معشوق القطار الذي أماتني وأحياني
قصة زوي فيشمان
نشرت في النيويورك تايمز عن سلسلة الحب المعاصر بتاريخ 20 ديسمبر 2019.
زوي فيشمان روائية أمريكية.
ترجمة: عبد اللطيف أبي القاسم
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
التقينا أول مرة في القطار. حدث ذلك صباح سبت قبل نحو أربعة عشر سنة. وكان لقاؤنا محتومًا، وظل يسحرني على مدى أربع سنوات على متن القطار.
حدث أن التقيته مرة أو مرتين في تلك الحفلات التي كنا ننظّمها في أوائل عشريناتنا في شقق نيويورك. ذلك النوع من الحفلات الذي تُقدَم فيها علب رقائق التورتيا على المناضد البلاستيكية، وتُصَب فيها الصلصة في أطباق إيكيا، وتُوضَع فيها زجاجات الخمر الرخيص إلى جوار أكواب حمراء منفردة وسجائر مشتعلة موضوعة على المنفضات، وتحدث فيها أنشطة غير مشروعة في المرحاض أو على مائدة القهوة مباشرة.
كان حينها يواعد إحدى زميلاتي في العمل. فتاة تدعى لانا، ثم توقف عن ذلك، لكنه ظل بالجوار وإن بعيدًا عن العين وعصيًا على البلوغ. وأحببتُه كثيرًا.
كان اسمه رونين، وكنت أنا وأصدقائي نلقبه بـ«ذاك الفتى الإسرائيلي»، وبعدها ببضعة أشهر، بـ«معشوق القطار».
كنت أراه أحيانًا في الصباحات في طريقي إلى العمل، عند محطة كارول جاردن. كنت أقف على الجانب الآخر من الحاجز الأسمنتي الذي يفصل بيننا والقطار (6) بصدد التوقف. وعندما تغادر الحشود كنت أراه: طويلًا منتصب القامة ذا شعر أسود وتعلو اللحية وجهه. يداه كبيرتان. وأذناه تنصتان للموسيقى. ولم يعد يرافق أي امرأة.
سبع سنوات مرت. كان يحدث خلالها أحيانًا أن يغيب لأشهر. وكنت بين الحين والآخر أود لو أركب القطار برفقة رجل آخر على أمل أن أراه فيراني هو أيضًا مع هذا الرجل الآخر.
لكنني لم أفعل ذلك قط، كما أنني لم أره في الحي حتى وإن كان واضحًا أنه كان يعيش بالجوار.
وعندما التقينا أخيرًا في ذلك السبت المصيري، خرج صوتي مرتعشًا. كان برفقة زميلتي القديمة في العمل، المرأة التي كان يواعدها، لانا، وزوجها الجديد ماكس، صديق رونين المفضل الذي عرف لانا عن طريقه. لم تكن هي ورونين منسجمين، عكس ماكس الذي كانت تشكل معه ثنائيًّا متوافقًا ويحب أحدهما الآخر. ورونين كان جزءًا من هذا الحب.
قالت لانا: «مرحبًا»، وأتبعها رونين بتحية مثلها. فقلتُ له: «أراكَ في القطار بين حين وآخر»، قلتها بصوت مرتفع، أنا متأكدة من ذلك.
«أراكِ بين حين وآخر»، قالها بصوت غير الذي تخيلته دومًا، وثغره يفتر عن ابتسامة تشرق مثل مصباحٍ مضيء. وجدتني أحدق في إشراقته في وجهي. وابتسمتُ في وجهه أيضًا.
بعدها بأسبوع خرجنا في موعد. بعدها بستة أشهر، انتقلتُ للعيش معه. وبعدها بسنة كانت خطوبتنا. ثم بعد ستة أشهر أخرى تزوجنا. لم أكن لأصدق أنني كنت محقة، وأن حدسي بخصوص رونين كان في محله.
لكن الكون أهداني صفعة قوية على وجهي المتعجرف أصابتني بالخرس.
