الفجوة والتعويض 

نص لسيمون ڨـاي*

ترجمة: أحمد فتحي إسماعيل،

عن الترجمة الإنجليزية لإما كروفورد وماريو فون دير رور

سيمون ڨـاي فيلسوفة وناشطة ومتصوفة فرنسية ولدت لأبوين يهوديي الأصل في فبراير من عام 1909. عملت مدرسة بعد تخرجها وكرست نفسها للنشاط الحقوقي. رغم نشأتها البعيدة عن الدين نمى لديها اهتمام عميق بالكاثوليكية والتصوف. توفيت في أغسطس 1943 عن عمر يناهز 34 عامًا بسبب تدهور حالتها الصحية، مخلفة قائمة كبيرة من الأعمال. لاقت أعمالها رواجًا واسعًا بعد موتها، وهذا النص هو ترجمة للفصل الثاني من كتابها «Gravity and Grace»، أول أعمالها المنشورة، وهو مجموعة من النصوص المتفرقة انتقاها جوستاف تيبو من دفاتر سيمون ڨاي ورتبها حسب رؤيته.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


سيمون ڨاي عن موقع كاثوليك أوت لوك


ميكانيكا الإنسان. من يعاني يحاول بث معاناته (بإساءة معاملة الآخرين أو باستدعائه شفقتهم) حتي يخفف هذه المعاناة، وتنجح تلك الطرق في أداء غرضها. أما لمن هو في الدرك السحيق حيث لا أحد ليشفق عليه ولا سلطة ليسيء لأحد (إن لم يكن له ولد ولا حبيب)، فإن المعاناة تبقي في داخله وتسممه.

هذا حتمي كما الجاذبية. كيف ينال أحدنا الخلاص؟ كيف الفكاك من سلطة شبيهة بالجاذبية؟

ميل الإنسان إلى نشر الشر خارجه: ما زال لدي! الكائنات والأشياء ليست مقدسة إلى هذا الحد عندي. لم أرد أبدا أن ألطخ أي شىء حتى وإن كان ذلك يحولني كلي إلى وحل. ألا ألطخ أي شيء، حتى في خيالي، حتى في أسوأ لحظاتي، لن أدمر تمثالا يونانيًا أو جدارية لجيوتو. فلماذا أدمر أي شيء آخر إذن؟ لماذا أدمر، على سبيل المثال، لحظة في حياة إنسان كان بإمكانه أن يكون سعيدا فيها؟

من المستحيل أن نغفر لمن أذانا إذا أحط من قدرنا الأذى. يجب أن نفكر أنه لم يحط من قدرنا، لكن كشف مستواه الحقيقي.

رغبتنا أن نرى الآخرين يعانون تمامًا مثلما نعاني. ولهذا السبب، باستثناء فترات الاضطراب الاجتماعي، تنصب ضغينة قليلي الحظ على أقرانهم، وذلك من عوامل الثبات الاجتماعي.

ميلنا لنشر المعاناة خارج أنفسنا. إذا لم نقدر على استدعاء الشفقة ولا فعل الأذى فإننا نهاجم ما يمثله الكون نفسه بالنسبة لنا، وعندها يصير أي خير أو جمال كإهانة.

أن تؤذي إنسانًا هو أن تستقبل منه شيئًا. ما هو؟ علام حصلنا (وماذا يجب علينا تسديده) عندما نؤذي؟ تحصلنا بداخلنا على أهمية. توسعنا. ملأنا فراغًا بداخلنا بخلق فراغ آخر داخل شخص آخر.

أن نتمكن من إيذاء الآخرين بلا رادع. مثلًا، أن نصب غضبنا على من هم أدنى منا وملزمون بالصمت، هو أن نعفي أنفسنا من صرف الطاقة، صرف سيتعين على هذا الآخر أن يقوم به، كما هو الحال في إشباع أي رغبة بصورة غير مشروعة. فما نوفره من طاقة بهذه الطريقة لا يلبث أن يتآكل في الحال.

أن نغفر. لا نستطيع أن نفعل هذا. عندما نؤذى تتولد الانفعالات داخلنا. الرغبة في الانتقام هي رغبة في التوازن الأساسي. يجب أن نطلب التوازن عن طريق آخر، وعلينا أن نتعمق بعمق هذا الحد بأنفسنا، وهناك سنصل إلى الفجوة. (إنما يساعد الله أولئك الذين يساعدون أنفسهم).

الصداع. في لحظة ما، يقل الألم بإسقاطه على العالم، لكن العالم غير مستجيب؛ يرجع الألم إلى موطنه أكثر حدة، لكن شيئًا فيَّ لا يعاني ويظل على صلة بالعالم الذي يستجيب. تعامل بمثل هذا مع العواطف. اجعلها تسقط لأسفل كراسب، اجمعها في نقطة وافصل نفسك عنها. تعامل، بالأخص، مع كل ما تعانيه بمثل هذه الطريقة. امنع المعاناة من الولوج إلى الأشياء.

البحث عن التوازن أمر سيئ لأنه محض خيال. الانتقام، حتى ولو فعلًا نقتل أعداءنا أو نعذبهم، فذلك بمعنى ما، محض خيال.

