مغسلة إينجل

قصة لوسيا برلين

ترجمة: رامة مشارقة

لوسيا برلين كاتبة قصة أمريكية نشطت في الستينيات والسبعينيات، تستوحي أعمالها من فترة طفولتها ومن الوظائف الكثيرة التي اضطرت إليها لتتمكن من الكتابة وتربية أربعة أطفال. شغلت في التسعينيات منصب كاتبة زائرة في جامعة كولورادو ثم رقيت لأستاذ مشارك، وتوفيت في 2004 في مارينا ديل ري. القصة الحالية مأخوذة من مجموعتها المنشورة بعد وفاتها: «دليل لعاملات التنظيف» A Manual for Cleaning Women

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها


لوسيا برلين، عن goodreads

شيخ هندي طويل القامة بجينز «ليڤايس» باهت وحزام «زوني» فاخر،[1] لديه شعر أبيض وطويل، معقود بخيط بلون توت العليق حتى رقبته، الشيء الغريب أننا لسنة تقريبًا كنا نتواجد في مغسلة إينجل في الوقت نفسه، لكن ليس في نفس التوقيتات. أعني أنه في بعض الأيام أذهب في الساعة السابعة يوم الاثنين أو ربما أذهب في السادسة والنصف مساء يوم الجمعة، وهو يكون موجودًا بالفعل.

السيدة أرميتاج كانت مختلفة، ومع ذلك عجوز أيضًا، قابلتها في نيويورك في مغسلة سان خوان في الشارع الخامس عشر. كان مُلاكها من بورتو ريكو، ورغوة الصابون تملأ أرضيتها. كنت أمًا شابة وقتها وأنظف الحفاضات صباحات الخميس، وكانت هي تعيش فوقي في الشقة الرابعة. في أحد الصباحات في المغسلة أعطتني مفتاحًا فأخذته، ثم قالت إنه إذا لم أرها يوم الخميس فهذا يعني إنها ماتت، ورجاؤها أن أذهب للبحث عن جثتها. كان هذا شيء فظيع لتطلبه من أحد ما، ثم إن علي أن أغسل يوم الخميس.

ماتت يوم الاثنين فلم أعد إلى سان خوان قط، ولا أعرف كيف وجدها مفتش الشرطة.

لأشهر، في مغسلة إينجل، لم أتحدث مع الهندي، لكننا جلسنا قبالة بعضنا على كراسي بلاستيكية صفراء متصلة، مثل تلك التي في المطارات، تصدر صوتًا يؤذي الأسنان باحتكاك المشمع الممزق.

اعتاد الهندي أن يجلس هناك يحتسي الجيم بيم،[2] ينظر إلى يدي، ليس مباشرة، بل من خلال المرآة المقابلة لنا، فوق الغسالات ماركة «سبيد كوين». في البداية لم يزعجني. شيخ  هندي ينظر إلى يدي، في المرآة المتسخة، بين لافتة بخط مصفر تقول «الكي 1,5 دولار للدستة»، وأخرى عليها دعاء بخط برتقالي مضيء: «رب هب لي السكينة لقبول ما لا يمكن تغييره». لكني بعدها بدأت بالتساؤل عما إذا كان لديه فيتيش للأيادي، وجعلني هذا أتوتر. يشاهدني أدخن ثم أنفخ الدخان من أنفي، وأتصفح مجلات قديمة، ليدي بيرد جونسون[3] تنزل الى منحدرات النهر.

أخيرًا جعلني هذا أحدق في يدي، رأيته تقريبًا يبتسم بوقاحة لأنه ضبطني أحدق فيهما، ولأول مرة التقت أعيننا في المرآة تحت لافتة «لا تكدس الغسالات».

كان هناك هلع في عيني، نظرت إلى عينيَّ ثم أسفل إلى يديَّ: بقع عمرية مرعبة وجرحان. يدان غير هنديتين، متوترتان، وحيدتان. صار بإمكاني رؤية أطفال ورجال وحدائق في يديَّ.