حدث ذلك بعد ثماني سنوات أثمر فيها زواجنا طفلين غاية في الجمال. خرج رونين صوب عمله من منزلنا في ديكاتور بجورجيا، ولم يَعُد. فخلال ذلك اليوم تفجرت في دماغه أوعية دموية دخل على إثرها في غيبوبة لم يَفق منها قط. وبعدها بأسبوع مات.
داخل رأسه الجميل، وخلف ابتسامته المشعة بالطاقة، كانت تربض قنبلة موقوتة، ويعشش تشوه شرياني وريدي في جهازه العصبي عبر تشابك نادر لأوعية دموية غير طبيعية كانت ترابط في هدوء في انتظار تدميره وتدمير من يحبهم ويحبونه.
لا أحد كان يتوقع ذلك. لم أكن أنتظر ذلك بكل تأكيد. لم يدر بخلدي مرة أن رونين قد يكون هنا ذات صباح ويخرج ثم لا يعود في مساء اليوم ذاته.
في يوم تشييع الجنازة كانت درجة الحرارة تقارب الأربعين. والشمس تغمر بأشعتها الحارقة حشد المُعزين الحزانى. قال لي أبي فيما بعد: «لم أر من قبل حشدًا كهذا قط. كان يشبه يوم تشييع جنازة جون كينيدي أو شيئًا من هذا القبيل».
وكذلك كان.
جاء الأصدقاء وأفراد العائلة من كل أنحاء العالم لتقديم العزاء وهم لا يصدقون أن هذا النوع من المآسي قد يصيب رونين، فقد كان من ذلك النوع من الرجال الذين تنبعث طاقة الحياة من كل شيء يفعلونه.
وها أنا ذي، أمسك بيدَي طفلي ذي الخمس سنوات، وطفلي ذو السنتين جالس في حضني يلهو بمصاصته، وأسئلة «إما؟»، «إما؟ إما؟» لا تنتهي. «إما» هي الترجمة العبرية لكلمة «أُم». لطالما كنت أنتظر أن أكون «ماما»، لكنني أصبحت «إما». رونين كان «آبَا» وأنا كنت «إما». هكذا سارت الأمور.
كان العرق يسيل على ساقيَّ والدموع تغمر عينَي. ما الذي حدث بحق الله؟ لم أكن أتوقع لوهلة أن ألقى هذا المآل غير المنصف. لا شيء في طفولتي كان يوحي بذلك، ولا أعرف بماذا يمكن أن أقارنه. كيف انتهى بي المطاف أرملة بلا زوج؟ كيف أمكن لأبيهما أن يرحل؟ سيمر الوقت وسنتقدم في السن، بينما سيبقى رونين في سن الرابعة والأربعين.
عامان ونصف العام مرت على رحيله. وكنت أبحث عنه مع ذلك. هل هو هذا الصقر الذي يحلق في سماء الحي؟ أم إنه تلك الفراشة التي ترفرف في حديقة الدار؟ لكن أيًّا من ذلك لم يكن صحيحًا.
كنت أرى في منامي على نحو متكرر أنه تركني لأجل امرأة أخرى. وكنت أغضب لذلك وتنتابني رغبة في الصراخ. لم أكن أحب هذا الكابوس. صديقتي الحكيمة، بام، افترضت أن ذلك كان محاولة من لا وعيي لإعطاء تفسير آخر لغيابه، وهو افتراض ينطوي على كثير من المنطق. وكان سهلًا عليَّ أن أفهم ذلك.
ولكن لماذا نضيف ألمًا على الألم؟ أليس في الإمكان أن أراه في منامي فقط وهو يرتدي رداءً أبيض؟ ألا يمكن أن يمنحني دفقة من عناقه المعتاد؟ كنت لأفضل ذلك أكثر.
وحدسي؟ ماذا عن حدسي؟ لم أعد أصدقه كما كنت أفعل من قبل، كأن الزمن ضغط على زر إعادة ضبط حواسي من جديد. كل حواسي، لكن هذا الإحساس على نحو خاص: بدأت أفهم الفرق بين الحدس والتبصر. فأن تؤمن بإحساسك وتتبع قلبك هو حدس. أنا لست متبصرة ولم أدعِ يومًا أني كذلك.
