قصة مورتيس

قصة قصيرة لخوليان ريوس   

ترجمة عن الإسبانية: مارك جمال

خوليان ريوس: روائي وقاص إسباني، وصفه كارلوس فوينتوس بـ«أكثر كُتَّاب اللغة الإسبانية ابتكارًا وإبداعًا»، وقالت عنه صحيفة الجارديان «وريث جيمس جويس». القصة هي الأولى في 9 قصص تؤلِّف في مجموعها رواية متعددة الشخصيات بعنوان «موكب الظلال» تدور في مدينة خيالية اسمها «تاموغا». صدرت ترجمتها العربيَّة حديثًا عن تنمية للنشر والتوزيع.

تُنْشَر القصة بإذن خاص من المترجم والناشر.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا ما تمت الإستعانة بترجمته دون إذن منه.


خوليان ريوس

كان ذلك في أواخر سبتمبر، وبوادر السُّبات الخريفي تلوح في الأفق، والساعات تمرُّ أشد بطئًا، والوقت يبدو راكدًا كالمياه الحزينة، مياه أهوار تاموغا.

قالوا إنه «مسافر»، أو هكذا خطر لهم، وهم لا يعيرون أمره من الاهتمام الكثير، جميع أولئك (الضجرين، العاطلين) الذين كانوا يلتقون في المحطة عند المغيب، حين وقعت أبصارهم على الحقيبة الهائلة، متبوعةً بذلك الرجل القصير القامة، الذي مال بطريقة هزلية، محاولًا جرَّ الحقيبة على رصيف القطار. قال واحدٌ من أفراد الجمع مازحًا، حتى ينعش الحديث الخامد: «إنه مثل خنفساء الروث!». ظلُّوا ينظرون إليه بضع لحظات، من دون أن يُكلِّف أحدهم نفسه بإضافة تعقيب آخر، وقد اعتراهم جميعًا شعورٌ طفيف بالحنين والفتور بعد رؤية القطار وهو يغيب عن الأنظار تحت المطر الذي لا ينتهي.

أما ذلك الرجل، ذلك الغريب عن المكان، فلعلَّه لم يعرف يومًا لماذا وقع اختياره على تلك البلدة. أو لعلَّه لم يختَرها بنفسه، في واقع الأمر: بل اختارها الحظ، أو القدر، أو حسن الطالع، أو سوء الطالع، أو حتمية اللحظة.

في وقت لاحق عرفنا أنه قد ضرب موعدًا لامرأة –ما زالت شابة، بها مسحة من الجمال، يشي مظهرها بأنها قد ترمَّلت حديثًا-، كانت هي نسيبته. أخبرنا كاردونا، مأمور القسم، بقصة الهروب، وبتلك الحكاية الغرامية التي لا تُعقَل. خضعت النسيبة لاستجواب مُطوَّل على يد المأمور، في حزن، ولكن بهدوء، مزهوةً بحبِّها، وديعةً، وقد عجزت عن التصديق في النهاية، ولم تعُد تأبه لأي شيء، أو لأي شخص. وهكذا عرفنا أن اسمه مورتيس، وأنه كان مُمثِّلًا تجاريًّا، على مشارف الخمسين من العمر، مُتزوِّجًا، له خمسة أبناء وماضٍ لا تشوبه شائبة. كل ما يتعلَّق به عادي، تافه، يبثُّ الوحشة في النفوس. ومع ذلك، يبدو وكأن مورتيس، ذلك الرجل الأقل حظًّا من الغموض في العالم بأسره، قد جاء إلى هذه البلدة وهدفه الوحيد أن يُقدِّم لنا عرضًا عبثيًّا في ظاهره.

من وجهة نظرنا، وطبقًا لما ذهب إليه فضولنا، بدأ الأمر برمَّته يوم ثلاثاء من شهر سبتمبر، في مطلع الخريف، يوم وصل إلى البلدة. من نافذة عربة الدرجة الثانية، راح مورتيس يتأمَّل رصيف القطار الذي انهالت عليه زخَّات المطر، واللافتة التي حال لونها وكاد ينمحي اثنان من حروفها، الـ T والـ M. وهكذا، فبدلًا من اسم TAMOGA ظهرَت كلمة A OGA ([1])، في مصادفة غريبة. راح يتأمَّل أفقًا مُبهَمًا مُؤلَّفًا من السحب والقرميد. حينذاك، لا بد أنه قد رأى تلك البلدة حزينةً بالقدر الذي يسمح له بتحقيق أغراضه. والأرجح أن ما دفعه إلى الترجُّل من القطار في اللحظة الأخيرة هو التعب، والسأم،  واليقين بأنه لم ينزل في هذه البلدة يومًا، وبأن أحدًا لن يتعرَّفه، وبأنه لم يُجرِّر الحقيبة الجلدية، التي لا تفارقه، عبر شوارع تاموغا من قبل، وبأنه لم يستعرض ابتسامته المهنيَّة في حوانيتها، زِد على ذلك اليقين والارتياح لعلمه بأنه لم يسبق له الاتكاء على منضدة العرض للحديث إلى واحدة من عوانس البلدة المعهودات عن الأشرطة والأزرار بشغف مكبوت، في سرية تليق بمن يُقدِّم عرضًا بذيئًا. كما يُحتمَل أن يكون قد انجذب إلى موقع البلدة، وقربها من الحدود (الأمر الذي ارتبنا فيه لاحقًا، عندما جاءت المرأة). ولعلَّه قد ركن منذ البداية إلى الغباء والفضول الجمعي وافتقارنا إلى الفطنة، وإن لم تكُن أيٌّ من هذه التكهُّنات صالحةً لتفسير خاتمة القصة، لو أن لها خاتمة. كما لا يُستبعَد احتمال إصابته بالجنون أو الذعر. أو لعلَّه وقع في حبائل لعبته، تلك الأكذوبة المستحيلة التي أراد أن يُصدِّقها.

