التأقلم مع القلق المصاحب لفيروس كورونا: أربعة دروس من سورين كيركجارد

مقال لبراين روزنر

نُشر في ABC

ترجمة: أمل عبد الرحمن وسارة علاء

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمتان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهما دون إذن منهما.

براين روزنر هو عميد كلية رايدلي بملبورن، وزميل في مركز المسيحية العامة. ومؤلف كتاب معلوم من الرب: نظرية لاهوتية مسيحية للهوية الشخصية ومحرر عزاءات اللاهوت. (هذه المقالة تُبني على فصل في العزاءات، عن القلق لدى كيريكجارد، كتبه بيتر بولت).


سورين كيركجارد، عن christianity today

بينما تطول أسابيع العزلة بسبب فيروس كورونا وتبدو كأنها تتحول لشهور، يكون المميز في أسبوعي هو رحلتي إلى المحلات، ونتشاجر أنا وزوجتي على امتياز الذهاب في هذه الرحلة. إلا أن الحرية المنعشة للهروب من الحبس المنزلي والسهولة المفاجئة في إيجاد مكان لركن السيارة سرعان ما تتبدد بمجرد دخول السوبر ماركت، حيث يحييك أحد الموظفين مرتديًا كمامة ويوزع معقم الأيدي، وتتجول كما لو أنك بداخل لعبة كمبيوتر تتفادى تهديدًا غير مرئي، وتقف بهدوء في صف الخروج على علامات على الأرض يفصلها عن بعضها متر ونصف، وفي هذا ما يكفي لبث الفزع في أكثر الأرواح هدوءًا.

أحد أكثر آثار الجائحة سلبية هو بالقطع الارتفاع في القلق الجمعي، أو الفزع من أن أمرًا سيئًا جدًا يمكن أن يحدث. هل سأصاب بالمرض؟ هل سأفقد وظيفتي؟ هل سينفد مالنا؟ هل سينجو أحبائي المسنين؟ هل ستعود الأمور لطبيعتها؟ والأمر الوحيد الأكيد هو أنه لا شيء مؤكد.

يبدو أننا دخلنا عصرًا فريدًا للقلق على مستوى عالمي، قلق على شاكلة أهوال الكوارث التي يذكرها الإنجيل. وعلى مدى عقود كان متخصصو الصحة يحذرون من أن اضطرابات القلق في تزايد في الدول الغربية. والآن أكثر مما سبق نحيا في عصر القلق. منحني مثال ديتريش بونهوفر[1] قليلًا من المواساة في محاولة تأقلمي مع إحباطاتي المصاحبة لفيروس كورونا. فمن يمكن أن أبحث عنده عما يعينني على التعامل مع معدلات القلق المتزايدة؟

الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد (1855–1813) مرشح واعد لعدة أسباب. فحتى يومنا هذا لا يزال مؤثرًا بين الفلاسفة وعلماء النفس واللاهوتيين، وفي عام 1844 ألف كريكجارد كتابًا تُرجم للإنجليزية تحت عنواني «مفهوم الفزع» (1944)، و«مفهوم القلق» (1980)، كتبه كيركجارد باسم مستعار هو «فيجيليوس هوفينينسوس»، والذي يعني حارس السوق، مما يجعله ملائمًا جدًا لأن نلجأ إليه ليساعدنا مع قلق السوبر ماركت.

سبب آخر لكون كيركجارد مناسبًا لمساعدتنا هو خبرته الحياتية، فإذا كان لأحد سبب للقلق فهو كيركجارد. فمن بين سبعة أخوة لم ينج سواه وأخيه بيتر من ويلات الحوادث والمرض ومضاعفات الولادة، كما أن والده قد شاركه هو وأخاه اعتقاده بأن الرب لعنه ويعاقبه بموت أطفاله الواحد بعد الآخر. وفي مرحلة لاحقة من حياته صلى كيركجارد قائلًا «يا إلهي، يا إلهي، كانت طفولتي تعيسة ومُعذَبة، وشبابي مليئًا بالمآسي».

