التمركز الأوروبي

مقال لشهاب الخشاب

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


ليه الحضارة بدأت في مصر؟ حسب التاريخ اللي اتعلمناه في المدارس، الإجابة على السؤال ده بتبدأ بالمعلومات الجغرافية والمناخية والتاريخية المعروفة عن النيل، وعلاقة العمران بالنهر، وتوحيد القطرين، وشخصية مصر الخالدة اللي عرفت تستغل موقعها الاستراتيجي عشان تبني حضارة السبعتلاف سنة. الإجابة دي تبدو طبيعية تمامًا، وكأن مصر والنيل جزئين من نفس العملية الأزلية والأبدية اللي بتثبت بلا أدنى شك إن الحضارة هي مصر، ومصر هي الحضارة. ولكن الإجابة دي لسة ما بتردش على السؤال الأعمق، وهو إيه هي الحضارة من أساسه؟

في التراث الفكري العربي الإسلامي، الحضارة مرتبطة بالعمران والتمدن على عكس الترحال. الإنسان المتحضر هو اللي كان عايش حياة مدينية أو ريفية مستقرة، عكس البدو أو "العرب" اللي كانوا عايشين حياة غير مستقرة وبيغزوا سكان المدن والأرياف من وقت للتاني (لزوم أكل العيش). بالمعنى ده، حضارة قدماء المصريين زيها زي أي مجتمع مديني أو ريفي تاني، وقدماء المصريين نفسهم "متحضرين" بمجرد إنهم عايشين في عمار. فكرة إن مصر هي مهد الحضارات بحالها تبدو غريبة في السياق ده، لأنها في الواقع جاية من تراث فكري تاني، اتطور في القرن الـ19 الأوروبي وله جذور في النهضة الأوروبية.

في التراث الأوروبي ده، الحضارة واحدة بس، ولها كذا ليڤيل زي في الألعاب الالكترونية بالضبط. في الليڤيلات البسيطة، الإنسانية لسة في حالة وحشية أو بربرية، والإنسان مش إنسان قوي، وده كان غالبًا بيتقال على جميع الشعوب الأفريقية والأسيوية والأمريكية الأصلية. أما في ليڤيل الوحش، لما الحضارة توصل إلى أقصى درجة من العقلانية والتكنولوجيا والمفهومية، فالإنسان بيتحول إلى إنسان بشكل متكامل، وده كان غالبًا بيتقال على الإنسان الأوروبي الأبيض. في التصور التصاعدي ده، الحضارة الأوروبية اللي ظهرت في القرن الـ19 وصلت لأعلى ليڤيل بعد ما عدت كل الليڤيلات التانية، من أول قدماء المصريين وقدماء اليونانيين لغاية النهضة. إذن فكرة إن الحضارة بحالها بدأت في مصر تحديدًا جاية من نظريات بتعزز التمركز الأوروبي (eurocentrisme) حسب تعبير المفكر الاقتصادي والسياسي سمير أمين.

سمير أمين قدم مصطلح "التمركز الأوروبي" في كتاب بنفس الاسم اتنشر بالفرنساوي سنة 1988، واتنشر بالعربي مع التصرف تحت عنوان "نحو نظرية للثقافة" سنة 1989. حسب الكتاب ده، التمركز الأوروبي مش نظرية كاملة ومتكاملة عن تفوق الأوروبيين على باقي العالم، وإنما هي تصور ضمني جوه أغلب النظريات الاجتماعية الأوروبية. التصور ده بيعبّر عن نوع من الكونية المبتورة (universalisme tronqué)، أو ببساطة فكرة إن النظريات دي تنفع للكون بحاله رغم إنها جاية من هموم ثقافية إقليمية خاصة بأوروبا وبس. فمثلًا من بعد الثورة الفرنسية، الدولة الفرنسية بتدعي إنها دولة الحرية والمساواة والأخوة كقيم إنسانية كونية، وإنما نفس الدولة دي هي اللي احتلت الجزائر وأفريقيا الغربية والهند الصينية وجزر المحيط الهادي، واكتسحت كل معاني الحرية والمساواة والأخوة بالنسبة للشعوب المُستعمَرة والمُستعبَدة.

