هل أنت أناركي؟ قد تفاجئك الإجابة

مقال لديفيد جريبر

ترجمة: حسين الحاج

إهداء الترجمة إلى يحيي محمد

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

* ديفيد جريبر (1961-2020) عالم أنثروبولوجي وناشط سياسي أناركي أمريكي، ترجمت بعض كتبه إلى العربية: مشروع الديمقراطية: التاريخ، الأزمة، الحركة. (ترجمة أسامة الغزولي - عالم المعرفة 2014)، وشذرات من أنثروبولوجيا أناركية (ترجمة أحمد حسان - دار المحروسة 2016)، والدين: الخمسة آلاف سنة اﻷولى (ترجمة أحمد زكي - المركز القومي للترجمة 2019).


ديفيد جريبر، عن pmpress

إن احتمالات أنك سمعت قبل الآن شيئًا عن ماهية الأناركيين وما يفترض أن يؤمنوا به مساوية لاحتمالات أن كل ما سمعته هراء. يبدو أن الكثير من الناس يعتقدون أن الأناركيين أنصار للعنف والفوضى والدمار، وأنهم ضد كل أنماط النظم والهيئات، أو أنهم أولئك العدميين المخبولين الذين يريدون تفجير كل شيء. في الواقع، لا يمكن لشيء أن يكون أبعد من هذا عن الحقيقة. الأناركيون ببساطة أناس يؤمنون أن البشر قادرون على التصرف بطريقة عقلانية من غير حاجة إلى الإجبار. إنها حقًا فكرة بسيطة جدًا، لكن الأثرياء وأصحاب السلطة دائمًا ما وجدوها خطيرة للغاية.

يقوم الاعتقاد الأناركي ببساطة شديدة على افتراضين أوليين، الأول أن البشر في الظروف العادية منطقيون راقون كلما كان متاحًا لهم، ويمكنهم تنظيم أنفسهم وتنظيم مجتمعاتهم دون الحاجة إلى وصف الكيفية لهم، والثاني أن السلطة تُفسد. والأهم من ذلك أن الأناركية هي مجرد مسألة امتلاك الشجاعة في القيام بالمبادئ البسيطة للأخلاق العامة التي نعيش وفقًا لها جميعًا، وأن نتبعها حتى نهاية استنتاجاتها المنطقية.

والغريب رغم ذلك أنه يبدو أنك قد تكون أناركيًا بالفعل إلا أنك لا تدرك ذلك.

دعنا نبدأ بطرح بعض الأمثلة من الحياة اليومية:

  • إذا كان هناك صف للصعود إلى حافلة مزدحمة، هل تنتظر دورك وتمتنع عن دفع الآخرين بمرفقك بعيدًا عن طريقك حتى في غياب الشرطة؟

إذا كانت إجابتك بنعم، إذن أنت معتاد على التصرف مثل الأناركيين! إن مبدأ الأناركي الأساسي هو التنظيم الذاتي، أي افتراض أن البشر ليسوا بحاجة إلى التهديد بالملاحقة القضائية من أجل أن يقدروا على الوصول إلى التفاهم العقلاني معًا أو أن يعاملوا بعضهم باحترام ونبل.

يؤمن الجميع أنهم قادرون على التصرف بعقلانية من تلقاء أنفسهم، وإذا ظنوا أن القوانين والشرطة ضروريين، فذلك لأنهم لا يصدقون أن الآخرين كذلك. لكن إذا فكرت مليًا، ألا تظن أن الآخرين جميعًا يشعرون نحوك بنفس الطريقة؟

يجادل الأناركيون أن الظلم والأذى المنهجي للجيوش والشرطة والسجون والحكومات يتسبب فعليًا في أغلب السلوكيات اللا-اجتماعية التي تجعلنا نعتقد أننا بحاجة إليهم للتحكم في حياتنا. إنها حلقة مفرغة. إذا اعتاد الناس على أن يعاملوا كأن آراءهم ليست مهمة، فإنهم أقرب إلى أن يكونوا غاضبين وساخرين، وحتى عنيفين، مما يسهل على أصحاب السلطة القول إن آراءهم ليست مهمة بالتأكيد. وما أن يدركوا أن آراءهم مهمة حقًا مثل أي شخص آخر، فإنهم يميلون إلى التوافق على نحو بارز، وباختصار: يؤمن الأناركيون أن السلطة في ذاتها وآثارها في الأغلب هي التي تجعل الناس أغبياء وغير مسؤولين.