كان انفصاله عن خطيبته «ريجينا أولسن» لحظة حاسمة في شبابه، و قرارًا بائسًا يكرر العودة إليه في كتاباته، فكيركجارد نموذج أمثل للبشر الفزعين والقلقين.

ومع ذلك، لا ينبغي اعتبار إسهامات كيركجارد في موضوع الاستجابة للقلق مجرد سيرة ذاتية. بلا شك كانت صعوبات حياته حاضرة في ذهنه أثناء الكتابة، لكن معظم ما سعى للتفكير فيه كان يخص حياة البشر بشكل عام، وتحديدًا الحياة في ظل الرب. وقد أصاب جان بول سارتر في قوله «أثناء قراءتي كيركجارد، أتسلق عائدًا إلى نفسي، وأحاول أن أمسك به فلا أمسك إلا ذاتي».

وفقًا لكيركجارد، القلق «نوع من الرعب المطلق، هاجس مروع لخطر غير معلوم ولكنه ممكن». هذا يصوغ جيدًا ما يشعر به كثيرون منا في هذا الوقت المضطرب.

يمكننا التقاط أربعة دروس من كيركجارد فيما يتعلق بتخوفاتنا المرتبطة بفيروس كورونا.

1. عصر القلق الحالي لا يعتبر غير مألوف في التاريخ

إحساس البشر بالقلق والاغتراب قديم قدم ملحمة جلجامش، أحد أقدم نصوصنا الناجية، وفيها صُورت البشرية بأنها مهددة بالإبادة لأنها أزعجت قيلولة الآلهة. بالنسبة لكيركجارد، يمكن تقفي أثر القلق إلى البدايات الأولى للوجود الإنساني والطريقة التي صورت بها القصص التوراتية «وقوع» البشرية في الخطيئة. يشير لهذا العنوان الفرعي غير المعتاد لكتاب «مفهوم القلق»: «استقصاء نفسي بسيط موجه نحو القضية العقائدية للخطيئة الموروثة».

كل منا يوجد مع ما يسميه كيركجارد «القلق الموضوعي»، أو لاطمأنينة جوهرية، مُدمجة في أجسادنا الفانية. وفي العهد الجديد يصف أحد الكتاب المسيحيين حياة الإنسان بأنها «يستعبدها الخوف من الموت». ويعتقد كيركجارد أننا نتعامل مع هذه اللاطمأنينة الروحية بطلب الأمان من المتاع المادي والمكانة والنفوذ، وكل هذا لا يعطينا الأمان في النهاية. فليس من العجب إذًن أن نشعر بالقلق عندما تُنزع منا مثل هذه الأشياء أو تبدأ في التفتت.

يمكننا القول إن العديد من الفترات الزمنية في التاريخ الإنساني قد تُدرج تحت مصطلح «عصر القلق»، دون أن نقلل من حجم أزمتنا الحالية. فقديمًا استُخدم المصطلح لوصف العصور الوسطى وإنجلترا بالقرن السابع عشر والفترات التي تلت الحربين العالميتين. ينطبق نفس الوصف على عالم القرن الأول حيث مهدت باكس رومانا[2] الطريق ببطء للاضطراب الاجتماعي. إذا كانت لديك شكوك حول تهديدات الحياة العادية في هذه الفترة يمكنك قراءة رواية «دمشق» لكريستوس تشولكاس، الرواية التاريخية الأخاذة عن بولس الرسول، والتي تصف الوحشية القاسية للحياة اليومية في الإمبراطورية الرومانية بتفصيل صارخ.

أن تكون إنسانًا يعيش تحت ظلال الموت في هذا العالم الساقط، يعني أن تكون قلقًا. وبقدر ما تحصننا ضده وسائل الراحة الكثيرة التي غمرنا بها العالم الغربي الحديث يظل البشر يعيشون بصفة مستمرة في عصر من القلق.

