اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

حياة شارلوت برونتي لإليزابِث جاسكل (1857)

مقال لروبرت مكروم

نُشر بموقع الجارديان 17 أبريل 2017

ترجمة: مريم ناجي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


إليزابيث جاسكل، عن الجارديان

ربما كانت شارلوت برونتي، التي فارقت الحياة عام 1855 عن عمرٍ يُناهز الثامنة والثلاثين عامًا، بمثابة بطلةٍ في إحدى روايات إليزابِث جاسكل. مثل مارجريت هيل في رواية «شمال وجنوب» (نُشرت عام 1855)، ومثل مولي جيبسون في رواية «زوجات وبنات» (نُشرت عام 1864)، كان على شارلوت أن ترعى أباها الأرمل والعدواني في ظل ظروفٍ صعبة، مواجهةً وقائع المرض والموت الموحشة. ولربما هذا هو منبع علاقة الصداقة الاستثنائية بين كاتبتين عظيمتين من العصر الڤيكتوري، والتي سيُثمر عنها واحدة من أبرز السِّير الذاتية الأدبية في النثر الإنجليزي.

تقابلت الروائيتان لأول مرة في منطقة بحيرة ليك ديستريكت[1] في صيف 1850. كانتا مثل قُطبين متنافرين من نواحٍ عدة؛ جاسكل جميلة وشخصية مشهورة على نحوٍ مذهلٍ وعالمي. كانت أمًّا لأربعة أطفال، وعلى معرفةٍ بالممرضة فلورنس نايتينجيل وجون راسكن وتوماس كارليل، وحتى ديكنز، الذي لم تكن على وفاقٍ معه (كتبَ ديكنز: «إن كنت مكان السيد ج، أوف يا ربي، كيف كنت سأتغلبُ عليها»). على العكس، شارلوت (التي تَخفّت تحت اسمٍ مستعار؛ «كورير بيل») كانت امرأةً سقيمة، متواضعة وانطوائية وتجزع من الأطفال، ولم تستجمع شجاعتها لتدخل مجتمع لندن الأدبي إلا نادرًا. رغم ذلك، افتُتنت كل واحدةٍ منهن بالأخرى.

دعتْ برونتي السيدة جاسكل لزيارة منزل العائلة في قرية هاوورث -وهو تشريفٌ يَندُر حدوثه- وكذلك كنَّت جاسكل إعجابًا شديدًا لصديقتها الجديدة. قالت إلى أحد الصحفيين مُتعجِبةً: «لم تمر عليَّ حياة كحياة الآنسة برونتي مطلقًا».

لكن برونتي توفيت في غضون خمس سنوات من لقائهما الأول. وبعد مرور حوالي عشرة أسابيع عقب موتها، أرسل والدها الثكلان –باتريك- اقتراحًا للسيدة جاسكل لتكتب عن حياة ابنته. بعد يومين، كانت جاسكل تُخبر ناشر برونتي -جورج سميث- عن مدى توقها «لتأدية هذه المَهمَّة الجسيمة المُلقاة على عاتقي بإتقانٍ وعلى نحوٍ تام».

أُحِيطَ المشروع بأكمله بروحٍ كلها ثقةٍ وحتمية مستمدة من يقينٍ ڤيكتوري الطابع؛ باشرت كاتبة السِّيرة «مهَمتها الجسيمة» وعقدت عزمها على أن تُعرّف روايتها الأجيال القادمة بصديقتها، كتبت: «كلما اِتَّضحَت صورة شارلوت برونتي أكثر -شارلوت الصديقة والابنة والأخت والزوجة- ستكون موضع تقديرٍ أعلى».

على عكس معظم كتّاب السِّير المعاصرين، بدأت جاسكل رحلة بحثها بمهمةٍ واضحة: أن تسجل وقائع «حياةٍ جامحة وحزينة، والشخصية الجميلة التي نشأت عنها»، كما شهدتها بنفسها.

تأثر سردها بإخلاصها لصديقتها من البداية، حتى مع إقرارها بأن نصّها متحيز: «التعقيد الذي فرض نفسه عليّ بقوة عندما شرفت بطلب كتابة هذا السِّيرة هو كيف سأُظهر المرأة النبيلة الأصيلة الرقيقة التي كانتها شارلوت برونتي دون أن تتشابك حياتها أكثر من اللازم مع التاريخ الشخصي لأقرب وأعزّ صديقاتها. وبعدما أمْعَنتُ التفكير في هذا الأمر، توصلتُ إلى قرار الكتابة بصدق (إن كتبتُ في المطلق) دون أن أُخفي شيئًا، رغم أنه قد لا يُحكى عن بعض الأمور على نحوٍ شامل -بحكم طبيعتها- مقارنةً بأشياء أخرى».