وصل مورتيس إلى تاموغا في مطلع الخريف، كما قيل. وصل في يوم حزين مطير. ومع أنه لم يقضِ بيننا إلا ساعات قليلة، ما زالت ذكراه حاضرةً بقوة، ولا سيما بعد الحوادث الأخيرة. يُؤكِّد الكثيرون أنهم قد رأوه وبادلوه بضع كلمات. تحلَّى مورتيس بملكة التحوُّل، لأن كلًّا منَّا يَذكره بطريقة مختلفة، ومن الجائز أن نكون كلُّنا على حق؛ فهو مبتهج، خجول، حزين، ساخر، متغطرس، محترم، مُتهكِّم، حاد، ودود. كان مورتيس جميع ما سبق، وجميع ما نقول عنه. وفي خاتمة المطاف، تبقى لنا دهشة القصة واستحالة سردها، لأن الكلمات فاقت الأحداث واقعيةً، ولأن القصة لا تستحق أن تُروَى ما لم تعجز الكلمات عن استيفاء معناها. كما تبقى لنا الحرية كي نطلق لخيالنا العنان، والحرية كي ننسب نوايا مُتعدِّدة متضاربة قاتمة، إلى ذلك الغريب الأقرب إلى قصر القامة والهزال والارتباك، ذلك الذي اختار تاموغا مسرحًا لاستعراضه. والآن، لا يعدو ذلك الرجل، مورتيس، أن يكون مُجرَّد كلمات وصورة مبهمة تبدأ في الاختلاط بين حنايا الذاكرة: كان له وجه عريض، ترابي، باهت القسمات، رخو، كما لو أنه معجون بالطين، وعينان محمرَّتان، وثغر يشبه الندبة، وصوت رتيب خارج من الأنف، يتكسَّر أحيانًا وكأنه خرير عميق آتٍ من المياه الجارية في المواسير. رجل كغيره من الرجال، يرتدي بدلةً مُجعَّدةً بنيَّة اللون ومعطفًا يبدو كبيرًا عليه، في غير أناقة ولا إهمال مفرط. هكذا يحضر مورتيس في الذاكرة. ولا بد أن دون إليو، ناظر المحطة، قد رآه على تلك الحال منذ الوهلة الأولى.

في وقت لاحق، قال دون إليو العجوز: «إن المرء يألف غرابة الأطوار بصنوفها كافة، ولا سيما بعد الأعوام الطوال التي أمضيتُها في محطة حدودية كهذه. ولكن لا شكَّ أن ذلك الرجل كان مخبولًا، يعاني من قصور في قواه العقلية. وإلا، فتأمَّلوا بأنفسكم: جاء في قطار التاسعة عشرة وخمس عشرة دقيقة، الذي وصل في موعده تقريبًا مساء ذلك اليوم. القطار المذكور يتوقَّف خمس دقائق في هذه المحطة دائمًا، وهي مهلة كافية. ما كدتُ أعطي إشارة التحرُّك، حتى رأيت ذلك الرجل أمامي مباشرةً، رأيته يهبُّ من مقعده ويهرع نحو الممر مجرجرًا حقيبته. ترجَّل والقطار منطلق. تُراه سهوًا؟ حسنًا، اسمعوا إذن: قبل أن يترجَّل من القطار بنصف دقيقة، كان ينظر من النافذة مطمئنًّا. راح ينظر إلى المسافرين، ثم إليَّ، وإلى المحطة، بينما هو يُدخِّن في غاية الهدوء، وكأنه في سبيله إلى وجهة أخرى، ولا يشغله البتة أن يكون اسم هذه المحطة تاموغا، كما جاء في اللافتة الضخمة المُعلَّقة أمام عينيه. سمع جرس المحطة، كما لو أنه قد سمع جرس القداس الإلهي، وإذا به في اللحظة الأخيرة يُعجِّل بالقفز من القطار المُتحرِّك، حاملًا حقيبته وكل شيء. كاد عنقه ينكسر. لو أنكم رأيتموه: واقفًا على الرصيف، وكأنه قد انهمر من السماء، مُتخشِّبًا كالفزَّاعة!».

وعلى كل حال، فهو لم يبقَ مُتخشِّبًا كالتمثال إلى الأبد: بل إنه فتَّش عن البوابة الرئيسية وخرج إلى المطر، وإلى الريح المفعمة بالتحدي، ريح تاموغا. رآه سائقو سيارات الأجرة الضجرون في سياراتهم أمام المحطة وهو يجتاز الساحة، فلم يعقدوا آمالًا. بإيماءةٍ رفض الخدمات التي عرضها عليه الحمَّالون، ومضى يجرجر حقيبته مُتّجهًا صوب الحافلة التي تنتظر تحت أشجار الدُّلْب. جلس قريبًا من المسافرين القلائل على متن الحافلة المتهالكة، وفي ضجر شرع يتأمَّل المطر والساحة وأشجار الدُّلْب، التي انسابت منها خيوط المياه، والثكنة المهيبة، على مقربة من الطريق، حيث أعلنت لافتة مكتوبة بالأحمر: «أهلًا بك في تاموغا!»، حتى وقف أمامه مانكو غوميث([2])، مُحصِّل الأجرة. طبقًا لما رواه غوميث، بدا الغريب متعبًا، أو في فترة النقاهة، وكأنه قد سافر طويلًا، أو خرج من المستشفى لتوِّه. جفَّف وجهه بمنديل ونفض كتفيه المُخضَّلتين بماء المطر. سأل عن ثمن التذكرة، وعن المسافة إلى البلدة. ثم تقبَّل المعلومات بارتياح، وكأنه في عجلة من أمره، وكأن المسيرة المُقدَّرة بثلاثة كيلومترات لا تعدو أن تكون شرًّا هيِّنًا. استغرق في التحقُّق من التذكرة، وكأن تلك الورَيْقة الوردية تستحق الفضول، تلك التي جاء فيها: «خدمة الحافلات/ تاموغا–المحطة أو المحطة-تاموغا». بعد برهة، رفع ناظريه سائلًا:

- لعلَّك تستطيع أن تفيدني... وتدلَّني على نزل أو فندق لا يسكنه الكثير من حشرات البقِّ والبراغيث.

قالها مبتسمًا للمُحصِّل.

