محبوبين جدًا على طول الميناء ﻷننا قَطَّعنا كل أسماكنا ووهبناها، وحين جئنا من خلف قلعة مورو، ودون إبطاء عبر القناة في اتجاه أرصفة ميناء سان فرانسيسكو رافعين علم مارلين خفاقًا، استطعنا رؤية الحشود البادئة في التراكض إلى الرصيف. كان السمك هذا العام يتراوح ثمنه من ثماني إلى أحد عشر سنتًا للرطل بالنسبة إلى الصياد، وضِعْف هذا السعر في السوق. في اليوم الذي جئنا فيه بخمسة أعلام، كان على الشرطة تفريق الحشود بالهراوات. كان هذا قبيحًا وسيئًا، لكنها كانت سنة قبيحة وسيئة على الشاطئ.

قال السيد جوزيه: «أفراد الشرطة الملاعين يدفعون زبائننا المعتادين إلى الفرار، ويحصلون على السمك كله».

قال لشرطي كان يمد يده لقطعة من المارلين تزن عشرة أرطال: «فلتذهب إلى الجحيم، لم أرَ وجهكَ القبيح قط من قبل، ما اسمك؟»

أعطاه الشرطي اسمه.

«هل اسمه مُسجل في دفتر الالتزامات يا قبطان؟»

«لا».

دفتر الالتزامات هو ما كان يُدوِّن فيه أسماءَ اﻷشخاص الذين وعدهم بالسمك.

قال السيد جوزيه: «سجل اسمَه في دفتر الالتزامات من أجل قطعة صغيرة في الأسبوع القادم يا قبطان، واﻵن أيها الشرطي، اذهب بحق الجحيم من هنا، واضرب بهراوتك من ليس صديقًا لنا. رأيتُ ما يكفي من رجال الشرطة الملاعين في حياتي، اذهب، خذ الهراوة والمسدس وابتعد عن الرصيف، إلا لو كنت شرطيًا على رصيف الميناء».

في النهاية قطَّعنا كل أسماكنا ووزَّعناها حسب الدفتر، وامتلأ الدفتر بالوعود للأسبوع القادم.

«اصعد إلى فندق آمبوس موندوس واغتسل يا قبطان، استحم وسأقابلك هناك، ثم يمكننا الذهاب إلى بار فلورديتا ونتناقش في المسائل. لقد هيج هذا الشرطي أعصابي».

«اصعد واغتسل أنت أيضًا!»

«لا، يمكنني الاغتسال هنا جيدًا، لم أتعرق مثلما تعرقتَ أنت اليوم!»

لذا تمشيت في الشارع المرصوف الذي كان طريقًا مختصرًا نحو فندق آمبوس موندوس، وتحققت إن كانت وصلت أية رسائل عند المكتب، ثم استقللتُ المصعد إلى الدور العلوي. كانت غرفتي في الركن الشمالي الشرقي، هبت الرياح التجارية[1] من النوافذ وجعلتها نَديَّة. تطلعتُ من النافذة إلى أسطح القطاع القديم من البلدة وعبر الميناء وراقبت اﻷوريزابا وهي تخرج بهدوء من الميناء وكل أضوائها منيرة. كنت مُتعبًا من العمل مع كم مهول من السمك، واستشعرت الرغبة في الذهاب إلى الفراش. لكني علمت أني لو استلقيت، فقد أنام، لذا جلست على الفراش ونظرت من النافذة وراقبت الوطاويط وهي تصطاد، ثم في النهاية خلعت ملابسي وتحممت وارتديت بعض الملابس النظيفة ونزلت السلالم. كان السيد جوزيه ينتظر عند مدخل الفندق.

قال: «حتمًا أنت متعب يا إرنست».

«لا»، كذبت.

قال: «أنا تعبت فقط من مراقبتك وأنت تسحب السمك، نحن مُقلين عن رقمنا القياسي بمقدار سمكتين. اصطدنا سبع سمكات وعين سمكة ثامنة». لم نحب أنا وجوزيه أن نفكر في عين السمكة الثامنة، لكننا دومًا ما نعلن عن الرقم القياسي بهذه الطريقة.

كنا نسير في الممشى الضيق في شارع أوبيسبو، وكان السيد جوزيه ينظر إلى النوافذ المضاءة للمحلات كافة، لم يشترِ أي شيء حتى حان موعد العودة للوطن. لكنه أحب رؤية كل المعروضات مُخفضة اﻷسعار. مررنا على آخر متجرين ومكتب تذاكر اليانصيب، ودفعنا الباب المتأرجح لفلوريديتا القديمة.

قال السيد جوزيه: «يستحسن أن تجلس يا قبطان».

«لا، أفضل الوقوف عند البار».

قال السيد جوزيه: «بيرة، بيرة ألمانية، ماذا ستشرب يا قبطان؟»

«دايكيري مُثلج بدون سكر».

أعد كونستانتي شراب الدايكيري وترك ما يكفي كأسين في الزجاجة. كنت في انتظار أن يفتح السيد جوزيه الموضوع، وقد فتحه حين وصلت بيرته.