يداه في ذلك اليوم (الذي لاحظت به يديَّ) كانتا فوق فخذيه المشدودتين، ترتجفان أغلب الوقت بشكل سيء وهو يتركهما تهتزان في حضنه، لكنه في ذلك اليوم كان يحاول تثبيتهما، والجهد الذي بذله في منعهما من الارتجاف حول مفاصل أصابعه إلى اللون الأبيض.

الوقت الوحيد الذي تحدثت فيه مع السيدة أرميتاج خارج المغسلة كان عندما فاض حمامها وراحت المياه تتدفق من خلال الثريا إلى الدور الذي أسكنه، كانت المياه تمر في الضوء فيظهر قوس قزح، فسحبت يدي بذراعها الميتة الباردة وقالت: «إنها معجزة، أليست كذلك؟»

كان اسمه طوني، كان جيكاريلا أباتشي[4] من أقصى الشمال، ذات يوم لم أره لكنني علمت أنهُ هو حين وضع يده الرقيقة على كتفي، وأعطاني ثلاثة بنسات. لم أفهم، كدت أن أقول شكرًا، ثم انتبهت إلى أنه يرتعش بشدة ولا يستطيع أن يشغل المُجفِف. الأمر صعب حتى لو لم تكن ثملًا. عليك أن تدير السهم بيد واحدة، تضع البنسات في اليد الأخرى، تدفع المكبس لأسفل ثم تعيد إدارة السهم مجددًا لأجل البنس القادم.

لاحقًا عاد، ثملًا، عندما بدأت ملابسه تجف، فلم يستطع فتح الباب، وأغشي عليه فوق الكرسي الأصفر. كانت ملابسي جافة، وكنت أطويها.

حملت طوني مع إينجل وعدنا به إلى غرفة الكي. الحرارة شديدة. إينجل هو المسؤول عن كل صلوات السكينة والشعارات، «لا تفكر ولا تشرب». وضع إينجل فردة جورب رطبة باردة على رأس طوني وجلس بجانبه: «أخي، صدقني.. لقد كنت مكانك.. بالأسفل هناك، بالحضيض حيث أنت، أنا أعرف كيف تشعر».

لم يفتح طوني عينيه. أي شخص يقول إنه يعرف حقًا كيف يشعر شخص آخر هو مغفل.

مغسلة إينجل في البوكيرك، نيو مكسيكو. الشارع الرابع، محلات رثة وساحات خردة، محلات بالة تحتوي أسرة للجيش، صناديق من جوارب منفردة، نسخة 1940 من كتاب «دليل النظافة»، مخازن للحبوب وموتيلات للأحبة والسكارى والنساء العجائز، نساء بشعر مصبوغ من زبائن المغسلة، مراهقات عرائس من أصل مكسيكي يذهبن كذلك إلى مغسلة إينجل، مناشف، ثياب نوم زهرية قصيرة، ملابس داخلية كتب عليها «الخميس»، يلبس أزواجهن وزرات زرقاء خيطت أسماؤهم على جيوبها. أحب أن أنتظر وأرى الأسماء تظهر في المرآة الخاصة بالمجَفِفات؛ تينا، كوركي، جونيور.

يأتي المسافرون إلى مغسلة إينجل، بملاءات متسخة، وكراسي عالية صدئة مربوطة على أسقف سيارات «بويك» منبعجة قديمة، بأحواض زيت تسرب، ومبردات مياه قماشية تسرب، وغسالات تسرب. يجلس الرجال في السيارات، عراة الصدور، يسحقون علب البيرة الفارغة.

لكنهم الهنود الحمر الذين يذهبون إلى مغسلة إينجل أغلب الوقت، هنود البويبلو[5] من سان فيليب ولاجونا وسانديا. طوني هو الأباتشي الوحيد الذي قابلته على الإطلاق، في المغسلة أو أي مكان آخر، وكنت أحب أن أنظر إلى المجففات المليئة بالملابس الهندية تدور في دوامات متألقة من البنفسجي والبرتقالي والأحمر والزهري.