2. عش اللحظة

يرى كيركجارد أن لكل فعل «لحظة» يُراد فيها. يكمن جزء من حله لما نختبره من قلق على المستوى الذاتي في تركيز الفكر على الحاضر ومن ثم عدم الجزع بشأن الممكنات التي لا تزال تقبع في المستقبل. وفيما يتعلق بأزمتنا الحالية فإن التوقعات بشأن تاريخ انتهائها تتراوح بين نهاية شهر مايو، أو في خلال ستة أشهر، أو ستمتد لسنة أو اثنتين. التساؤل الزائد حول المستقبل أمر مفهوم، لكنه لا يفيد.

في هذه النقطة يستبق كيركجارد الطب النفسي الحديث وتمارين الحضور الذهني، غير أنه يصوغ مفهوم «اللحظة» بشكل لاهوتي، فينصح بأنه عندما نوشك على التصرف بطريقة أو بأخرى، مع كل القلق الذي يُثار، يجب أن نرى أنفسنا في هذه اللحظة بوصفنا نعيش في ظل الرب، ومسؤولين أمامه عما نعيشه اليوم.

جزء من الإجابة على أفكارنا القلقة بشأن المستقبل هو أن نبقى في الحاضر. يتبنى بيت دافيس، أخصائي علم المحيطات بالهيئة البريطانية لمسح القطب الجنوبي، هذا التوجه في بعثاته إلى القطب الجنوبي والتي تكون غير محددة المدى بسبب تقلبات الطقس. يقول دافيس: «أسوأ شيء تفعله هو التركيز على سؤال متى ستنتهي العزلة، وأفضل شيء تتجنبه هو التفكير فيما سيحدث في غضون ثلاثة أشهر حينما تكون بدأت للتو، فجل ما يمكنك التحكم فيه هو ما سيحدث اليوم أو غدًا».

قال المسيح شيئًا مشابهًا: «فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ». (مت 6:34). في حالة المسيح، نصيحة أن تعيش في الحاضر هي نصف القصة، يُكملها حثه لأتباعه على التركيز على أمر هادف، وهو السعي أولًا لملكوت الرب (مت 6:33).

3. القلق فرصة للإيمان

بالنسبة لكريكجارد فإن العيش المسؤول في اللحظة في ظل الرب، يتضمن تحويلنا لأفكارنا القلقة إلى صلوات لرب محب وجدير بالثقة، فالقلق يمكن أن يخدم غاية. ويعلق كيركجارد مؤكدًا على هذه الإحالة من قصة الأخوين جريم الخيالية «الشاب الذي ذهب ليعلم ماذا كان الخوف»، فيقول:

«هذه مغامرة يجب على كل إنسان أن يخوضها، ليتعلم كيف يكون قلقًا حتى لا يهلك من كونه لم يكن قلقًا من قبل ولم يخضع للقلق، فمن تعلم أن يكون قلقًا بالطريقة الصحيحة فقد بلغ غاية التعلم».

وبالرغم من ميله إلى الفلسفة الوجودية، فإن القلق بالنسبة لكيركجارد هو دعوة للإيمان والثقة بالمسيح المخلص، إيمان يُعبر عنه بصلوات محمومة، سعيًا لأن نكون الشخص الذي يريدنا الرب أن نكونه. أظهرت عدة من الدراسات أن الصلاة ترتبط بالسواء النفسي والصحة الجسدية، وأن المصلين أقل عرضة لأن يصبحوا قلقين ومُحبَطين. ومع كل قلقه، فإن كيركجارد يرى القلق كحافز قوي للجوء إلى الرب وإيجاد السلام في حال من الأمل والثقة. فهو يصلي قائلًا: «علمني يا إلهي أن أتنفس الإيمان عميقًا».