قال: «كارلوس يقول إن عليهم القدوم إلى هنا الشهر القادم»، كارلوس كان شريكنا الكوبي وصياد سمك مارلين عظيم، «يقول إنه لم يرَ قط تيارًا مائيًا مثل هذا، وحين يأتون سيصير شيئًا لم نره من قبل، يقول إن عليهم الحضور».

«أخبرني أنا أيضًا».

«لو أردت التجربة شهرًا آخر يا قبطان، يمكنني جعلها بثمانية دولارات في اليوم، ويمكنني أن أطبخ بدلًا من إهدار المال على الشطائر، يمكننا المسارعة إلى الخليج من أجل الغداء وسأطبخ هناك، نحن نحصل على سمك البونيتو ذي الخطوط المتموجة طيلة الوقت. إنه طيب المذاق مثل سمك تونة صغير. يقول كارلوس إنه يستطيع جلب أشياء رخيصة لتكون طُعمًا من السوق حين يذهب، ثم يمكننا تناول العشاء في بعض الليالي في مطعم «ذا بيرلا» في سان فرانسيسكو. هنأت بالأكل هناك الليلة الفائتة مقابل خمسة وثلاثين سنتًا».

«لم آكل الليلة الماضية، وادخرت المال».

«عليك أن تأكل يا قبطان، لهذا السبب تبدو اليوم متعبًا بعض الشيء».

«أعرف. لكن هل أنت متأكد أنك تريد التجربة شهرًا آخر؟»

«لا ينبغي إيقاف المركب لشهر آخر، لماذا ينبغي علينا أن نتخلى عن اﻷمر حين تأتي اﻷسماك الكبيرة؟»

«أهناك شيء آخر تفضل القيام به؟»

«لا، وأنت؟»

«هل تعتقد أنهم سيأتون حقًا؟»

«كارلوس يقول إنه ينبغي عليهم القدوم».

«إذن علينا أن نصيد أحد اﻷسماك،  ولا نستطيع التعامل معه بالعِدة التي لدينا».

«علينا التعامل معه، يمكنك البقاء معه إلى الأبد لو أكلت جيدًا، وعلينا أن نأكل جيدًا، كما أني كنت أفكر في شأن آخر».

«ما هو؟»

«لو ذهبت إلى الفراش مبكرًا، وليس لديك حياة اجتماعية، يمكنك الاستيقاظ في ضوء النهار وتبدأ في الكتابة وتنتهي من عمل يومك في الساعة الثامنة. كارلوس وأنا سنحضّر كل شيء وعليك فقط الظهور على متن المركب».

قلت: «حسنًا، لا حياة اجتماعية!»

«هذه الحياة الاجتماعية هي التي ترهقك يا قبطان، لكني لا أعني انعدامها على اﻹطلاق، أَرجِعها فقط في ليالي السبت».

قلت: «حسنًا، حياة اجتماعية في ليالي السبت فقط، واﻵن ماذا تقترح أن أكتب؟»

«اﻷمر عائد إليك يا قبطان، لا أريد التدخل في هذا، كنت على الدوام تبلي حسنًا حين تعمل».

«ماذا تحب أن تقرأ؟»

«لم لا تكتب قصصًا قصيرة جيدة عن أوروبا أو عن الغرب أو حين كنت مُشرَّدًا أو عن الحرب أو شيء من هذا القبيل؟ لم لا تكتب قصة عن شؤون نعرفها أنا وأنت؟ اكتب قصة عما شهِدتْه «ذا أنيتا». يمكنك أن تضخ في القصة ما يكفي من الحياة الاجتماعية كي تجعلها مُثيرة للجميع؟»

«لقد تخليت عن حياتي الاجتماعية»

«بالتأكيد يا قبطان، ولكن لديك الكثير مما تتذكره، التخلي عنها يضرك اﻵن»

قلت: «لا، شكرًا جزيلًا يا سيد جوزيه، سأبدأ العمل في الصباح»

«أظن ما يتوجب علينا فعله قبل أن نبدأ نظام حياتك الجديد هو أن تأكل شريحة لحم كبيرة قليلة النضج الليلة حتى تصير قويًا في الغد، وتستيقظ راغبًا في العمل واللياقة من أجل الصيد. يقول كارلوس إن اﻷسماك الكبيرة قد تأتي في أي يوم اﻵن، يا قبطان، عليك أن تصير في أفضل حال ﻷجلهم».

«أتظن أن كأسًا إضافية من هذه ستسبب لي أي أذى؟»

«قطعًا لا يا قبطان، فالرُم والقليل من عصير الليمون والماراسكينو هو كل ما يسري في أحشائهم، ولن يؤذي ذلك رجلًا».

بعدها مباشرة جاءت فتاتان نعرفهما إلى البار، كانتا تتمتعان بإطلالة حسنة، وكانتا منتعشتان من أجل اﻷمسية.

قالت إحداهما باﻹسبانية: «الصيادون».

قالت الفتاة اﻷخرى: «الصيادان الكبيران من البحر في أتم صحة».

قال لي السيد جوزيه: «ل. ح. ا».

أمنّت على الكلام: «لا حياة اجتماعية».