أنا أذهب الى مغسلة إينجل، لست متأكدة لماذا، ليس فقط لأجل الهنود الحمر، وهي بالجهة المقابلة لي من المدينة.

مع ذلك فعلى بعد مبنى واحد مني يوجد الحرم الجامعي، المكيف، مع الروك الهادئ بالخلفية، مجلات «النيويوركر» و«ميس» و«كوزموبوليتان»، زوجات المعيدين يذهبون إلى هناك، ويشترون لأطفالهم الحلوى والكوكا. لمغسلة الحرم الجامعي عبارة مثل غيرها من المغسلات: «للأسف لا توجد صباغة».

قدت بكل أنحاء المدينة مع ملاءة سرير خضراء حتى وجدت مغسلة إينجل ولافتتها الصفراء: «يمكنك الموت هنا في أي وقت».[6]

استطعت أن أرى أن الملاءة لم تتحول إلى الأرجواني الغامق لكن إلى أخضر موحل داكن، لكنني رغبت بالعودة مجددًا على أي حال، فقد أحببت الهنود وغسيلهم، وماكينة الكولا المكسورة والأرض المغمورة ذكراني بنيويورك.

يمسح البورتوريكيون الأرضية، هواتفهم العمومية دائمًا خارج الخدمة، كهاتف إينجل نفسه.

هل كنت سأذهب للبحث عن جثة السيدة أرميتاج يوم الخميس؟

«أنا زعيم قبيلتي»، قال الهندي. كان يجلس فقط هناك، يحتسي نبيذ البورت وينظر إلى يدي.

قال لي إن زوجته تعمل منظفة منازل، كان لهم أربعة أبناء، انتحر أصغرهم، ومات أكبرهم في فيتنام، والاثنان الآخران كانا سائقين لحافلات المدارس.

سألني: «أتعلمين لماذا أنا معجب بك؟».

«لا، لماذا؟»

«لأنك من ذوي البشرة الحمراء»، وأشار إلى وجهي في المرآة. لدي فعلًا بشرة حمراء، ولكنني لم أر بحياتي هنديًا أحمر البشرة.

كان يحب اسمي، ويلفظه بالإيطالية: لوتشيا. كان في إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. كان يرتدي سلسلة بها بطاقة تعريف عسكرية، بين سلاسل فضية وفيروزية جميلة، وكان للبطاقة تجويف كبير. «رصاصة؟» لا، لكنه اعتاد فقط على مضغها عندما يكون خائفًا أو شبقًا.

اقترح مرة أن نذهب للاستلقاء في عربته ونرتاح معًا.

«يقول الإسكيمو لنضحك معًا». أشرت إلى اللافتة المضيئة بالأخضر الليموني: «لا تبتعد عن الغسالات وهي تعمل»، وقهقهنا، ضحكنا معًا في كراسينا البلاستيكية المتصلة، ثم جلسنا في هدوء، بلا صوت إلا إيقاع المياه القذرة، تدور كأمواج المحيط. يده، كيد بوذا، تمسك يدي.

 مر قطار، فلفت انتباهي ثم قال: «حصان حديدي كبير»، وعدنا للقهقهة مجددًا.

أملك الكثير من التعميمات بلا أساس عن الأشخاص، كمثل أن كل السود يحبون تشارلي باركر، والألمان فظيعون، وكل الهنود لديهم حس بالدعابة غريب مثل أمي. واحدة من نكاتها المفضلة كانت عندما ينحني رجل للأسفل لربط حذائه ثم يضربه شخص آخر قائلًا: «أنت دائمًا تربط حذائك!»،[7] وواحدة أخرى تشمل نادل يسكب الفاصوليا في حجر أحدهم قائلًا: «أوه، أوه، لقد سكبت الفاصوليا».[8] اعتاد طوني أن يكرر هذه النكات لي في الأيام البطيئة في المغسلة.