لذلك هناك فرق. فمجرد أنني لم أتوقع موت رونين المفاجئ والظالم لا يعني أنه لا يمكنني الإنصات (من حين لآخر، لا سيما عندما يكون قويًا) لذلك الصوت الداخلي في رأسي، وذلك الخفقان في صدري. قد أكون مفجوعة، لكني كنت سأود لو أقع في حبه وأتزوجه من جديد.
كنت لأود ذلك فعلًا.
ذات مرة، عندما كنا نتواعد، قال لي رونين أمرًا ظل محفورًا في أعماق قلبي. كنا نتأمل الناس في ساوث بيتش عندما التفت إلي وقال: «أحيانًا أنظر إليكِ وأنسى أنكِ حبيبتي، وأقول لنفسي: يا إلهي، إنها جميلة. كما لو أنكِ غريبة عني، لكن أدرك بعدها أنكِ لست غريبة، وأنني فخور بك».
لم أكن لأسمع شيئًا أكثر رومانسية من ذلك. لا يهم إذا كان باقي الرجال يرونني كذلك أم لا. ما يهم فعلًا أن رونين يفعل. وحقيقة أنه كان يقول لي ذلك بكل سهولة بينما كان الطبل يُقرع والشمس تغيب بانسيابية في الأفق الأرجواني، كانت تجعل قلبي يتحول إلى ملايين من الطيور المغردة.
أرى رونين في طفليْنا: آري وليف. ابننا آري ذو السبع سنوات يشبه رونين تمامًا. طويل ومنتصب القامة ونحيل وقدماه تشبهان قدمي رجل الجليد وأصابعها طويلة بشكل لا يصدق. ووجهه يشبه وجه رونين، وتعابير وجهيهما أيضًا متشابهة. لم يكن يقلد تعابير وجه أبيه، فقد كان صغيرًا جدًا عندما توفي رونين. لكنها كانت كلها حاضرة: نظرة التعجب نفسها، ابتسامته البلهاء. الطريقة التي تضيء ابتسامته عينيه البُنيتين. وها هو ذا.
أما ليف، ابني ذو الأربع سنوات، فيشبهني أكثر من رونين، عدا الأشياء التي يقولها! كان رونين يطلب مني أن أعانقه «بشكل أقوى». كان يقول: «أقوى» حتى أكاد لا أتنفس إلا بصعوبة. ليف يقول الأمر نفسه بالنبرة نفسها.
طفلانا كانا يشفّان عنه. كانا يقولان أشياء تصدمني.
حدث مرة أن كنت جالسة قبالة مسبح منزل صديق لوالدي في فلوريدا، مبتلة والماء يتقاطر مني، فوقف ليف من جانب الجهة العميقة من المسبح وشرع ينظر إلي. كان ينظر إلي مليًا.
سألته: «ماذا؟»
فأجاب: «إما. تبدين جميلة جدًا».
وحدث مرة أخرى أن كنت أضع آري على سرير النوم، وقبل أن أخرج من الغرفة قال لي: «إما؟»
«نعم؟»
«أنتِ أجمل مما تعتقدين».
هذه ليست أمورًا طبيعية يمكن أن أتخيل طفلين صغيرين يقولانها لأمهما. كانت أمورًا غريبة من العالم الآخر. أقسم أنني لم أمنحهما رشوة حتى يقولاها. والتفسير الوحيد الذي أمكن لي تقديمه كان أن رونين يتحدث من خلالهما.
هذا ما كان سيقوله لي الآن لو أمكنه ذلك. إذا كان كما يفترض أن يكون.
ولقد أحسست بذلك في داخلي بشكل حدسي ومؤكد. إنني أسمعه من خلال أصواتهما.
ولقد غرس الزمن بذور تفاؤل أخرى في تربتي الجديدة. ولقد أمكن لي ووجب أن أتبع قلبي. وأنا اليوم ممتنة لأنها تنمو وتزهر.
2 Replies to “معشوق القطار الذي أماتني وأحياني – زوي فيشمان – قصة قصيرة”
الله ع الجمال
حروف بسيطة وعميقة