يعني التمركز الأوروبي مش مجرد إن الأوروبيين يعتبروا نفسهم أحسن من التانيين، اللي هو نوع شائع من النرجسية الثقافية عند الشعوب اللي متصورة إنها أحسن شعب في العالم، سواء كانت في أوروبا أو براها. في تحليل سمير أمين، التمركز الأوروبي جزء من الأيديولوجيا الرأسمالية الطاغية، اللي بتحاول تخبي تناقضات النظام الرأسمالي الفعلي باسم نموذج أوروبي استثنائي. الأيديولوجيا دي تُعتبر "اقتصادوية" (économiste)، بمعنى إنها بترجّع صعود النظام الرأسمالي إلى عوامل "داخلية" جوه الاقتصاد الأوروبي في حد ذاته، وكأن النمو الاقتصادي الاستثنائي اللي حصل في أوروبا من أول القرن الـ16 ما كانش ممكن يحصل في أي حتة تانية في العالم بسبب طبيعة أوروبا الخاصة. طبعًا التصور ده قدامه تناقض واضح، وهو إن النظام الرأسمالي الفعلي اتطور عبر استعمار شعوب العالم غير الأوروبي، وطبعًا عبر إخضاعهم لأسوأ شروط الإنتاج والاستهلاك في النظام ده. بالتالي العوامل "الداخلية" الأوروبية مش ممكن تتفهم من غير العوامل "الخارجية" المرتبطة بالتوسع الاستعماري.

إذن التمركز الأوروبي بيصوّر تاريخ الرأسمالية (والحضارة عمومًا) وكأن العالم غير الأوروبي مالوش أهمية أو وجود فعّال، وكأن العالم لازم يتبع المعيار الأوروبي الاستثنائي عشان يتحسن اقتصاديًا واجتماعيًا. الفكرة دي موجودة في جميع أيديولوجيات "التقدم" من أول الكتابات التطورية العنصرية في القرن الـ19 لغاية الكتابات التنموية في النصف التاني من القرن الـ20. كل أنواع الكتابات دي بتخلق تصور زائف عن النمو والتقدم، وكأنها الحل الوحيد اللي يقدر يعالج "تأخُّر" العالم غير الأوروبي، رغم إن التأخر ده نفسه نتيجة مباشرة للنمو الأوروبي الأمريكي المركزي في النظام الرأسمالي العالمي.

إذن إيه حل التمركز الأوروبي؟ في رأي سمير أمين، الحل مش ممكن يكون ثقافوي (culturaliste)، بمعنى إنه ما ينفعش نواجه طرح ثقافي أوروبي بطرح ثقافي خاص بالبلاد الطرفية أو الهامشية، سواء كان طرح قومجي شعبوي أو أصولي ديني. يعني إذا اعترفنا إن أوروبا مش استثنائية عشان أوروبيتها الخاصة وإنما عشان موقعها الخاص في النظام الرأسمالي العالمي، ما ينفعش نرجع ونقول إن الصين استثنائية عشان صينيتها الخاصة، أو مصر استثنائية عشان مصريتها الخاصة، ولا ينفع نقول إن الرجوع للديانة الإسلامية أو الطاوية أو البوذية "الصحيحة" هيخلّينا نتحسن ونرتقي وننبسط. الحلول الثقافوية دي غالبًا بتعكس التمركز الأوروبي نفسه حسب سمير أمين، وكأن الشعب الأصيل لازم يكون عنده ثقافة أصيلة عشان يصنع "الحضارة" حسب معايير منفردة (اللي هي غالبًا المعايير اللي ظهرت في تاريخ أوروبا تحديدًا).