  • هل أنت عضو في نادي أو فريق رياضي أو أي تنظيم طوعي حيث لا يفرض فيه قائد واحد القرارات بل تؤخذ على أساس الإجماع العام؟

إذا كانت إجابتك بنعم، إذن أنت تنتمي إلى هيئة تعمل على أسس أناركية! التنظيم الطوعي هو مبدأ أناركي أساسي آخر. إنها مسألة تطبيق المبادئ الديمقراطية على الحياة العادية ببساطة، والفارق الوحيد أن الأناركيين يؤمنون أنه يجب أن يكون من الممكن هناك مجتمع حيث يمكن تنظيم كل شيء فيه بنفس الأسلوب، تقوم كل المجموعات على القبول الحر لكل أعضائها، ومن ثم تصبح كل الأنماط العسكرية الفوقية من التنظيم مثل الجيوش والبيروقراطيات والشركات الكبيرة المبنية على تسلسل القيادة غير ضرورية. قد لا تؤمن بإمكانية ذلك، وقد تؤمن حقًا. لكن كل مرة تصل إلى اتفاق بالإجماع بدلًا من الوعيد وكل مرة تقوم بتنظيم طوعي مع شخص آخر وتصل إلى اتفاق أو إلى تسوية مع وضع اعتبار ظروف واحتياجات الآخر الخاصة، فأنت تصبح أناركيًا، حتى لو لم تدرك ذلك.

الأناركية هي مجرد أسلوب يتصرف به الناس عندما يكونوا أحرارًا في التصرف بحسب اختيارهم وعندما يتعاملون مع آخرين يساوونهم في الحرية، ومن ثم يصبحون واعين للمسؤولية المتضمنة نحو الآخرين. وهذا يقودنا نحو نقطة أخرى محورية: بينما يمكن للناس أن يكونوا عقلانيين ومراعين عندما يتعاملون مع أقرانهم، ولا يمكن الوثوق في عقلانيتهم ورعايتهم عندما تعطى إليهم السلطة على الآخرين، هكذا هي طبيعة الإنسان، أعطِ أي أحد مثل هذه السلطة، وسيستغلها على الأغلب بطريقة أو بأخرى.

  • هل تؤمن أن أغلب السياسيين حقراء مغرورين أنانيين ولا يهتمون حقًا بالصالح العام؟ هل تعتقد أننا نعيش في ظل نظام اقتصادي غبي وغير عادل؟

إذا كانت إجابتك بنعم، إذن أنت تقر الانتقاد الأناركي للمجتمع القائم، على الأقل في خطه العريض. يؤمن الأناركيون أن السلطة تفسد وأن الذين يقضون حياتهم يسعون خلف السلطة هم أقل الذين يسحقونها، ويؤمنون أيضًا أن النظام الاقتصادي الحالي أقرب إلى مكافأة الناس على السلوك الأناني اللا أخلاقي أكثر من كونهم أناس مراعين ونبلاء. أغلب الناس تشعر كذلك، والفارق الوحيد أنهم لا يعتقدون أن هناك ما يمكن فعله، أو أن فعل أي شيء لن ينتهي بجعل الأمور أسوأ على أي حال، وغالبًا هذا ما يؤكد عليه خدام أصحاب السلطة المخلصين دائمًا.

لكن ماذا لو لم يكن ذلك صحيحًا؟ وهل هناك أي سبب حقًا للاعتقاد في ذلك؟ عندما تستطيع أن تختبر أن أغلب التكهنات عن ما الذي يمكن أن يحدث بدون الدول أو الرأسمالية فعليًا يتضح أنها خاطئة كليًا. لآلاف السنين عاش الناس بدون حكومات، ويعيش الناس في مناطق عديدة في العالم خارج سيطرة الحكومات حتى اليوم دون أن يقتلوا بعضهم، وغالبًا يستمرون في العيش مثلهم مثل أي شخص آخر. قد يبدو بالتأكيد أن كل ذلك في مجتمع متمدن تكنولوجي أكثر تعقيدًا، لكن التكنولوجيا أيضًا يمكن أن تجعل حل كل هذه المشكلات أسهل. في الواقع، إننا لم نبدأ في التفكير عن ما يمكن أن تصبح عليه حياتنا إذا نظمت التكنولوجيا حقًا لتناسب حاجات الإنسان. ما عدد الساعات التي قد نحتاجها في العمل بالفعل من أجل الحفاظ على مجتمع فعال إذا استطعنا التخلص من كل المهن المهدرة والمدمرة مثل المسوقين عبر الهاتف والمحامين وحراس السجون والمحللين الماليين وخبراء العلاقات العامة والسياسيين والبيروقراطيين وحولنا أفضل عقولنا العلمية بعيدًا عن العمل أسلحة الفضاء وأنظمة سوق الأسهم نحو ميكنة المهام الخطيرة والمضجرة مثل استخراج الفحم أو تنظيف الحمامات ثم وزعنا العمل المتبقي على الجميع بالتساوي؟ خمس ساعات يوميًا؟ أربع؟ ثلاث؟ لا أحد يعلم لأن لا أحد يسأل مثل هذه الأسئلة، وحدهم الأناركيون يعتقدون أن هذه الأسئلة تحديدًا التي يجب أن نسألها.

