ثمن التنوير: شذرات فلسفية أكثر

مراجعة: أحمد الزناتي لكتاب «ثمن التنوير: حوارات مع فلاسفة ألمان»، ترجمة وتقديم كرم أبو سحلي، نشرته دار مدارات عام 2019

نُشِرتْ المراجعة في جريدة «أخبار الأدب»

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


في كتب التراث العربي مثلٌ سائر يقول: «شِعْرُ الرجل قطعةٌ من كلامه، واختياره قطعة من عقله». تنسحب العبارة السابقة بالمثل على الأعمال المُترجَمة؛ فاختيار المترجم قطعةٌ من ذوقه، بل ومن درجة وعيه، وما أحوجنا اليوم إلى المترجم المتذوق الواعي!

يُصدِّر الأكاديمي والمترجم المصري د. كرم أبو سحلي ترجمتَه لمجموعة حوارات مع أساطين الفلسفة الألمانية في القرن العشرين (ثمن التنوير: حوارات مع فلاسفة ألمان – مدارات 2019) بمقدمة وافية ناهزت الأربعين صفحة، رمَتْ إلى شرح هدف الكتاب وغايته، وهي مقدمة ربما تنافس -في تقديري- حوارات الكتاب في أهميتها وعمق تحليلها. يتضمن الكتاب ترجمة حوارات دارت مع: هايدجر، ماكس هوركهايمر، تيودور أدورنو، إرنست بلوخ، هربرت ماركوزه، يورجين هابرماس، جادامر، وأكسل هونِت. 

تكمن قيمةُ الكتاب في أنه يفتح بابًا واسعًا أمام القارئ للتعرُّف على الجوانب العملية في أفكار الفلاسفة الألمان، وربط آرائهم النظرية بمواقفهم العملية في شتّى تجلياتها. يطوف الكتاب في أسفارٍ تبدأ من أصقاع الفكر الهايدجري، وتوضيح الفيلسوف الكبير أبعاد علاقته بالإشتراكيين القوميين بعد انتخابهم، مرورًا بالفيلسوف الأحمر، الماركسي الطوباوي إرنست بلوخ -قبل أن يفيق من غفوته الثورية بعد القمع السوفيتي الهمجي للانتفاضة المجرية سنة 1956، فضلًا عن حوارات مع هربرت ماركوزه، وأدورنو، وهوركهايمر، وحوار مع عُمدة فلسفة التأويل هانز جيورج جادامر، وصولًا إلى آخر عنقود حلقة فرانكفورت النقدية، الفيلسوف وعالم الاجتماع يورجين هابرماس (91 سنة)، ومختتمًا بحوار مع الفيلسوف المعاصر أكسل هونِت. 

يُحمَد للمترجم د. أبو سحلي مجهوده الهائل، لا أقول في ترجمة الحوارات محل الاختيار فقط، فهي ترجمة صافية كالماء، ظهر فيها إبداعه في نحت بعض الألفاظ كما نرى في ترجمة مصطلح «لَبْرَلة الدين» مثلًا في ترجمة حوار  هوركهايمر، بل يُحمَد له أيضًا سيلُ الحواشي والتعليقات الدافق الذي رفد به صفحات الكتاب، فأضاف إلى قيمة الكتاب قيمة. 

*

يذهب د. أبو سحلي في المقدمة إلى أن مفاهيم النظر، والعمل، والفن لعبت دورًا بارزًا في تحريك الفكر والواقع في الفلسفة الألمانية في القرن العشرين، مستعرضًا علاقة النظر  (النظرية) بالعمل (الممارسة والتطبيق) عند الفيلسوف الكبير مارتن هايدجر  بعد نشر  الكراسات السوداء لأول مرة سنة 2014، وعند المفكر الاجتماعي تيودور أدورنو (المُتهَم بالتخلي عن العمل والتحدُّث عن الفعل دون الإتيان به)، وصولًا إلى يورجين هابرماس، الذي حشد اهتمامه على رصد العلاقة بين المعرفة والمصلحة، وهو عنوان كتابه الشهير «المعرفة والمصلحة»، الصادر سنة 1968 (للكتاب ترجمة عربية أنجزها حسن صقر)، وهو العمل الذي سعى فيه إلى وضع نظرية اجتماعية ذات مآرب عملية، تربط النظر والفكر بالممارسة والفعل، أو بمصالح البلاد والعباد حسبما فهمتُ. 

ثم ينتقل في جزء تالٍ إلى وصف الفن باعتباره وسيطًا بين النظر والعمل، ليكشف لنا عن حسٍّ لغوي راقَ لي كثيرًا في ترجمة كلمة Kunst الألمانية، التي تُترجَم إلى (الفن)، بينما تتمايل ظلالها الدلالية [بحسب السياق النصي طبعًا] بين (الاستطاعة) Können و(المعرفة) Kennen (كأن نقول مثلًا فن التعامل مع الناس ونقصد القدرة والخبرة)، مُتسائلًا: هل يُمكن القول إن الفن يلعب دور الوسيط بين النظر والعمل؟ فهو من ناحية نشاط عقلي معرفي، ومن ناحية أخرى، نوع من الممارسة العملية الرامية إلى تغيير الواقع، مُفترِضًا أن ذلك سبب انشغال كثير من الفلاسفة الألمان بالفن إلى جانب انشغالاتهم الفلسفية الأخرى. 