التصور الثقافوي ده بيعكس عجز جذري في تحليل العلاقات المادية المشتركة بين أوروبا وباقي العالم جوة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، اللي من ناحية بينتج علاقات فعّالة بين المركز والطرف برة نطاق التصورات الأوروبية عنها، ومن ناحية تانية بيحتّم التفكير في نظرية كونية تقدر تشرح علاقات أوروبا بباقي العالم في النظام الرأسمالي الفعلي. يعني النظام الرأسمالي العالمي نفسه بيستدعي نظرية كونية بجد حسب سمير أمين، ولكن التمركز الأوروبي بيدعم نظريات اقتصادوية وثقافوية محدودة بتدعي إنها تنطبق على العالم بحاله، بينما هي غالبًا قائمة على نموذج أوروبي بحت.

بنفس المنطق ده، النظريات اللي بتربط بين بداية الحضارة الغربية (باعتبارها الحضارة الوحيدة اللي بجد) ببوادر حضارة قدماء المصريين بتعكس التمركز الأوروبي الشائع في الفكر الاجتماعي. الخط المستقيم بين الفراعنة والإغريق والرومان وأوروبا المسيحية وما بعدها ما كانش مستقيم في الواقع، لأن حضارة "مصر" نفسها متكونة من مجتمعات كثيرة ما ينفعش نلخبطهم في بعض، والمجتمعات دي ساعات أقدم حتى من "مصر" اللي بنتعلمها في سلاح التلميذ، ناهيك عن إن المجتمعات اللي كوّنت "مصر" متحضرة زيها زي حضارات بين النهرين ووادي الإندوس (في الهند وباكستان الحاليين) ووادي اليانجتسي (في الصين الحالية). اعتبار إن مصر هي الأصل والباقي تقليد ربما يفرح أنصار مصر هي أمي، وإنما الاعتبار ده بيعيد إنتاج نظريات موهومة عن تاريخ مصر، وبيتغاضى عن تحليل اللي بيحصل فيها كجزء من سياق إنساني عالمي أوسع.

سمير أمين ماكانش أول واحد ينتقد التمركز الأوروبي زي ما هو نفسه كان عارف، بدليل إنه استشهد مثلًا بنظريات إدوارد سعيد عن الاستشراق ومارتن برنال (Martin Bernal) عن الجذور الأفريقية للحضارة الإغريقية. المهم في طرح سمير أمين إنه بيحلل التمركز الأوروبي مش كدافع ثقافي للتفرقة بين الشعوب، وإنما كنتيجة لبعض التناقضات الجذرية في الرأسمالية العالمية. بدون ما يدعي إن العلاقات المادية في حد ذاتها بتحتّم رؤية محددة للعالم، زي في التحليلات الماركسية التقليدية، سمير أمين بيقول إن العلاقات دي وتناقضاتها الواقعية بتطرح إشكالية كونية بحجم النظام العالمي نفسه بعيدًا عن الكونية المبتورة اللي بيقدمها التمركز الأوروبي.

سمير أمين كان عايز يقدّم نظرية كونية مضادة تقدر تستبعد إشكالية الاقتصادوية والثقافوية من ناحية، وتشرح عدم مساواة البشر عبر العالم بعيون غير أوروبية من ناحية تانية. الحلول اللي قدمها – باستخدام نظرية التطور اللامتكافئ والقيمة العالمية – ربما تكون جزئية ومش كافية عشان نفهم تطورات الرأسمالية الفعلية. ولكن ما زال تحليله للتمركز الأوروبي مهم كنقد للتنظيرات الاجتماعية وخاصةً في صورتها القومجية أو الأصولية، اللي في الآخر بتدعم نسخة محلية فقيرة من التمركز الأوروبي. إذن اللي شايف إن الحضارة بدأت في مصر، سواء كان مصري أو أجنبي، بيدعم رؤية أوروبية مختزلة للعالم، وبيتغاضى مش بس عن السؤال الأعمق – إيه هي الحضارة؟ – وإنما كمان عن السؤال الأهم:

إفرض بنينا حضارة تانية؟