«ألديكما أسرار؟» هكذا سألت إحدى الفتاتين، كانت جذابة إلى أبعد حد، ولن تتبين من جانب وجهها تلك الشائبة الطفيفة حيث شوهت اليد اليمنى لحبيب قديم صفاءَ خط أنفها الجميل.

قال السيد جوزيه للفتاتين: «أنا والقبطان نتناقش في اﻷعمال». توجهتا إلى الطرف البعيد من البار. تساءل السيد جوزيه: «أترى مدى سهولة هذا؟ سأتعامل مع الحدود الاجتماعية، وكل ما عليك فعله هو الاستيقاظ في الصباحات مبكرًا، والكتابة، واللياقة من أجل الصيد. سمك كبير.  ذلك النوع الذي قد يزيد وزنه عن اﻷلف باوند».

قلت: «لم لا نتبادل؟ أتعامل أنا مع الحدود الاجتماعية، وأنت تستيقظ مبكرًا في الصباحات، والكتابة، واللياقة من أجل صيد السمك الكبير الذي قد يزيد وزنه عن اﻷلف باوند». قال السيد جوزيه بجدية: «يسرني ذلك يا قبطان، لكنك من تجيد الكتابة فينا، وأنت أصغر مني، ومهيأ أكثر للتعامل مع السمك، سأشغل المركب مع خفض ﻷداء المحرك حسب تقديري».

قلت: «أعلم ذلك، سأحاول أيضًا الكتابة جيدًا».

قال السيد جوزيه: «أود أن أبقى فخورًا بك، وأريد لنا أن نصطاد أكبر مارلين لعين، ونزنه بأمانة، ونقطعه ونمنحه للفقراء الذين نعرفهم، ولن نعطي قطعة واحدة ﻷي من رجال الشرطة الملاعين الضاربين بهراوتهم في البلاد»

«سنفعلها».

بعدها مباشرة، لوحت لنا إحدى الفتاتين من الطرف البعيد من البار، كانت ليلة بطيئة، ولا يوجد أحد سوانا في المكان.

قال السيد جوزيه: «ل. ح. ا».

كررت بشكل شعائري: «ل. ح. ا».

قال السيد جوزيه: «كونستانت، أرنستو هنا يريد نادلًا، سنطلب شريحتي لحم غير ناضجتين».

ابتسم كونستانت، ورفع إصبعه طلبًا لنادل.

خلال مرورنا على الفتيات ذهابًا إلى قاعة الطعام، مدت إحداهما يدها وهمست بجدية باﻹسبانية: «ل. ح. ا».

قالت السيدة اﻷخرى: «يا إلهي، إنهما منغمسان في السياسة، وفي عام مثل هذا». كانتا مذهولتين، ومرتعدتين قليلًا.

في الصباح، حين أيقظني أول أضواء النهار عبر الخليج، نهضتُ وشرعتُ في كتابة قصة قصيرة آمل أن تعجب السيد جوزيه، تضمنت «ذا آنيتا» والواجهة البحرية وأمورًا نعلم بحدوثها، وحاولتُ الانغماس في اﻹحساس بالبحر واﻷشياء التي رأيناها وشممناها وسمعناها ولمسناها كل يوم. اشتغلت على القصة كل صباح، واصطدنا كل يوم والتقطنا سمكًا طيبًا. تدربت بشدة وعثرت على جميع اﻷسماك وأنا واقف بدلًا من الجلوس على كرسي، ولم تأتِ السمكة الكبيرة بعد.

ذات يوم، رأينا أحدًا يسحب زورق صيد تجاري، حيث انقلب الزورق من مقدمته، والمارلين يرشرش الماء كلما قفز مثل زورق بخاري، وتوقف. في يوم آخر خلال عاصفة ماطرة، رأينا أربعة رجال يحاولون رفع سمكة هائلة وداكنة وقرمزية غامقة إلى مركب شراعي، أُعد من سمك المارلين خمسمئة باوند، ورأيت الشرائح الضخمة تُقطَع منه على اللوح الرخامي في السوق العتيق.

وبعدها في يوم مشمس، ومع تيار داكن كثيف، كان الماء بالغ الصفاء لدرجة أنك تستطيع عن قرب رؤية سرب اﻷسماك في جوف الميناء داخل عمق 60 قدمًا. عثرنا على سمكنا الكبير اﻷول خارج مورو. في تلك الأيام لم تكن هناك أية هياكل داعمة ولا حوامل صنارات صيد، وكنت أُخرِج فحسب رافعة خفيفة، آملًا في صيد ملك السمك من القناة حين يبزغ هذا السمك. خرج مندفعًا وبدت صنارته مثل عصا بلياردو مشقوقة، وظهر رأسه ضخمًا من وراءها وبدا عريضًا مثل زورق. ثم تخطانا في عجلة حيث يقف الخيط موازيًا للمركب، وكانت بكرة الخيط تفرغ بسرعة شديدة حتى أنها باتت شديدة السخونة على اللمس. كان هناك أربعمئة ياردة من خيط الصيد قياس 15 ليبرة[2] في البكرة، وراح نصفها حين وصلت لمقدمة «ذا آنيتا».