روى غوميث قائلًا: «أشرتُ عليه بـلندن. لا أدري لذلك سببًا، ولكني استلطفتُ الرجل. ربما لأنه مختلف عن المسافرين الذين يحضرون إلى هذه الأنحاء. لأنه ناولني القطع النقدية في يدي اليسرى، ولم يبهت لمرأى موضع البتر، وتقبَّل بعفوية أنه ما دام المُحصِّل لا يسمح لأحد بالتهرُّب من الدفع، فلا بأس إن كان أبتَر اليد، أو الساق. ثم قال لي «أشكرك»، وألصق وجهه بزجاج النافذة، وطفق ينظر إلى الأهوار طوال الوقت، حتى وصلنا إلى البلدة».

نزل في لندن، ودوَّن اسمه وبياناته كاملة في سجل الفندق، مُتحمِّلًا تلك النظرة الصفيقة، نظرة دونيا ميلاغروس، التي عكفت على الحياكة وقد تربَّعت على عرشها –الكرسي المُتحرِّك- خلف منضدة الاستقبال، كما هو دأبها. (بعاطفة مُرهَفة، يظنُّ بعضنا أن دونيا ميلاغروس قد أنشأت الفندق، لا لمُجرَّد أن تبرهن لجميع سكان تاموغا على قوتها وقدرتها، وعلى أنها ليست بالمرأة العاجزة التي قد تقبل الشفقة بأي حال من الأحوال، بل إنها -فوق ذلك- كانت تأمل سرًّا أن يتحلَّى زوجها بالجرأة المُفعَمة بالحنين حتى يعود إلى تاموغا. كان زوجها قد هجرها وشهر العسل لا يزال في أوجه، حين تعرَّضت ميلاغروس لإصابة في العمود الفقري. هجرها مذعورًا مما قد يحلُّ به: وهو لا وظيفة له ولا مال آنذاك، زِد على ذلك عجزه عن تحمُّل طباع زوجته الغضوب يومًا آخر. لا بد أنه، في لحظة من لحظات الهلع واليقظة، حدس بالمستقبل الجحيمي الذي هو مقبل عليه. كانا يعيشان آنذاك بحيِّ البرتغاليين، في بيت يملكه خال دونيا ميلاغروس العازب، العجوز، البخيل، غريب الأطوار، الذي تعهَّد بأن يترك إرثه كاملًا لابنة شقيقته إن هي شملته برعايتها متى حانت ساعة الموت –لا شك أنه قد تعهَّد لنفسه بأن يكون موته بطيئًا شاقًّا، وهو الذي استحوذت عليه رغبة جارفة في البقاء، مثله كمثل جميع المُسنِّين- على الرغم من امتناعه القاطع عن التفريط في سنت واحد وهو على قيد الحياة. كانت أعوامًا عصيبة. ذات نهار كغيره من النهارات، ودَّعها زوجها مثلما هو دأبه كل يوم، على مضض، وبابتسامة مُتكلَّفة، فقال: «أنا ذاهب إلى المرفأ. لقد وصلت سفينة إنجليزية». كانت تلك آخر مرة تسمع فيها صوت زوجها. بعد زمن يسير، مات خالها العجوز، وكأنه يتحيَّن هرب زوج ميلاغروس حتى يغمض عينيه في سلام. أما هي، فاتَّخذت قرارها بأن تقيم فندقًا بما ورثته عن خالها من نقود، متجاهلةً بذلك أولئك الذين أشاروا عليها بأن تعيش على ريع الأملاك. ومنذ ذلك الحين، تمكث دونيا ميلاغروس في بهو الفندق طوال الوقت، فضوليةً، يقظةً، مستندةً -في كرسيها المُتحرِّك- إلى الأمل، وإلى هاجس قديم حدَّثها بأنه لو استقرَّ زوجها على الرجوع يومًا، فلربما نزل في لندن، مُتخلِّيًا عن حرصه شأن أكثر الغرباء، الذين يجتذبهم اسم الفندق الكوزموبوليتاني، من دون أن تساوره الظنون بأن مومياء العروس تترقَّبه فيما هي تغزل خيوط الثأر وتحلُّها. كانت تمعن التحديق إلى حد الوقاحة في كل من يصل من المسافرين، في محاولة للمقارنة بين وجوههم وقسماتٍ بدأ يغشاها الضباب في مُسوَّدات الذاكرة القديمة، أو لعلَّها ببساطة كانت تحاول أن تُخمِّن مدى قدرة الواصلين على الوفاء بالديون).

وهكذا، تحمَّل مورتيس وخزات عينَي دونيا ميلاغروس، طالبًا حجرةً لفرد واحد مُلحَقةً بحمَّام، وقال إنه لا يدري كم من الوقت سوف يبقى في تاموغا. وبينما هو يفرغ من تعبئة البيانات قال: «يومًا، أو يومين، أو أسبوعًا. ذلك رهن بمجريات الأمور». ثم أردف، وهو يغمز لها بعينه، في محاولة منه لإلقاء دعابة لم تُقدِّرها العجوز: «أو ربما أبقى هنا مدى الحياة».

بعد ذلك، يأتي التقرير المُسهَب الذي أعدَّه ألثيدِس، واحد من أبناء دونيا ميلاغروس في المعمودية، أولئك الذين لا يُحصَى لهم عدد. ألثيدِس، الذي يحشر جسده في بدلته السوداء المعهودة، بأسلوبه الجنائزي الخدوم أبدًا، ولفتاته المُرهَفة الخليقة بمُخنَّث، وحديثه الذي يقطر بلاغةً معسولةً تليق بطالب قديم في معهد لاهوتي، ورأسه اللامع، المُعطَّر، الدبق. ظهر ألثيدِس في المكان حتى يحمل الحقيبة عن الغريب، بعد إصرار فاتر خدوم، ويرشده إلى حجرته في الطابق الأول.

في وقت لاحق، هوَّل ألثيدِس الأمر قائلًا: «كانت الحقيبة ثقيلةً وكأنها تحوي كتبًا أو رصاصًا أو جثَّة».

قال مورتيس:

- حسنًا، يمكنك أن تتركها فوق السرير.

لم يبدُ مستاءً من الحجرة الضئيلة، القاتمة، الواقعة في القسم الخلفي من الفندق.