كان مرة ثملًا جدًا، سكرانًا بحق، فدخل في شجار مع بعض الأوكيز[9] في ساحة انتظار السيارات. سكبوا قنينة الجيم بيم خاصته. أخبره إينجل أنه سيشتري له نصف لتر إذا ما استمع إليه في غرفة الكي، نقلت ملابسي من الغسالة إلى المجفف بينما كان إينجل يتحدث إلى طوني عن مسلسل «يوم واحد في كل مرة».[10]

عندما خرج طوني دفع بنقوده إلى يدي، فوضعت ملابسه في المجفف بينما راح يصارع غطاء زجاجة الجيم بيم، وقبل أن أستطيع الجلوس صرخ في وجهي.

«أنا هو الزعيم، أنا هو زعيم قبيلة أباتشي! تبًا!»

«تبًا لنفسك، أيها الزعيم». جلس فقط هناك، يشرب، ينظر إلى يدي في المرآة.

«لماذا إذن تتولى غسيل الأباتشي؟»

لا أعرف لماذا قلت هذا، كان شيئًا فظيعًا لقوله، ربما ظننت أنه قد يضحك، وقد فعل على أي حال.

«من أي قبيلة أنتِ، يا ذات البشرة الحمراء؟» قال لي، وهو يراقب يدي تخرج سيجارة.

«أتعرف أن سيجارتي الأولى أشعلها أمير، هل تصدق هذا؟»

«بالطبع أصدق هذا، قداحة؟» أشعل سيجارتي ثم ابتسمنا أحدنا نحو الآخر.

كنا متقاربين جدًا، وبعدها أغشي عليه فأصبحت وحيدة في المرآة.

كان هنالك فتاة يافعة، لا في المرآة، بل قبالة النافذة، شعرها ملفلف في الضباب، ناعم كنساء بوتشيلي.[11] قرأت كل اللافتات: «رب هب لي الشجاعة». «سرير أطفال جديد لم يستخدم بسبب وفاة الطفل».

وضعت الفتاة ملابسها في السلة الفيروزية وغادرت. نقلت ملابسي إلى الطاولة، أتفقدُ طوني، وأضع بنسًا آخر. كنت وحيدة في مغسلة إينجل، مع طوني، أنظر إلى يدي وعيني في المرآة، عيون زرقاء جميلة.

كنت مرة على متن يخت قبالة فينيا ديل مار،[12] استعرت أول سيجارة وطلبت شعلة من الأمير علي خان. قال لي: «تشرفنا». لم يكن معه عود ثقاب مع ذلك.

طويت غسيلي، وعندما عاد إينجل رجعت للمنزل.

لا أذكر بالضبط متى كانت اللحظة عندما أدركت أنني لم أر الشيخ الهندي مجددًا.


[1] علامتان تجاريتان للملابس.

[2] نوع من الويسكي الأمريكي.

[3] زوجة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون في الستينيات.

[4] قبيلة من الأمريكيين الأصليين أو «الهنود» كما تشير إليهم الكاتبة.

[5] من الأمريكيين الأصليين في جنوب غرب الولايات المتحدة.

[6] بمعنى أنهم أخطؤوا فكتبوا «الموت» (die) بدل «الصبغ» (dye).

[7] «أن تربط حذاءك» تعبير فيه إحالة لتقديم الخدمات الجنسية.

[8] «أن تسكب الفاصوليا» يعني أن تفشي سرًّا.

[9] نسبة إلى أوكلاهوما، ويشير خصوصًا إلى العمال الزراعيين البيض الذين سافروا غربًا في أثناء الكساد العظيم.

[10] مسلسل أمريكي هزلي أطلقته شبكة «CBS» في 1075.

[11] ساندرو بوتشيلي فنان إيطالي من عصر النهضة.

[12] مدينة ساحلية في تشيلي.