نتج عن هذا التقدير، إضافةً لمجهودها، مجموعة من العواقب؛ إذ ذُهِلَ أكثر كُتَّاب السِّير وقتئذٍ باللهفة التي دفعتْ جاكسل لإكمال مَهمَّتها. أنهتْ العمل بسرعةٍ هائلة، في مدةٍ تصل إلى ثمانية عشر شهرًا من البداية حتى النهاية. بدأت في تأليف كتابٍ يصل عدد صفحاته إلى خمسمائة صفحة في صيف عام 1855، واستلمته المطبعة في ربيع عام 1857، ونُشر في الخامس والعشرين من مارس من العام نفسه.

بُنيت صورة «الآنسة برونتي» جزئيًا اعتمادًا على الاقتباس المُستفيض من رسائل شارلوت، التي قدمتها جاسكل إلى القارئ في منتصف الحقبة الڤيكتورية وسبَبتْ استفزازًا لحظيًا وأثارت جدلًا مُستمرًا لوقتنا الحاضر. إن كانت جاسكل مُنصِفة ويَقظة الضمير في رسمها لصورة شخصية السيرة الذاتية، والتي لم تكن بأكثر من مَوضِع خلافٍ بسيط، فإنها أطلقتْ غَرائزها الروائية من عِقالها في رسمها لصورة شقيق برونتي -برانويل- وصورة والدهم باتريك. صوَّرت جاسكل مرحلة انهيار برانويل وموته السابق لأوانه كنتيجةٍ لإقامته علاقة غرامية مُتقدَّة مع زوجة مديره، والتي طَعَنت جاسكل في سمعتها في الطبعة الأولى لدرجة أنَّ الأمر اِستلزم سحب الدفعة الأولى والثانية من الطبعة من السوق وتنقحيها وتصحيحها.

قد تَتَساءل ما علاقة كل هذا بشارلوت برونتي؟ كانت جاسكل مُصممةً على سرد المآسي التي تعرضت لها شارلوت في منزلها باعتِبارها جزءًا لا يتجزأ من الأعباء التي أثقَلت كاهلها والتي شكَّلت حياتها وفنَّها، واستخدمتْ كل الأدلة التي عثرتْ عليها لتُحَقِق هذا الهدف. على أية حال، روايتها عن انهيار شقيقها على يد ليديا روبينسون [زوجة مديره] لا تُعتبَر شيئًا مقارنةٍ بالصورة التي قدمتها عن باتريك برونتي. مرةً أخرى، كانت جاسكل صريحةً حِيال المتاعب التي واجهتها وهي كاتبة سيرة ذاتية. كتبتْ عن برونتي الأب: «لا أَدَّعي قدرتي على المُواءمَة بين سمات شخصيته أو فِهمِها ووضعِها في قالبٍ واحد مُتَّسقٍ ومفهوم. تنغرس جذور العائلة التي أبحثُ فيها حاليًا على نحوٍ أعمقَ من قُدرتي على التوغل فيها. ليس في وسعي قياس هذه الجذور، نَاهِيك عن هل لي أنْ أحكُم عليهم من الأساس. لقد ذكرتُ أمثلةٍ على عادات الأب الغريبة لأنني أعرفُ مدى أهميتها لفهم حياة ابنته فِهمًا سليمًا».

كتبَ أحدُ النُقاد أن «والدَ الأخوات برونتي كان حتمًا مُدركًا لغراباته، ورغم أنه ما مِن شكٍ في أن السيدة جاسكل بالغت من شأنها لِتوضِح الضغوط التي عانتْها شارلوت في طفولتها، فإن اعتراضاته كانت بسيطة مقارنةً بالمديح الذي قدَّمه حينما نُشرت السِّيرة الذاتية لأول مرة».

من وجهة نظر البعض، لُطِختْ سمعة باتريك برونتي على نحوٍ يتعذر إصلاحه بسبب الشخصية التي قدمتها جاسكل، رغم أن أغلب من صوَّرته عن حياة آل برونتي العادية بدا متحفظًا بشدة: «أبقت الأخوات [آن وإيميلي وشارلوت] مُغامَراتِهن الأدبية سرًا عن مسامع والدهن تَخوفًا من أن تزداد مشاعر قلقِهُن وخيبة أمَلِهُن إثْر رؤية قلقه وخيبة أمله هو؛ وذلك بسبب اهتمامه الشديد بكل ما يحدث لأبنائه، وبسبب أن ميله للأدب كان مقتصرًا على أيام شبابه وطموحه».