أزاح الستائر التي حال لونها، ثم أطلَّ من النافذة، على ارتفاع يسير جدًّا، كان في وسعه رؤية الأرض الملأى بالبرك الضحلة وتلال القمامة، وأمامه ترامت دور البرتغاليين وأكواخهم، تليها الرُّبى الجرداء التي اكتسحتها الريح، والمياه الساكنة الرمادية تمسح الأفق بلسانها.

بعد ذلك، طفق يدور في أنحاء الحجرة بضع مرات. مرَّر يده بحذر على الموضع المُمزَّق من ورق الحائط، وهو يتوقَّع أن يكتشف عشًّا يأوي حشرات البقِّ، أو ما هو أسوأ. فتح خزانة الثياب، مُطلًّا برأسه، وبحركة من يده أصدرت المشاجب المعدنية المُعلَّقة في الخزانة رنينًا تتابعيًّا حزينًا. تابع فحصه الدقيق: فذهب إلى الحمام، وشدَّ ذراع الطرد، ثم عاد خطوة إلى الوراء حين تناهى إلى سمعه خرير الماء المُقبِض. أضاء المصباح، وتأمَّل نفسه في المرآة بضع ثوانٍ، مسح بأصابعه على وجنتيه، وكأنه في حاجة إلى لمس ذقنه كي يتأكَّد من أنه لم يحلقه منذ بضعة أيام. وأخيرًا، فتح الصنبورين، ثم قال، كمن اكتشف أنه تعرَّض للنصب من فوره:

- لا ماء ساخن.

فتنهَّد ألثيدِس، وقد ضجر من فرط ما ردَّد الأسطوانة نفسها منذ ثمانية أعوام:

- في النهار وحسب.

عاد إلى المخدع، وفي قناعة تأكَّد من وجود مقعدين من الخيزران، ومصباح صغير محمول فوق الطاولة المجاورة للفراش، ومنفضة سجائر ضخمة من البورسلين، وقنينة ماء مُغطَّاة بكوب. ربما كانت محاولةً منه ليُظهِر أنه شخص مغالٍ في طلباته، يعتزم قضاء بضعة أيام في تاموغا، ويريد انتقاء مكان وثير. سأله ألثيدِس، مُتأهِّبًا لكسب الإكرامية:

- خردوات أم أنسجة؟

استغرق في الرد على السؤال بينما هو يستكشف بقلق آثار الحرق على مفرش السرير، وبقعة النشع التي تركتها الرطوبة راسمةً على الجدار سرطانًا هائلًا، على أهبة السقوط فوق رأس الفراش.

وأخيرًا، أدلى بردِّه كارهًا، مُتملِّصًا، مُتحدِّثًا إلى النافذة، أو إلى غير أحد:

- أتاجر في القليل من كل شيء.

فاقترح ألثيدِس، حتى يدخل في صميم الموضوع أخيرًا:

- في وسعي أن أُزوِّدك بالمعلومات اللازمة عن التجارة في هذا الميدان.

في وقت لاحق، اشتكى ألثيدِس قائلًا: «لم يبدُ عليه الاهتمام، بل إنه أزاح بقدمه طرف البساط المُجعَّد ثم عاد وقد ظهرت عليه أمارات الضيق وما يشبه النفور، وكأنني قد ورَّطته لتوِّي في تجارة قذرة».

قلت له، بنبرة تليق بالأسرار:

- انظر، انظر يا سيدي. لبعض المتاجر هنا واجهات ضخمة رائعة، ولكن البضائع في تلك الواجهات هي نفسها، لم تتبدَّل منذ نصف قرن. لا تحسبني أبالغ. كيف يكسبون قوتهم؟ لا تسألني؛ فلا أحد يدري. لدينا متاجر هنا، في وسط البلدة (أجل، لن تلبث أن تراها)، مُزيَّنة بمرايا هائلة، ولافتات تقول «أبناء فلان»، أو «ورثة فلان»، أو «منشأة تأسَّست عام 1860»، أو «آخر صيحات باريس»، كل شيء في غاية العراقة! ثم تدخل إلى المكان فلا تجد فيه سوى الغبار، وفضلات الذباب، وبضائع طال عليها الزمن، أكلتها العثَّة، أو كادت تتعفَّن. صحيح أن تلك المتاجر تبيع في الأعياد قليلًا، حين يحضر القرويون إلى تاموغا، قادمين من پاراموس وسانتا كروث، ويحضر الصيادون من پروبيدينثيا ومرفأ أنغرا. وهذا كل ما في الأمر. صدِّقني: إنها متاجر ميتة. يهدر المرء وقته إذا حاول أن يُقدِّم لها الجديد من البضائع، والصيحات الأخيرة.

«وهنا أتوقَّف عن الحديث دائمًا، وقفةً حاسمة، قبل أن أقترح أسماء التجَّار المُوفَّقين، من أصحاب الهمَّة. ولكن الرجل لم يتأثَّر بالخطاب الذي أهدرته عليه. بل إنه اكتفى بالابتسام وقد ارتسمت على وجهه أمارات الأسى، وكأني به يقول ˈوما العمل!؟...».

بَيْد أن مورتيس قال، كالمعتذر:

- حسنًا، حسنًا، لستُ في حاجة إلى دليل... فأنا أحبُّ استكشاف ساحة المعركة أولًا، وتخمين المواضع التي يترقَّبني فيها الحظُّ أو التعاسة، أليس كذلك؟

«كيف يتصرَّف المرء مع رجل كهذا! عندئذ ما عدت أُفكِّر في الإكرامية، وإنما في الاستعلاء والاستخفاف اللذين لقيتهما من ذلك الرجل. وهنا بدأت تتسلَّل إلى نفسي الظنون. لقد سئمت من فرط ما عاملت المسافرين، فوجدتهم جميعًا يستحوذ عليهم الفضول، ولا سيما حين يصل الواحد منهم لأول مرة إلى بلدة لا يعرف فيها أحدًا. أرِني واحدًا منهم يفتقر إلى الفضول! ولكنه ما لبث أن حاول الاعتذار؛ فأبرز من جيبه ورقةً ماليةً مُجعَّدةً –بقيمة خمسة وعشرين- وفردها، ثم ناولني إياها باسمًا».

وقال على سبيل الوداع:

- سنرى غدًا.