وصلت هناك متمسكًا بالمقابض التي غرسناها في قمة غرفة المبيت. تدربنا على هذا الركض والتزاحم عند مقدمة السطح، حيث تستطيع الثبات قبالة حاجز القارب بقدميك. لكننا لم نتدرب عليها قط مع سمك يتخطاك مثل عربة المترو حين تكون في محطة محلية، وبذراع واحدة ممسكة بالصنارة المقاومة والمتمترسة عند مسند المؤخرة، ويكبح باليد اﻷخرى مع قدمين حافيتين على السطح بينما يجذبك السمك إلى اﻷمام.

صرخت: «ثبتها يا جوزيه، فإنه يسيطر عليها».

«إنها مثبتة يا كابتن، ها هو ذا!».

اﻵن عندي قدم مثبتة قبالة حاجز «ذا آنيتا»، والساق اﻷخرى عند مرساة الميمنة، كان كارلوس يمسكني من حول الخصر والسمك يقفز أمامنا. حين قفز بدا ضخمًا مثل برميل من النبيذ. كان فضيًا في الشمس الساطعة، واستطعت رؤية الخطوط القرمزية العريضة على جانبيه. كان يرشرش الماء كلما قفز مثل حصان يسقط من جرف، وقفز وقفز وقفز. كانت البكرة عصية على الإمساك بسبب سخونتها، وصار قلب بكرة الخيط أرفع وأرفع رغم أن «ذا آنيتا» تسير بكامل سرعتها وراء السمك.

ناديت على السيد جوزيه: «هل يمكنك الحصول على المزيد منها؟»

قال: «من رابع المستحيلات، ماذا تبقى لديك؟»

«القليل بحق اللعنة».

قال كارلوس: «إنه كبير، أكبر مارلين رأيته على اﻹطلاق، لو يتوقف فقط، لو يغطس فقط، سنسارع إليه ونعيد الخيط»

جرى السمك لأول مرة خارج قلعة مورو وقبالة فندق ناشيونال. هذا هو المسار الذي اتخذناه تقريبًا، وبعدها مع أقل من عشرين ياردة من الخيط على البكرة، توقف وسارعنا في أعقابه، مستعيدين الخيط كله. أتذكر وجود سفينة تابعة لجرايس لاين أمامنا مع توجه قارب إرشادي أسود إليها، وقلقت أننا قد نكون في مسارها حين جاءت. وأتذكر مراقبتها وأنا أسحب السمك، وأعود إلى المؤخرة مراقبًا المركب وهي تستعيد سرعتها، كانت قادمة خارج نطاقنا، ولم يعقنا قارب اﻹرشاد أيضًا.

كنت اﻵن على الكرسي، والسمك حقيقي لا ريب فيه، وحصلنا على ثلث خيط البكرة. صب كارلوس ماء البحر على البكرة لتبريدها، وصب سطلًا من الماء فوق رأسي وكتفيّ.

سأل السيد جوزيه: «كيف حالك يا قبطان؟»

«بخير».

«لم تصب بجُرح عند مقدمة المركب؟»

«لا».

«هل ظننت بوجود سمك مثل هذا؟»

«لا».

ظل كارلوس يردد قائلًا: «كبير، كبير». كان يرتعد مثل الكلب صائد الطيور، كلب صياد صالح «لم أر قط سمك مثل هذا. إطلاقًا، إطلاقًا، إطلاقًا».

لم نره ثانية لمدة ساعة وعشرين دقيقة، كان التيار عاتيًا جدًا، وحملنا قبالة كوجيمار التي تبعد قرابة ستة أميال من حيث ظهر السمك ﻷول مرة. كنت منهكًا لكن يديَّ وقدميَّ  في أفضل هيئة، وكنت أسحب الخيط بهدوء وثبات، حريصًا ألا أشد بعنف أو أرتعش. يمكنني تحريكه اﻵن. لم يكن اﻷمر سهلًا، لكنه بات في اﻹمكان لو حافظت على الخيط على حافة نقطة الانقطاع.

سألت: «لماذا لم يصعد اﻵن؟»

قال كارلوس: «إنه في حيرة، وأنت تقوده، إنه لا يعلم ماهية اﻷمر».

قلت: «لا تدعه يعرف أبدًا».

قال كارلوس: «سيزن ما يفوق التسعمائة بعد التقطيع».

قال السيد جوزيه: «ابق فمك مغلقًا بخصوصه، ألا تريد يا قبطان أن تراوغه بطريقة مختلفة؟»

«لا».

حين رأيناه أدركنا مدى ضخامته، لا تستطيع القول إنه كان مخيفًا، لكنه كان مذهلًا، رأيناه بطيئًا وهادئًا وبالكاد يتحرك في الماء بزعنفتيه الشبيهتين بشفرتي منجل قرمزيتين طويلتين. ثم رأى المركب وبدأ الخيط في النفاد من البكرة كما لو كنا مربوطين بسيارة، وبدأ التقافز نحو الشمال الغربي، والمياه يسيل منه مع كل قفزة.