4. جد البهجة بين ثنايا القلق

بالرغم من طفولته المرعبة وتجربة الصدمة والألم على مدار حياته، وجد كيركجارد البهجة بين ثنايا المعاناة. ويمكننا أن نرى هذا مرة بعد الأخرى في «صلواته المذهلة»، أو ما تفسره كارن رايت مارش:

«الصلاة، أو محادثات كيركجارد المستمرة مع الرب، صارت مصدر أعظم سعاداته الدنيوية. يشبه سورين الصلاة بالجيرسكوب (المدوار)، كممارسة تمنحه التوازن في مواجهة أي مما يحدث. لحسن حظنا، فقد سجل صلواته في دفتر يوميات، وفي هذه الصفحات يفصح كيركجارد للرب عن أسئلته ويقينه وشكوكه وأفراحه وآلامه وسلوانه ومعاناته وحبه وشوقه واكتئابه. كل هذا في هذا الدفتر».

الفيلسوف المهموم والقلق قادر على أن يصلي قائلًا:

«أبانا الذي في السماء! ساعدنا لكي لا ننسى أبدًا أنك محبة. هذه القناعة ستنتصر في قلوبنا، حتى لو جلب لنا الغد أرقًا أو قلقًا أو خوفًا أو ضيقًا».

يوصي كيركجارد بإستراتيجية بسيطة لاختبار البهجة عندما نشعر بالقلق نحو المستقبل. ففي كتابه «زنبق الحقل وطير السماء» يتأمل تعاليم المسيح فى عظة الجبل عن ألا تكون قلقًا (مت 6:26-29):

«اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟… وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا».

اعتقد كيركجارد أن ملاحظة هذه التفاصيل الصغيرة في الطبيعة قد تكون مصدرًا للبهجة. لتخفيف القلق يُوصي كيركجارد بتركيز انتباهك على الأشياء الإيجابية والسعيدة في الطبيعة كتذكرة مبهجة لرعاية الرب لجميع المخلوقات. لكن توصيته لا تتوقف عند مجرد مراقبة الطيور أو ممارسة البستنة كإلهاء مُرحب به أو كنوع من الهروب الرومانسي من الواقع.

تعطينا مراقبة الطيور والزنابق طريقة ملموسة للعيش بامتنان في اللحظة الحالية في ظل إله مخلص ومحب. بالنسبة لكيركجارد تنتشل الطيور والزنابق عقولنا من الفزع أمام مستقبل كئيب، وتمنح الفرد تجربة مسبقة مفاجئة عن الجنة. فتعطينا لمحة عن عالم قادم يُستبدل فيه عصر القلق. تطمئننا أن الرب لم يهجرنا أو يهجر عالمه.

في ضوء هذا، يمكن القول إن الاتجاه الحالي السائد في وسائل التواصل الاجتماعي المتمثل في نشر صور إيجابية ومبهجة لتهدئة قلقنا؛ مثلًا محيطات وجبال وشواطئ وبحيرات وزهور وأشجار وحيوانات أليفة، قد يحوي منافع لا ندركها. ربما ينبغي أن نشارك صورًا للطيور والزنابق أيضًا.

يمكن لكيركجارد أن يقول أربعة أشياء لتهدئة أفكارنا القلقة في أزمة فيروس كورونا: لا تُفاجأ بتحول أوقاتنا الهادئة لعصر قلق، عش اللحظة، انظر للقلق باعتباره فرصة للإيمان، وأخيرًا، جد البهجة بين ثنايا القلق.

*

نرجو ملاحظة أن النصائح المذكورة بهذه المقالة عامة بطبيعتها، وفي حالة استمرار معاناتك من قلق جدي، ينبغي لك استشارة الطبيب.


[1] هو أحد مقاومي النازية، وتعرض للاعتقال من جانب السلطات النازية، وواجه تجربة الاعتقال بإيجابية ملهمة.

  حقبة السلام في العصر الروماني التي امتدت لـ 200 عام، حققت فيها الإمبراطورية الرومانية رخاء وازدهارًا كبيرين. [2]