الرجل الذي عاش من أجل وطنه، أو عائلته، أو أصدقائه، أو من أجل أن يحوز الثروة، أو يحسن وضعه في المجتمع، إلخ. في حرب: اقتيد بعيدًا كعبد وعليه من لحظتها أن يهلك نفسه إلى أقصى حدود قوته الممكنة فقط لكي يكون.

هذا مرعب، مستحيل، ولهذا السبب يتشبث بأي هدف يقدم نفسه بغض النظر عن مدى حقارته، فليكن لا شيء سوى أن يعاقب عبدًا يعمل بجانبه. لا يملك خيارًا لأي هدف. أي هدف على الإطلاق هو كفرع شجرة يطفو لرجل غريق.

هؤلاء الذين دمرت أوطانهم واقتيدوا بعيدًا إلى العبودية ما عادوا يملكون ماضيًا ولا مستقبلًا: ما الذي يملكونه ليشغلوا به أذهانهم؟ أكاذيب وأكثر الرغبات انحطاطًا ومدعاة للشفقة. ربما كانوا على استعداد أكبر للصلب من أجل سرقة دجاجة عن استعدادهم للمجازفة بالموت في معركة دفاع عن وطنهم. وهذا لا شك صحيح، وإلا لما كان لهذه العذابات المروعة من ضرورة.

لولا ذلك لكان عليهم أن يكابدوا فراغًا في عقولهم. 

ولكي نحوز ما يكفي من قوة لنتأمل حسرتنا حين تصيبنا الحسرة، نحتاج خبزًا للروح.

ما لا طاقة لنا به ينخر فينا عبر هذه العملية: كقاعدة عامة، فإن الطاقة التي توفرها المشاعر العليا محدودة. اذا اضطرنا الموقف إلى تجاوز الحدود تلك فلا مخرج سوى أن نتراجع إلى المشاعر الأدنى (الخوف، الجشع، الرغبة في السبق، حب استقبال المديح) وهي أوفر في طاقتها.

هذه المحدودية هي مفتاح كثير من النكوص.

مأساة هؤلاء الذين هداهم حب الخير إلى سبيل يتوجب عليهم فيه أن يتحملوا المعاناة، هي أنهم وبعد وقت ما سيبلغون منتهى استطاعتهم ثم ينحدرون.

صخرة في طريقنا. أن نقذف بأنفسنا على هذه الصخرة فتصير من مبلغ رغبتنا العارمة وكأنها ما عادت قادرة على أن تكون. أو أن ننسحب وكأننا نحن الذين لم نكن. تحوي الرغبة شيئًا من المطلق، وإذا فشلت (عندما تستنزف طاقتها) ينتقل المطلق إلى ما حال دونها. يخلق هذا ذهنية المنهزم، المقهور.

أن نستوعب (في أي شيء) أن هناك حدودًا وأنه بدون إغاثة خارقة للطبيعة لا يمكن تجاوزها، وإن أمكن فبمقدار قليل للغاية وعلى حساب سقوط مدوي يعقبها.

الطاقة، بعدما تحررت باختفاء الأسباب المولدة للدوافع، دائما ما تنحى متجهة إلى أسفل.

المشاعر المنحطة (الحسد، الكراهية) هي طاقة متفسخة. 

الرضا عن النفس بعد فعل خير (أو إنجاز عمل فني) هو طاقة عالية تتردى. لذلك يجب ألا تعلم الشمال ما تنفق اليمين. 

مكافأة متخيلة بالكامل (ابتسامة من لويس الرابع عشر) هي المكافئ الدقيق لما تكبدناه، لأن لها نفس القيمة تمامًا لما تكبدناه، بخلاف المكافآت الحقيقية، والتي لمجرد كونها كذلك، تحمل قيمة أعلى أو أقل. لهذا فإن الامتيازات المتخيلة وحدها هي التي توفر للمجهود غير المحدود طاقته. لكن من الضروري أن يبتسم لويس الرابع عشر بالفعل، وإن لم يبتسم، فهو الحرمان الذي لا يوصف. 

 في معظم الأحيان، لا يقدر الملك أن يخلع على رعيته إلا بمثل تلك المكافآت المتخيلة وإلا سيفلس.

والأمر مماثل في الدين على نحو ما. بدلًا من تلقي الابتسامة من لويس الرابع عشر نخترع إلهًا يبتسم إلينا.

أو بدلًا عن ذلك، نمجد أنفسنا. لا مناص من وجود مكافأة على نفس القدر. أمر حتمي كالجاذبية.

حبيب خيب أملي فيه. كتبت إليه. يستحيل أن يرد علي إلا بمثل ما قلته لنفسي على لسانه.

يدين الناس إلينا بما نتخيل أنهم سيمنحوننا إياه. يجب أن نعفيهم من هذا الدين.

أن نتقبل حقيقة كونهم مغايرين لما نخلقه عنهم من خيال هو أن نحاكي زهد الله.

أنا أيضًا مغاير لما أتخيله عن نفسي. أن أدرك ذلك هو المغفرة.