تحتم عليَّ الذهاب إلى مقدمة القارب ثانية، ولاحقناه حتى ظَهَرَ، غطس هذه المرة أمام قلعة مورو. ثم عدت أدراجي إلى المؤخرة ثانية.

سأل السيد جوزيه: «أتريد شرابًا يا قبطان؟»

قلت: «لا، دع كارلوس يضع بعض الزيت على البكرة ولا يسكبه، وصب عليّ المزيد من الماء المالح».

«صدقًا، هل أحضر لك أي شيء يا كابتن؟»

قلت: «يدان وظهر جديد، ابن القحبة مفعم بالنشاط مثلما كان في البداية».

رأيناه في المرة التالية بعد ساعة ونصف الساعة، وراء كوجيمار، وقفز وانسحب، وبات عليَّ الذهاب إلى المقدمة حين طاردناه.

حين عدت للمؤخرة واستطعت الجلوس ثانية، قال السيد جوزيه: «كيف حاله يا قبطان؟»

«على نفس حاله كما كان دومًا، لكن الصنارة بدأت تلين عن صلابتها».

انحنت الصنارة مثل قوس مشدود على آخره، لكن اﻵن حين رفعها، لم تستقم كما يجب.

قال السيد جوزيه: «ما زال فيها بعض الرمق، يمكنك البقاء معه للأبد يا قبطان، أتريد المزيد من الماء على رأسك؟»

قلت: «ليس بعد، أنا قلق بخصوص الصنارة، يمكن لوزنه أن يسلبها صلابتها».

بعد ساعة أتى السمك في ثبات وعافية، وصنع دوائر كبيرة بطيئة.

قال كارلوس: «إنه متعب، سيأتي بسهولة اﻵن، لقد ملأ القفز خياشيمه ولن يستطيع الذهاب عميقًا».

قلت: «راحت الصنارة، لن تستقيم بأي حال اﻵن».

هذا صحيح، فقد لامس طرف الصنارة اﻵن سطح الماء، ولكن حين ترفعها كي تسحب السمك، وتجمع الخيط على البكرة، لا تستجيب الصنارة. لم تعد صنارة بعد اﻵن. كان اﻷمر بمثابة إطلاق للخيط، لم يزل من الممكن اكتساب بضعة إنشات من الخيط في كل مرة ترفعه. لكن كان هذا كل شيء.

كان السمك يتحرك في دوائر بطيئة، وبينما ينتقل إلى النصف الخارجي من الدائرة ليسحب الخيط من البكرة على الدائرة الداخلية التي تكتسبها ثانية. لكن مع نفاد الصلابة من الصنارة، لن تستطع معاقبته، ولن يصير لك سلطان عليه إطلاقًا.

قلت للسيد جوزيه: «هذا سيء يا قبطان» -كنا ننادي بعضنا البعض «قبطان» بالتبادل- «لو قرر أن يغطس اﻵن ليموت، فلن نرفعه أبدًا».

«يقول كارلوس إنه صاعد، يقول إنه التقط الكثير من الهواء خلال القفز ولن يستطيع الغوص عميقًا ليموت، يقول إن هذا هو مسلك اﻷسماك الكبيرة في النهاية حين تقفز كثيرًا. أحصيته يقفز 36 مرة، وربما فوتت عد بعض هذه القفزات».

كانت هذه واحدة من أطول الخطب التي سمعت السيد جوزيه يلقيها وكنت مذهولًا، بعدها مباشرة بدأ السمك الكبير في الغطس والغطس والغطس. كنت أكبح جسم البكرة بكلتا يديّ وأبقي الخيط عند نقطة الانقطاع، وأشعر بمعدن جسم البكرة يلتف في هزات بطيئة تحت أصابعي.

سألت السيد جوزيه: «كيف حال الوقت؟»

«ظللت معه ثلاث ساعات وخمسين دقيقة».

قلت لكارلوس: «ظننت أنك قلت إنه لن يغطس ويموت».

«يا همنجواي، عليه أن يصعد، أعرف أن عليه الصعود».

قلت: «أخبره بهذا».

«احضر له بعض الماء يا كارلوس»، قال السيد جوزيه. «لا تتحدث يا قبطان!»

كان للماء المثلج شعورًا طيبًا، وبصقته على معصميّ، وطلبت من كارلوس أن يصب بقية القدح على قفاي. ملّح العرق مواضع في كتفيِّ العاريين فركها العمل المعتاد، لكن الجو كان شديد الحرارة في الشمس حتى أنه لا يوجد شعور دافئ يسري من الدماء. كان يوم من شهر يوليو، والشمس في ساعة الظهيرة.

قال السيد جوزيه: «صب بعض الماء المالح على رأسه باسفنجة!»

عقب ذلك توقف السمك عن سحب الخيط. بقي ساكنًا لفترة، وأنا أشعر بالجمود كما لو كنت مقيدًا على عمود خرساني، ثم استهل ثانية ببطء. استعدت الخيط، ألفه برسغي وحده، كأنه لا يوجد نابض في الصنارة المرتخية مثل صفصافة متهدلة اﻷغصان.