«كنت في الردهة بالفعل حين جاءني مرةً أخرى صوته خارجًا من أنفه مُتعَبًا هادئًا».

- في المساء، في الليل...

ثم تنحنح وخطا بجانبه بضع خطوات هزلية، وأردف سائلًا:

- ما الذي يمكن فعله في هذه البلدة؟

«أها! إذن فهو من أولئك الذين يضمرون ما لا يُظهِرون. لا شكَّ أنه طائر ليلي».

فقلت له بلا ضغينة ولا رغبة في الكذب:

- إنها بلدة مضجرة. ولكن لدينا ثلاث دور سينما، طبعًا. واحدة منها فحسب هي التي تفتح أبوابها أيام الثلاثاء، مودِرنو. اليوم يُعرَض فيلم محلي، «معشوقة لا تُقاوَم»، أو شيء من هذا القبيل. لا أذكر جيدًا. لدينا عدد أكبر مما ينبغي من الحانات والخمَّارات. فضلًا عن مرقصين يفتحان أبوابهما أيام السبت والأحد. ولدينا تيرَّانوبا، الذي يفتح أبوابه يوميًّا حتى مطلع الفجر.

«عند ذاك، جعل ينصت إليَّ بانتباه، ومن خلال كلماتي، حاول أن يرى بعين الخيال مدى التعاسة التي قد تغرق فيها بلدة ساحلية كهذه بعد انقضاء موسم الصيف. فرغت من تعداد مباهج تاموغا، وقد خامرني شعور بأني بدأت في الانتقام منه، وبأنه على وشك أن يشعر بثقل الساعات، ويدرك إلى أي مدى قد يطول الليل وتغمره الوحشة في ذلك المطهر».

- في ما مضى، كانت لدينا دور حافلة بالمباهج على ضفاف النهر (شرعت أتذكَّر وقد أُصِبت بعدوى الحنين، ورحتُ أُفكِّر في ماتِرنو القزم حين خيَّم برفقة فتياته الخمس، «العذراوات إلى الأبد»، وفي يانصيب العشق الذي كان يُقام وسط أطلال المصنع العتيق، مصنع الأطعمة المُملَّحة، في الأيام الخوالي، حين كان مرسى شحن المعادن مستمرًّا في العمل). ولكن تلك الدور أُقفِلَت الآن ولم تبقَ لنا سوى دار واحدة من دور اللهو، تيرَّانوبا. هناك، يمكنك الاستماع إلى الموسيقى، والرقص، وتناول بضع كؤوس من الشراب، والعثور على رفيقة، ما لم يُؤنِّبك ضميرك أكثر مما ينبغي. وعلى الرغم من ذلك، فالأمر لا يخلو أبدًا من ذلك العزاء المُتمثِّل في رؤية وجه ضجِر بقدر وجهك. أو في أحسن الأحوال، سترجع إلى الفندق تصحبك ذكرى امرأة ليست مفرطة البشاعة. ولكن، بيني وبينك، لا أستطيع أن أضمن لك هذا يا سيدي.

وفي وقت لاحق، بعد أن انقضى كل شيء في ظاهر الأمر، حاول المأمور كاردونا إعادة تمثيل درب الصليب([3]) الذي قطعه ذلك الغريب، من باب الروتين، منساقًا وراء هوس ورغبة جارفة يدفعانه إلى ترتيب الأمور ترتيبًا منطقيًّا، حتى وإن خلت من أدنى أثر للمنطق، محاولًا ألا يترك ثغرةً واحدةً في الزمن القصير الذي أمضاه مورتيس معنا.

لا شك أن مورتيس مكث في حجرة الفندق نحو ساعتين، مُمدَّدًا على الفراش (حيث ترك جسده على مفرش السرير أثرًا سوف يبقى حتى نهار اليوم التالي، دليلًا على أنه لم يمضِ ليلته في لندن، وأنه لم يكُن شبحًا، وأنه كان على قيد الوجود في تاموغا حقًّا طوال ساعات)، حيث جعل يجترُّ الآلام والمشروعات، ويسكر بالأحلام، ويتهدهد على وقع الخوف، منصتًا إلى صوت المطر المتساقط على النوافذ الزجاجية. لعلَّه طفق يُفكِّر، وقد ولَّى وجهه شطر الجدار: «هأنذا في هذه البلدة، محاط بالمياه من كل جانب، وما زلت لا أدري ماذا أنا فاعل».

من المُحتمَل أن يكون قد اتَّخذ قراره حين ترك حجرته، أن يكون قد أدرك –بلا ألم ولا ضغينة- أنه ما زال يملك بعض الوقت قبل تقديم الفصل الأخير، وأنه ما زال في حاجة إلى الظهور أمام الحاضرين، واغتنام الدَّفعة الأخيرة لئلَّا يُضطَرَّ إلى الاستعانة بالمُلقِّن، وتقديم التحية مع إسدال الستار.

بعد ذلك، لا بد أنه ذهب من الفندق مباشرةً إلى مطعم پرادو في جادة البرتغال. لعلَّه استسلم لغواية اللافتة الصفراء التي أعلنت كذبًا: «مطعم پرادو. مُتخصِّصون في ثمار البحر بكل صنوفها»، لعلَّه أحسَّ بالجوع، أو وجدها ساعةً ملائمةً لتناول العشاء والتظاهر بالجوع. في وقت لاحق، أفاد پرادو مع مراعاة «الدقَّة» أنه: «طلب سلاطة، وشريحةً من لحم الخاصرة مع البطاطس المقلية، وفاكهة، ونصف قنينة من النبيذ الوردي. ثم أكل على عجل، وهو يغصُّ بالطعام. وبين لقمة وأخرى، أخذ يختلس النظر إلى الشقراء ذات الأرداف البارزة الظاهرة على التقويم المُعلَّق أمامه. ثم إنه دفع الحساب من دون أن يترك إكرامية، وسألني أين يمكنه العثور على صيدلية مفتوحة في مثل هذه الساعة».

شُوهِد في ساحة البلدية، في أقصى الطرف المقابل من البلدة، حيث بادر الخفيرَ سائلًا عن الصيدلية المناوبة، وسمح له بأن يدلَّه على الطريق حتى بلغ الناصية، وهناك وقف تحت اللافتة المعدنية التي جاء فيها «صيدلية روتشا»، وقبل أن يدلف إلى المكان، ألقى نظرة على الواجهتين وعلى الصيدلية المضاءة من الداخل.