هذه كتابةٌ لَبقَةٌ دون شك؛ في أجزاء أخرى، كانت تكتبُ عنها وكأنها تكتب سيرةً ذاتية لقِدِيسة. طمستْ جاسكل عددًا من الحقائق غير المُلائمة لدرجةٍ لم يكن لأيٍ من كتّاب السِّير في القرن الواحد والعشرين أن يُباريها. وَقعتْ شارلوت في حب أُستاذها المتزوج كونستانتين هيجر خلال السنوات التي قضتها في بلجيكا، وبالرغم من أن رواية «الأستاذ» (نُشرت عام 1857) ورواية «ڤيليت» (نُشرت عام 1853) توضحان بالتفصيل المُمل حالتها الذهنية خلال تلك العلاقة الغرامية، رأتْ جاسكل أنها مسألةٌ شائكة للغاية على أن تُطرح أمام حساسيات المجتمع الڤيكتوري. وفي أجزاءٍ الأخرى، كانت جاسكل واضحةً وصادقةً كفاية، لكنها حذفتْ أيضًا أي أثرٍ يُشير إلى علاقة شارلوت بجورج سميث، ناشر أعمالها وسيرتها الذاتية أيضًا.

حديث جاسكل عن عملية نشر رواية جين إير (نشرت عام 1847) -المسيرة المحذوفة بشكلٍ لا يُصدق من العالم المعاصر للوكلاء الأدبيين وأساتذة الكتابة الإبداعية ومهرجانات الكتاب- يقتنصُ تفاصيل تحوّل برونتي الاستثنائي إلى الشهرة بعدما كانت خاملة الذِكر، وهي تحاول أن تفهم «التيارين المتجاورين»: حياة الكاتب الرجل، «كورير بيل»، وحياة شارلوت برونتي، المرأة. «وقعتْ واجباتٌ منفصلة على كاهل كل شخصية منهما، ولم تتعارض مع بعضها. لم يكن مستحيلًا التوفيق بينها، لكنه كان أمرًا صعبًا».

شعرتْ جاسكل براحةٍ أكبر حيال منزل هاوورث أكثر من مجتمع لندن الأدبي، ورسمتْ صورةً لا تمحى من الذاكرة لحياة الأخوات المنزلية بشكلٍ عام ولحياة شارلوت بشكلٍ خاص. يُظهر استخدمها لرسائل إلين نوسي -صديقة الأسرة- عزمها على تقديم صورةٍ شاملة للفنانة التي نشأتْ في مجتمعٍ محلي فقير عاطفيًا ومُعَذب، والذي لا يزال مجتمعًا مدهشًا ورهيبًا في الوقت ذاته. كانت كتابة جاسكل عن منزل هاوورث هو جوهر اكتمال سيرة شارلوت برونتي الذاتية، وكذلك مصدر جدلٍ مستمر. الواقع هو أن الميتات المتعاقبة لكلٍ من برانويل وإيميلي وآن (مُتضافرةً مع حياةٍ طغت عليها «غرابات» الوالد الاستبدادية) شكلتْ عِبئًا يستحيل تَصوّر ثقله على وجدان الروائية المُتأمّلة والمفرطة الحساسية.

كانت جاسكل واثقة من أنها فعلتْ ما بوسعها؛ كتبتْ لإلين نوسي: «وزنتُها سطرًا سطرًا بكل طاقتي وقلبي» لتأدية «الغرض السامي لأي كاتب سيّر: أن أجعلها ذائعة الصيت». ويُعد كتاب «حياة شارلوت برونتي»، من وجهة نظر بعض القرّاء، أفضل أعمال جاسكل.

اقتباسٌ مهم

«محتملٌ أنه سيكون من الأفضل وصف الأشخاص الأخيار والطيبين وما يفعلونه من أشياء طيبة وجميلة فحسب (وفي تلك الحالة، من غير المحتمل أن يكتبوا في أي زمن): كل ما أقوله هو إنني أؤمن بأن النساء اللواتي حظين بعطايا مذهلة كهذه، لم يتمكّن أبدًا من مزاولتها بشعورٍ كاملٍ بالمسؤولية كي يستخدمنها».


 [1]  منطقة جبلية في شمال غرب إنجلترا، وهي وجهة شهيرة لقضاء العطلات، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعديد من الأدباء منهم ويليام وردزورث وجون راسكن.