حين صار السمك على بعد قامة تحت سطح الماء، حتى أننا استطعنا رؤيته كأنه زورق ذو خطوط قرمزية طويلة مع جناحين بارزين، بدأ يستدير ببطء. استمررت بكل ما في وسعي في الضغط عليه محاولًا تقصير الدائرة. ظللت صامدًا وصولًا إلى تلك الصعوبة الفائقة التي تشير إلى انقطاع متانة الخيط حين تركته الصنارة، لم تنكسر بعنف أو فجأة، لقد تداعت فحسب.

قلت لكارلوس: «اقطع ثلاثين قامة[3] من الخيط من الرافعة الكبيرة، سأبطئه عند الاستدارات، وحين يأتي، يمكننا الحصول على ما يكفي من الخيط لنجعل هذا المسار سريعًا بالنسبة للخيط الكبير، وسأغير الصنانير».

لم يعد هناك أي تساؤل بعد اﻵن عن صيد السمك بكونه رقم قياسي عالمي أو رقم قياسي من أي نوع بما أن الصنارة انكسرت. لكنه كان سمكًا التف حوله الخيط وعلينا الحصول عليه. المشكلة الوحيدة أن الصنارة الكبيرة كانت شديدة التيبس مع خيط الخمسة عشر ليبرة. كانت هذه مشكلتي وعليَّ حلها.

كان كارلوس يجرِّد خيط الستة وثلاثين ليبرة من بكرة هاردي الكبيرة، ويقيسه بذراعيه الممدودين ويسحبه للخارج عبر أدوات توجيه الصنارة، وألقاه على ظهر المركب. أمسكت بالسمك ما استطعت لذلك سبيلًا من خلال الصنارة عديمة الفائدة، ورأيت كارلوس يقطع الخيط اﻷبيض ويسحب جزءًا طويلًا منه عبر أدوات التوجيه.

قلت للسيد جوزيه: «حسنًا يا قبطان، خذ هذا الخيط اﻵن حين يدخل دائرته ويُحتجز بما يكفي حتى يستطيع كارلوس إعداد الخيطين بسرعة. صده فقط بنعومة ويسر».

دخل السمك بثبات وهو يلتف وأحضر السيد جوزيه الخيط قدمًا بقدم، ومرره إلى كارلوس الذي كان يغزله مع الخيط اﻷبيض.

قال السيد جوزيه: «لقد ربطهما معًا». ما زال لديه ياردة فائضة تقريبًا من خيط الخمسة عشر ليبرة اﻷخضر، ويمسك الخيط المنتفض بين أصابعه بينما يدخل السمك إلى حدود دائرته. حررت يداي من الصنارة الصغيرة وأنزلتها، وأخذت الصنارة الكبيرة التي ناولني إياها كارلوس.

قلت لكارلوس: «اقطع حين تصير مستعدًا»، وقلت للسيد جوزيه: «فليكن تراخيك لينًا هينًا يا قبطان، وسأسحب بخفة شديدة حتى نتبين أي إحساس بحركته».

كنت أراقب الخيط اﻷخضر والسمكة الهائلة حين قطع كارلوس، ثم سمعت صرخة لم أسمع إنسانًا عاقلًا قط يصدرها، كما لو كنت تقدر على تقطير كل اليأس محولًا إياه إلى صوت، ثم رأيت الخيط اﻷخضر ينسرب عبر أصابع السيد جوزيه ثم شاهدته يتجه إلى اﻷسفل، إلى اﻷسفل، وبعيدًا عن العين. كان كارلوس قد قطع عقدة الخيط الخاطئة التي صنعها. صار السمك بعيدًا عن اﻷنظار.

«يا قبطان»، قال السيد جوزيه، لم يبد على ما يرام. ثم نظر إلى ساعته. قال: «أربع ساعات واثنين وعشرين دقيقة»

نزلت لرؤية كارلوس. كان يتقيأ في القمة، وأخبرته ألا يشعر بسوء، وأن هذا قد يحدث ﻷي شخص، كان وجهه البُني عابسًا، ويتحدث بصوت غريب خفيض سمعته بالكاد.

«أصطاد طيلة حياتي ولم أر قط سمك مثل هذا واقترفت هذا. لقد دمرت حياتك وحياتي».

قلت له: «يا للجحيم، لا يجب عليك التفوه بهراء كهذا. سنصطاد الكثير من اﻷسماك الكبرى». لكننا لن نفعل أبدًا.

جلسنا أنا والسيد جوزيه في المؤخرة وتركنا «ذا آنيتا» تنجرف مع التيار. كان يومًا جميلًا في الخليج مع نسيم خفيف فقط، وتطلعنا إلى ضفة الشاطئ مع الجبال الصغيرة البادية وراءها. كان السيد جوزيه يضع الميركروكروم على أكتافي ويداي حيث علقتا مع الصنارة، وعلى باطني قدماي الحافيتان حيث احتك جلدي. ثم مزج كأسين من الويسكي.

سألت: «كيف حال كارلوس؟»

«إنه منكسر بشدة. رابض هناك فحسب».

«أخبرته ألا يلوم نفسه».