استقبله سيبيرينو، عامل الصيدلية، الذي روى قائلًا: «طلب مني بضعة أقراص مُنوِّمة، وإن ليس قبل أن يلقي نظرة على الأرفف بفضول، وكأنه مُهتَمٌّ بالقوارير المصنوعة من البورسلين بما عليها من حروف مُذهَّبة، أو كأنه لم يستقرَّ بعد على ما يحتاج إليه. ثم إنه وقف ساكنًا أمام منضدة العرض، مُتَّكئًا بيديه على الزجاج، ومال برأسه، في لفتة تنمُّ عن الشك أو محاولة جاهدة لتذكُّر شيء ما. بدا عليه الضجر والرغبة في الحديث. طلب مني بضعة أقراص تساعده على الاستغراق في النوم، «مثل القتيل»، كما أردف بوجه منقبض في سخرية. أعتقد بأنه لم يألف تناول الأقراص المُنوِّمة، وإلا طلب مني صنفًا بعينه. قدَّم لي سيجارةً وبدأ يشكو الطقس قائلًا إن قانون الأحياء البحت يقضي بأن يتنفَّس أهل هذه المنطقة بالخياشيم! سألني عن عدد الصيدليات في البلدة، وعما إذا كان أهل البلدة قد بلغوا من السذاجة والغفلة حدًّا يسمح لهم بالإيمان بالأدوية والاستعانة على الموت بالأطباء. ثم إنه سألني مازحًا، في خبث، راسمًا على وجهه ذلك التعبير المراوغ مرة أخرى، وقد لوى شفتيه... سألني عما إذا كانت المنتجات المصنوعة من المطَّاط والمعاطف الإنجليزية تلقى قبولًا كبيرًا في الأقاليم والأمكنة الشديدة الرطوبة كهذا».

والآن، حان موعد أغنية الحب. قبل الذهاب إلى الصيدلية، أو بعده، عرَّج مورتيس على مركز الاتصالات حتى يضرب موعدًا لنسيبته، ويستدعيها إلى تاموغا. في البدء، ارتبنا في شهادة عاملة التليفون، سنيوريتا سيرينا (الموشكة على التقاعد، التي استحوذ الخبل على عقلها تمامًا)، وحسبناها تحاول أن تنقل إلينا عدوى نوبات الهذيان التي تصيبها، أو تبلغنا بواحدة من تلك الشائعات المذهلة المُفعَمة بالحيوية التي تسمعها في جلسات تحضير الأرواح عبر التليفون. بعد موت شقيقتها بزمن يسير، اكتشفت سنيوريتا سيرينا أن الموتى –ولا سيما الأصدقاء والأقرباء منهم- يحاولون الاتصال بها عبر أسلاك التليفون، ومن ذلك الحين صارت حياتها مرتهنة بتلك المونولوغات المُطوَّلة، وبتلك الأخبار العجيبة الفريدة التي يحملها إليها موتى تاموغا، مدفوعةً إلى ذلك بالإيمان بالخرافة والسذاجة الشعبية، ولا سيما كلمات الكاهن نفسه، الأب لوثانو، الذي أعلن من مكانه على المنبر -في وعظة مشهودة، جديرة بالرثاء- أن أرواح المطهر قادرة على الاستعانة بوسائل التواصل العصرية حتى يبعثوا إلينا برسائلهم على أكمل وجه.

وهكذا، لم نُصدِّق سنيوريتا سيرينا، بل حسبناها أصيبت بنوبة أخرى من نوبات الهذيان حين روَت لنا أن مورتيس كان في مركز الاتصالات تلك الليلة، وأنه طلب إجراء مكالمة. قالت سنيوريتا سيرينا، وهي تضفي طابعًا ميلودراميًّا على ما جرى: «في وقت متأخر جدًّا، وبينما كنت أتلو الصلوات الأخيرة... لا يسعني تذكُّر الساعة على وجه التحديد... سمعت وقع خطى على الدَّرَج، (تاك-تاك)، ora pro nobis ([4])، فدخل إلى المكان وكأنه طيف، أشدَّ بياضًا من الجدار، مُبلَّلًا بالكامل، وانسابت المياه من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وتهدَّل شعره على عينيه، وراح يتلمَّس الهواء بيديه الممدودتين، وقد غطَّى الوحل يديه وذراعيه تمامًا، حتى صارت مروعة في قذارتها».

ثم أردفت بقولها: «كان في حالة يُرثَى لها، يتكلَّم بمشقة، ويغصُّ مُطلِقًا أصواتًا من حلقه، (غلو-غلو)، فخلته مخمورًا على وشك السقوط أرضًا. أخذ يتوسَّل إليَّ مُتلعثمًا: «سسس، إنها مسألة عااااااااجلة جدًّااا»».

في وقت لاحق، تمكَّنت سنيوريتا سيرينا من سماع مورتيس وهو يطلب من شخص آخر أن يحضر للقائه في تاموغا. أخذ يُردِّد مُتلعثمًا: «... أريـ... أريد منكِ... أن تأتي وتنـ... وتنظري إلى عينَيَّ وتقـ.... وتقولي لي الآن... إنك لا تـحـ... بِّينني». ومن الجانب الآخر جاء صوتُ بكاء حاد، متبوعًا بصوت أنثوي، رطب، قال في لجاجة: «انتظر، انتظر، انتظر»، قبل أن ينقطع الاتصال.

في وقت لاحق، أكَّدت على الأمر برمَّته تلك المرأة التي جاءت إلى تاموغا (نسيبة مورتيس).