*

يتعذَّر  بطبيعة الحال عرضُ كتاب مهم كهذا في سطور، فكل سؤال قضية قائمة برأسها، وكل إجابة تحتاج إلى صفحات لمناقشتها. ومن ثم سأكتفي بإضاءة سريعة على فكرة جديرة بالتأمل، أراها مرتبطة – بشكلٍ أو بآخر- بهموم مجتمعية حالية متصلة بمفهوم تطوير الخطاب الديني. وردتْ الفكرة في المقابلة التي أُجريَتْ مع الفيلسوف وعالم الاجتماع ماكس هوركهايمر، وحملتْ عنوان الكتاب نفسه: ثمن التنوير. طرح المحاور سؤالًا حول الخلاف التاريخي بين المعرفة والإيمان،  والتناقض بين العلم والدين، وسُئل عما يقصده بفكرة «لَبْرلة الدين» [أظنها ترجمة مصطلح  Liberalisierung der Religion].  

يرى هوركهايمر أنّ «لَبْرلة الدين» وتحرير العقيدة من القيود والأغلال الموروثة ضرورة جوهرية للحفاظ على الدين نفسه. هوركهايمر على يقينٍ أن «لَبْرلة الدين» على يد رجال الدين والسلطة الكنسية هي ثمرة فشل الفلسفة الحديثة، ضاربًا المثل بكانط وديكارت، مشيرًا إلى أن محاولتهما إثبات وجود إله قد باءت بالفشل، ومؤكدًا أنه ينبغي للكنيسة [وربما لكل مؤسسة دينية رسمية على وجه العموم] محاوَلة موائمة الدين بأي شكل من أشكال حياة المجتمع والناس. يعوِّل هوركهايمر على رجال الفكر لتحقيق ذلك، وإبراز  فكرة وجود آخر لعالَم المظهر الذي نعيش فيه، وخلق توقٍ جارف يربط بعضهما بعضًا. 

لقضية التنوير نصيب الأسد في فكر هوركهايمر وأعماله، ولا أدلّ على ذلك من عنوان عمله المهم «جدل التنوير: شذرات فلسفية» (مُترجَم أيضًا إلى العربية)، بالاشتراك مع زميل حلقة فرانكفورت تيودور أدورنو، الذي أكَّدا فيه على دور فعل التنوير باعتباره أداة تخليص المجتمعات من الرؤى الظلامية الخرافية التي تحيط بالعالم. لكنه يرى أيضًا أن التنوير الذي قضى على أنواع الشعوذة الممكنة قد تحوَّل إلى فكرة تؤمن أن العلم هو الحقيقة الوحيدة (وهو ما انتقده هوركهايمر أيضًا)، واصفًا إياه بأنه تحوُّل جدلي [يقصد هوركهايمر تحوُّلَ التنوير من أداة لتحرير الإنسان من الخوف من الخرافي/ الأسطوري إلى أداة صانعة للخوف من أي/ كل شيء لا يخضع لقاعدة أو لنظام مُرتَّب/ معقول]، ومن هنا أضحى مهمًا بعث الفكرة ليصير فعل التنوير أكثر إنسانية، وأقل تصلُّبًا ومَيلًا إلى كفةٍ على حساب أخرى. في نهاية الحوار يقول هوركهايمر: «يجب أن ندفع ثمنًا باهظًا مقابل تحسين المجتمع»، ضاربًا المثل بورقة بحثية كان قد كتبها وبيَّن فيها أن معظم الثورات قد كَرِه قادتُها وأتباعُهم الهيمنةَ والظلم، وأرادوا الإطاحة بالحاكم، ولو أمعنَّا النظر -والكلام هنا نصًا على لسان هوركهايمر- في تاريخ الثورات الفردية سنجد أن شعور مناهضة الهيمنة استغرق من أصحاب الثورة سنوات للوصول إلى السلطة، لكنهم يُضطَرون هم أنفسهم إلى ممارسة العنف، ولما سُئل عن الطريقة التي يمكن عبرها تغيير المجتمع دون تحمُّل الأمور المريعة، قال ببساطة: «هي ليست صوابًا مطلقًا، لكنها تتغيَّا الوصول إلى مجتمع عادل، وهي لا تتعلَّق كثيرًا بنشر الحرية بقدر ما تتعلَّق بنشر العدل، ولهذا الأمر وجهين، رغم أن الثمن سيكون باهظًا». 

لو كان د. هوركهايمر على قيد الحياة لسألتُه كمجرد قارئ عادي: وماذا عن القيمة؟ تَعلَّمنا من مبادئ علم الاقتصاد -والقياس مع الفارق- أن نميّز دائمًا بين الثمن price والقيمة value/ worth. صحيحٌ أن هوركهايمر يخلُص إلى أن ثمن التنوير -على ضرورته- باهظ، لكن في المقابل: أية قيمة (ثمرة؟) سيحصدها المجتمع من وراء تشكيل عقول واعية مستنيرة تنبذ هيمنة قوى الجهل والظلام، الديني منها على الأخصّ، على يد مفكّرين حقيقيين يتحلّون بقدر من النضج والمسؤولية؟