«بالتأكيد، لكنه هناك باﻷسفل يلوم نفسه»

سألت: «ما إحساسك نحو اﻷشياء الكبيرة اﻵن؟»

قال السيد جوزيه: «هذا كل ما أردت فعله».

«هل تعاملت معها على ما يرام في رأيك يا قبطان؟»

«نعم بحق الجحيم».

«لا، اصدقني القول!»

«من المفترض استحقاق اﻹيجار اليوم. واﻵن سأصطاد دون مقابل، لو أردت أنت».

«لا».

«أفضل لو سار اﻷمر هكذا. هل تتذكره وهو صاعد في اتجاه فندق ناشيونال كما لو كان نكرة في منظور العالم؟»

«أتذكر كل شيء بخصوصه».

«هل كنت تكتب جيدًا يا قبطان؟ أليس من الصعب القيام بذلك في الصباحات المبكرة؟»

«كنت أكتب جيدًا على قدر استطاعتي».

«ابق الهمة عالية، والكل على ما يرام دومًا».

«قد أتوقف في صباح الغد».

«لماذا؟»

«حالة ظهري سيئة».

«رأسك بخير، أليس كذلك؟ أنت لا تكتب بظهرك!»

«يداي ستتورمان».

«يا للجحيم، يمكنك إمساك قلم رصاص. ستكتشف في الصباح احتمالية رغبتك في هذا».

يكفي غرابة أني فعلتها وأبليت حسنًا، وكنا خارج الميناء في الساعة الثامنة، وكان يومًا مثاليًا آخر، مع نسيم خفيف فقط، والتيار قريب من قلعة مورو كما كان في اليوم السابق. في ذلك اليوم لم نطفئ أية مصابيح حين صادفنا الماء الصافي، كنا نفعل ذلك دائمًا في الماضي، أخرجت سمكة سيرو ماكريل كبيرة كانت تزن قرابة اﻷربعة باوندات من أداة صيد كبيرة حقًا في حوزتنا. كانت صنارة ثقيلة من طراز هاردي مع خيط أبيض 36 ليبرة. جدل كارلوس من جديد الثلاثين قامة من الخيط الذي انتزعه في اليوم السابق، وكانت بكرة الخيط ذات الخمسة إنشات كاملة. كانت المشكلة الوحيدة أن الصنارة شديدة التيبس. فعند صيد اﻷسماك الكبيرة، الصنارة شديدة التيبس تقتل الصياد، أما الصنارة المطاوعة فتقتل السمكة.

تحدث كارلوس فقط حين وُجِه إليه الحديث، ولا يزال في حسرته. لم أقدر على تحمل حسرتي ﻷني تألمت كثيرًا، ولم تكن الحسرة من شيم السيد جوزيه.

قال: «كل ما فعله طيلة النهار هز رأسه، لن يعيد أية سمكة مرة أخرى بهذه الطريقة».

سألت: «ما شعورك يا قبطان؟»

قال السيد جوزيه: «أشعر أني بخير، توجهت الليلة الماضية إلى المدينة، وجلست واستمعت إلى أوركسترا كامل من الفتيات في الميدان، وشربت بضعة زجاجات من البيرة، ثم توجهت إلى بار دونوفان، كان الوضع جحيميًا هناك».

«أي نوع من الجحيم؟»

«جحيم بلا هوادة، كريه، سررت أنك لم تأتِ معي يا قبطان».

«حدث ولا حرج»، هكذا قلت وأنا ممسك بالصنارة جيدًا مرفوعة ناحية الحافة حتى تقفز إليها سمكة الماكريل الكبيرة. أدار كارلوس «ذا آنيتا» ليتبع ضفة التيار المائي وراء حصن كابانا. تقافز وتواثب الطُعم الأسطواني الأبيض في أثره. استقر السيد جوزيه في كرسيه وكان يخرج طُعمًا آخر للماكريل الكبير من ناحيته من مؤخرة المركب.

«في بار دونوفان، كان هناك رجل يدّعيِ أنه كان نقيبًا في الشرطة السرية، قال إنه أحب وجهي، وقال إنه سيقتل أي رجل في المكان هدية من أجلي. حاولت تهدئته، لكنه قال إنه أحبني وأراد أن يقتل شخصًا ما ليثبت ذلك. كان من رجال شرطة ماشادو الخصوصيين، أولئك الشرطيين ذوي الهراوات».

«أعرفهم»

«أظنك كذلك يا قبطان، على أي حال، أنا ممتن أنك لم تأت».

«ماذا فعل؟»

«أصر على رغبته في قتل شخص آخر ليظهر مدى حبه لي، وظللت أقول له إن هذا ليس ضروريًا، وأن يحظى بشراب وينسى اﻷمر. لذا كان يهدأ قليلًا ثم تعاوده الرغبة في قتل شخص ما».

«كان حتمًا رفيقًا طيبًا».