كما عرفنا أن مورتيس كان في مقهى ميثكيتا، هناك حيث رآه باربوسا، نادل مقهى ميثكيتا، وهو يجتاز الباحة التي يكسوها التراب الأحمر في العاشرة تقريبًا، رآه يتفادى برك المياه الضحلة في حذر، ويمضي بجانبه، ويتوقَّف لتأمُّل التعريشة العارية والمقاعد المُكدَّسة على الجدار. لبث لحظات مُتردِّدًا، أو مُشوَّشًا، قبل أن يوارب باب المقهى الخلفي وينظر إلى الصالون الذي كاد يخلو من الجميع. لم يكُن هناك في تلك اللحظة إلا دونيا ماريا، العجوز نزيلة دار المُسنِّين، والنادل باربوسا الذي راح يجادلها، كما هو دأبهما في مثل هذه الساعة، ويأبى أن يُقدِّم لها الكأس الثانية، التي تشربها في آخر الأمر لا محالة. سأله النادل: «ماذا أُقدِّم لك؟». نظر مورتيس إلى العجوز، فإلى صدار النادل القذر، فإلى صفِّ القوارير، فإلى المرآة، مُتعَبًا، أو شاردًا. وبينما هو يتَّكئ بمرفقيه على البار قال: «لا أدري». وأخيرًا قال: «أعطني كأسًا من الكونياك وكوبًا من الماء». عند ذاك عادت دونيا ماريا إلى إصرارها: «صُبَّ لي كأسًا أخرى من شراب الأنيس»، قالتها وهي تدفع الكأس الخاوية إلى حافة البار. (كانت العجوز نزيلة دار المُسنِّين تتلقَّى معاشًا صغيرًا، وتُردِّد مزهوةً: «يرسله ابني إليَّ كل شهر»، حتى نرى أنها ليست وحيدة، ونرى أنها على بال الآخرين. ولكن، بحلول منتصف الشهر، يكون المال قد تبخَّر أو ذاب، وعندئذ يُقدِّم لها باربوسا كأسًا من الأنيس على الحساب كل يوم، علمًا منه أنه لن يتلقَّى ثمنها أبدًا، والأرجح أن دونيا ماريا لا تتردَّد على ميثكيتا لتلبية حاجتها إلى تناول كأس من الشراب، مجانًا، بقدر ما تفعل بحثًا عن تلك اللذة والعادة المُتمثِّلتين في مجادلة النادل ومشاهدته يرفض أولًا، حتى يُسلِّم في آخر الأمر).

طالب صوت العجوز اللاذع قائلًا:

- كأس أخرى من الأنيس.

روى لنا بارباروسا قائلًا: «أبيت، منزعجًا من استغلالها حضور الغريب، ظنًّا منها بأني لن أجادلها ولن أرفض لها الطلب أمام رجل غريب».

عند ذاك، تسنَّت لمورتيس فرصة التدخُّل: «قدِّم لها كأس الأنيس، قدِّم لها ما تريد. على حسابي». فقال باربوسا: «سوف يضرُّ بها ذلك يا سيدي. لقد شربت كأسًا هنا، ومن المُؤكَّد أنها شربت كأسين أو ثلاثًا في الطريق». فأجابه مورتيس قائلًا: «قدِّم للسيدة الشراب». ثم أومأ برأسه، في خجل أو صفاقة. ومال برأسه ناظرًا إلى الوجه المُجعَّد المُتشقِّق الذي تكسوه المساحيق، والعينين الصغيرتين المحتضرتين، وفراء الثعلب الأشعث القذر الذي أحاط بكتفَي العجوز الضامرتين. وهكذا قدَّم تقليدًا هزليًّا لمشهد من مشاهد الغزل، بالإيماءات والابتسامات. ثم التفت إلى النادل قائلًا: «في عمر بعينه، تأتي على المرء لحظة لا يعود فيها شيء قادرًا على الإضرار به. فكل ما يسمح لنا بالبقاء على قيد الحياة حسن». ثم أردف مائلًا برأسه، خافضًا صوته: «أليس كذلك يا سيدتي؟». بعد ذلك استند إلى البار بظهره وراح يصغي إلى ثرثرة العجوز في تهذيب، وكأنه قد اتَّخذ قرارًا بمغازلتها.

بصبر، وابتسامة ودود، مُتظاهرًا بالاهتمام، راح يصغي إلى جميع مُبرِّراتها، ويومئ بحركة وئيدة مُتفهِّمة من رأسه ردًّا على كل ما تقوله، حتى وإن كاد يخلو من المعنى. قالت إنها تقيم في دار المُسنِّين رغبةً منها في الاستقلال بنفسها: «يعيش أولادي بعيدًا، أرادوا مني الذهاب للعيش معهم. تصوَّر يا سيدي! أنا في بيتهم، حتى أصطدم بزوجات أولادي! كلَّا، كلَّا». راحت تُردِّد الأمر الذي صدَّقته من فرط ما روته، وقد خدعت نفسها بنبرتها المقنعة. «أنا يا سيدي لا أعيش من أجل شيء سوى تكريم ذكرى زوجي، الرجل الأوفر حظًّا من العشق في العالم بأسره. في ليالٍ كثيرة، بعد الانتهاء من العمل، كان يُشجِّعني بقوله: «هيا بنا نتسلَّى»، فنخرج لنرقص معًا. كان مولعًا بأنغام الفالس الفييني والشامبانيا الفرنسية، قادرًا على الرقص من دون أن يترك الكأس، وهي الرقصة التي كان يُسمِّيها فالس بنكهة الشامبانيا. ظلَّ يُحبِّني كما أحبَّني في البدء، حتى بعد أن تجاوزنا عمر الشباب. إنه الشيء الذي لا أملك سواه يا سيدي: ذكرى زوجي».

عند ذاك، انحنى مورتيس مرة أخرى أمام العجوز: «سيدتي، أنعمي عليَّ بشرف مرافقتك، واسمحي لي بدعوتك إلى كأس من الشامبانيا».

قال باربوسا مصدومًا: «كان مُمثِّلًا كوميديًّا يبحث عن التسلية، أو لعلَّه كان مجنونًا».

في وقت لاحق، قالت العجوز بحرارة: «كان نبيلًا، بل إنه أول رجل نبيل يطأ بقدميه أرض تاموغا».

تجدر الإشارة إلى ظهور مورتيس العابر اللاواقعي في تيرَّانوبا، برفقة العجوز، التي كادت تلعب الخمر برأسها، وهو يحاول بكل جدية تقديم الفصل الأخير من مهزلة الحب والشفقة، ناظرًا حوله في تحدٍّ، محاولًا فرض المهابة على البحارة والمومسات، وهو يرافق العجوز إلى الطاولة ويطلب قنينةً من الشامبانيا الفرنسية بصوت عالٍ، في رصانة، وإن لم يُقدَّم إليهما سوى الشامبانيا الكتالانية. شرب نخب الأرملة، ناظرًا إليها من خلال الدخان، باسمًا، متجاهلًا صخب الموسيقى والقهقهات. بعد ذلك توجَّه إلى البار، فأسرَّ إلى الساقي بشيء في سمعه، ومرَّر إليه الإكرامية من دون أن يكفَّ عن الحديث، عازفًا عن النظر إلى وجه الساقي المذعور، ثم طلب منه أن يقطع موسيقى التشاتشاتشا المزعجة، ويستبدل بها مقطوعة فالس. من السهل أن يحكي المرء ما جرى، وإن كانت إعادة تمثيل الرقَّة المتنافرة والأجواء المذهلة، التي غلَّفت المشهد، تُعَدُّ ضربًا من المحال. ببطء، وبلطفٍ مُفعَم بالحنان، اصطحب مورتيس المرأة العجوز إلى منصَّة الرقص، ووضع يديه حول خصرها بنعومة بالغة، ثم طفق يدور على وقع الموسيقى. أما هي، العجوز، المرتبكة في أول الأمر، فراحت تخطو بخفة ورشاقة متزايدة، وهي لا تكاد تمسُّ الأرض بقدميها، تاركةً نفسها لمورتيس يقودها، ولدوَّامة الموسيقى تُطوِّقها، بابتسامة منتشية وعينين مُغمَضتين، بين ذراعَي الرجل الجاد، الاحتفالي، وكأنه تشارلي تشابلن، ذلك الذي ما برح يدور أسرع فأسرع، ونساء تيرَّانوبا وروَّادها يُحدِّقون مندهشين في غبش المكان الخانق، ويحتمون بالضحك والذهول، ويفركون أعينهم متسائلين عمَّا إذا كان ما يرونه حقيقة، متسائلين عمَّا إذا كان في وسعهم رواية ما رأوا في اليوم التالي، بعد أن يفيقوا تمامًا، متسائلين عمَّا إذا كان هنالك من يمكنه التصديق.

وكان هذا كل شيء. هكذا شُوهِد مورتيس لآخر مرة. ولقد روَت دونيا ماريا لاحقًا للعجائز المعجبات المُتنهِّدات اللائي تحلَّقن حولها أنه رافقها حتى باب دار المُسنِّين وقال مُودِّعًا:

«اسمحي لي بأن أطبع قبلةً على جبينك، وكأنك أمي أو حبيبتي الأولى، تخليدًا لذكرى هذه الليلة». وبعد الحوادث الأخيرة، يمكننا تصديق ما روَت، إذ لن يكون كذبًا من الأساس، حتى وإن لم يحدث يومًا.

وهذا كل ما في الأمر، إلى أن تحين لحظة ختام هذه القصة التي لم تكتمل. لم نعرف المزيد عنه، عن مورتيس، حتى وصلت المرأة المجهولة المذعورة ذات الشعر الأشقر والوجه المشدود، تلك التي سألت عن مورتيس في فندق لندن. حضرت على متن القطار نفسه الذي جاء بـمورتيس قبل يومين، وصلت في الوقت المناسب كي تتعرَّف على الجثمان الذي ظهر قبيل ساعات جانحًا، مُغطًّى بالأعشاب البحرية، على شاطئ مرفأ أنغرا. تقبَّلت الخبر في ثبات، غير أنها رفضت قبول تلميحات كاردونا، المأمور. قالت إنه ضرب من المحال أن يكون قد انتحر الآن دونًا عن باقي الأوقات، الآن وقد اتَّصل بها، وكانا في سبيلهما إلى العيش معًا. بدت مزهوَّةً بحبِّها، الشيء الذي لم يبقَ لها سواه. أمعنت النظر إلى الجثمان المُمدَّد على المنضدة المصنوعة من الرخام في مستودع الجثث، قبل أن تطبع قبلةً على الوجه الذي أتت عليه السراطين. ربَّتت على الخصلات المتشابكة المُتهدِّلة على جبينه. عاودت إمعان النظر، وتقبيل المحجرين الخاويين. همست بشيء وقد ألصقت شفتيها بأذن الميت، ثم ربَّتت على الجثمان مرةً أخرى، حتى شعرت على كتفها بيد المأمور الودود، عند ذاك عادت إليه، في غاية الوقار، وقالت باقتضاب: «لا بد أنه حادث يا سيدي. لا تفسير آخر لما جرى».

ربما، أو ربما كان في وسعنا تقبُّل أكثر من تفسير واحد، أيِّ تفسير. وربما أمكن قبول ذلك الافتراض المُبهَم الذي أدلى به دكتور راي، الطبيب الشرعي، بعد تشريح الجثمان. إذ قال دكتور راي، مُتحدِّثًا إلى المأمور في تروٍّ:

- من الوارِد أن يكون هذا الرجل قد انتحر، أو تعرَّض لحادث، فزلَّت قدماه وسقط في الماء. لا أدري. فالموت غرقًا وارد في كلتا الحالتين. ومع ذلك، أعرف أنه كان محكومًا بالموت على كل حال، أعرف أنه كان مصابًا بسرطان في الرئة. لا أدري ما إذا عرف بمرضه أو اشتبه فيه، وإن كان ذلك منطقيًّا. لعلَّه جاء إلى تاموغا من أجل هذا الغرض، (لا تحفل بكلامي كثيرًا، سيدي المأمور). ما دام العيش هنا عسيرًا، في هذه البلدة، فهي أنسب للموت من أي مكان سواها.


[1] A OGA : تُنطَق مثل كلمة AHOGA، التي تعني «خنق» باللغة الإسبانية.

[2] جدير بالذكر أن «مانكو» تعني صاحب اليد المبتورة باللغة الإسبانية.

[3] درب الصليب: طبقًا للعقيدة المسيحية، هو الدرب الذي قطعه يسوع المسيح حاملًا الصليب قبل صلبه.

[4] عبارة لاتينية تعني «صلِّي لأجلنا»، وردَت في صلاة «السلام عليك يا مريم».