«يا قبطان، كان رجلًا تافهًا، حاولت إخباره بخصوص السمك حتى أسرح بفكره بعيدًا، لكنه قال: «اللعنة على أسماكك، لم تصطد قط أية سمكة، أترى؟»، لذا قلت: «حسنًا، اللعنة على اﻷسماك، لنتفق على هذا، وعلى كلينا العودة للمنزل». قال: «اللعنة على العودة للمنزل، سأقتل شخصًا ما من أجلك كهدية، واللعنة على اﻷسماك. لا توجد هناك أية أسماك. أفهمت؟». فبعدها قلت له عمت مساء يا قبطان، وأعطيت مالي لدونوفان، لذا اقترب هذا الشرطي من البار ووضع قدميه عليه. قال: «انسَ العودة للمنزل، أنت صديقي وستظل هنا». لذا قلت له عمت مساء وقلت لدونوفان: «دونوفان، أنا آسف ﻷن مالك على اﻷرض». لم أعلم ما كان هذا الشرطي يحاول فعله ولم أبال. كنت متوجهًا إلى المنزل. وبمجرد أن تحركت للذهاب للمنزل، أخرج الشرطي مسدسه وأرهب به رجلًا إسبانيًا فقيرًا كان يتجرع البيرة هناك ولم يفتح فمه قط طيلة الليل. لم يفعل أحد شيئًا مع الشرطي، ولا أنا أيضًا، أشعر بالعار يا قبطان».

قلت: «لن يستمر اﻷمر لوقت أطول اﻵن».

«أعرف هذا، ﻷني لا أستطيع، لكن أكثر شيء لم أحبه هو قول الشرطي إنه أحب وجهي، أي وجه لدي بحق الجحيم يا قبطان كي يحبه مثل هذا الشرطي؟»

أحببت للغاية وجه السيد جوزيه أنا أيضًا، أحبه أكثر من وجه أي شخص أعرفه تقريبًا، استغرقني اﻷمر وقتًا طويلًا لتقديره ﻷنه وجه لم يُنحَت من أجل نجاح سريع هين، لقد تشكل من البحر، وعلى الجانب الرابح من البارات، ومن لعب الورق مع المقامرين الآخرين، ومن خلال مبادرات المخاطرة الهائلة التي تخيلها وباشرها بذكاء بارد ودقيق. لا يوجد جزء وسيم من الوجه سوى العينين ذوي الزرقة اﻷخف واﻷغرب من البحر المتوسط في أصفى وأنصع يوم له. العينان كانتا جميلتان، والوجه قطعًا ليس جميلًا، بل بدا اﻵن مثل الجلد المدبوغ المتقرح.

قلت: «لديك وجه جميل يا قبطان، ربما كان الشيء الوحيد الجيد حيال ابن القحبة هذا أنه رأى ذلك»

قال السيد جوزيه: «حسنًا، سأبقى بعيدًا عن البارات الوضيعة حتى ينتهي هذا اﻷمر، كان من الطيب والجميل الجلوس هناك في الميدان مع أوركسترا الفتيات وتلك الفتاة التي تغني. كيف تشعر حقيقة يا قبطان؟»

قلت: «أشعر باﻷلم الشديد».

«لم تُصَب في بطنك؟ كنت قلقًا على الدوام وأنت في المقدمة».

قلت: «لا، فاﻷلم في أسفل الظهر».

قال السيد جوزيه: «الأيدي واﻷقدام لا تصنع شيئًا، ولقد ربطت عدة الصيد، وبهذا لن تُبتلى بالاحتكاك، هل أنت بالفعل على ما يرام يا قبطان؟»

قلت: «بالتأكيد، يا لها من عادة لعينة تنغمس فيها، ويصعب الإفلات منها فحسب».

قال السيد جوزيه: «أدرك أن العادة أمر سيء، وربما يقتل العمل أناسًا أكثر من أي عادة أخرى، ولكن معك، حين تفعلها، لا تبالي البتة بأي شيء آخر».

تطلعت إلى الشاطئ، وصادفنا قمين للجير بالقرب من الشاطئ، حيث كانت المياه عميقة جدًا، وجعله تيار الخليج على مقربة من الضفة. تصاعد دخان قليل من القمين ورأيت غبار عربة تتحرك عبر الطريق الصخري على الشاطئ. حامت بعض الطيور فوق رقعة من الطُعُوم، ثم سمعت كارلوس يصرخ: «مارلين! مارلين!»

كلنا رأيناه في نفس الوقت، كان داكنًا جدًا في المياه، وبزغت صنارته كما رأيت من المياه وراء سمك الماكريل الكبير. كانت صنارة قبيحة ومستديرة وثخينة وقصيرة، وتكتل السمك من ورائها تحت السطح.

صرخ كارلوس: «دعه يحصل عليها، لقد أخذها في فمه».

كان السيد جوزيه يسحب طُعمه، وكنت أترقب التوتر الذي قد يعني أن المارلين حاز بالفعل على الماكريل.


[1] رياح تهب بانتظام طوال شهور العام، وتهب من مناطق الضغط المرتفع إلى مناطق الضغط المنخفض، وسميت بهذا الاسم بسبب دورها الكبير في تسيير حركة التجارة البحرية حول العالم

[2] وحدة لقياس الوزن الذي يمكن لخيط الصنارة تحمله أثناء الصيد.

[3] وحدة قياس تستخدم في الولايات المتحدة اﻷمريكية لحساب عمق المياه