  • هل تصدق حقًا في تلك الأشياء التي تقولها لأطفالك (أو التي يقولها والداك لك)؟

«لا يهم من الذي بدأ»، «خطآن لا يجعلان الأمر صحيحًا»، «رتب فوضاك»، «عامل الناس كما تحب أن يعاملوك به»، «لا تكن وضيعًا مع الناس لمجرد أنهم مختلفون». ربما علينا أن نقرر سواء إذا كنا نكذب على أطفالنا عندما نحدثهم عن الصواب والخطأ، أو أننا راغبون لأخذ نصائحنا بجدية. لأننا إذا مددنا هذه المبادئ الأخلاقية نحو نتائجها المنطقية سنصل إلى الأناركية.

لنتخذ مبدأ «خطآن لا يجعلان الأمر صحيحًا» مثالًا، إذا أخذت المبدأ بجدية، هذا قد يهدم وحده الأساس الكلي للحرب ونظام العدالة الجنائية. كذلك يسري الأمر على المشاركة، نحن دائمًا ما نقول لأطفالنا إن عليهم تعلم المشاركة ومراعاة حاجات الآخرين ومساعدتهم، ثم ننصرف داخل العالم الواقعي حيث نفترض أن الجميع أنانيون ومتنافسون بطبيعتهم، لكن الأناركي قد يلفت الانتباه إلى أنه في الحقيقة ما نقوله لأطفالنا هو الصحيح. إن كل منجز مهم وعظيم إلى حدٍ كبير في تاريخ الإنسانية وكل اكتشاف حققناه في حياتنا قام على التعاون والمساعدات المتبادلة إلى الآن، إننا ننفق أغلب أموالنا على أصدقائنا وعائلاتنا أكثر من أنفسنا، بينما من المرجح ألا يكون هناك أناس متنافسون في العالم دائمًا، ليس هناك أي سبب لأن يقوم المجتمع على تشجيع هذا السلوك، دع عنك جعل الناس تتنافس على الاحتياجات الأساسية للحياة. إن ذلك لا يخدم إلا مصالح أصحاب السلطة، الذين يريدون أن نعيش في خوف من بعضنا، لذلك ينادي الأناركيون بمجتمع لا يقوم على الارتباط الحر ولكن أيضًا على العون المتبادل. في الواقع ينشأ أغلب الأطفال مؤمنين في الأخلاق الأناركية، ثم يدركون تدريجيًا أن العالم لا يعمل بمثل هذه الطريقة، ولذلك يصبح العديد بينهم ثائرين، أو مغتربين، أو حتى ذوي ميول انتحارية في المراهقة، ثم يستسلمون أخيرًا ويصبحون ساخرين مثل البالغين، وتصبح  سلواهم الوحيدة عادةً في القدرة على تربية أطفالهم وإيهامهم أن العالم عادل. لكن ماذا لو أمكنهم بالفعل البدء في بناء عالم مؤسس على قواعد العدل على الأقل؟ ألن تصبح هذه أعظم هدية قد يهديها أحد لأطفاله؟

  • هل تؤمن أن البشر فاسدون وأشرار بالسليقة أو أن أنواع معينة من الناس مثل النساء أو أعراق مختلفة أو أناس عاديون ليسوا أغنياء أو غير متعلمين بالقدر الكافي ذات منزلة أدنى معدة للحكم من قبل من هم أفضل منهم؟

إذا كانت إجابتك بنعم، حسنًا إذن، يبدو أنك لست أناركيًا في النهاية، لكن إذا كانت إجابتك بلا، إذن ترتفع احتمالات أنك تقر نحو 90% من المبادئ الأناركية، وربما على الأرجح تعيش حياتك عامةً طبقًا لها. كل مرة تعامل إنسان آخر باحترام ومراعاة تصبح أناركيًا، وكل مرة تعمل على تصفية خلافاتك مع الآخرين للوصول إلى تسوية منطقية بالاستماع إلى ما يقوله كل فرد بدلًا من السماح لشخص واحد يقرر للآخرين تصبح أناركيًا، وكل مرة تكون لك فرصة في إجبار أحد لفعل شيء، لكن تقرر بدلًا من ذلك أن تناشد إدراكه العقلي أو إحساسه بالعدالة تصبح أناركي. كذلك يسري الأمر عندما تشارك صديقك شيئًا أو تقرر من الذي سيغسل الأطباق، أو أن تفعل أي شيء مع النظر بعين الاعتبار إلى العدالة.

قد تعترض الآن أن كل هذا جيد وصالح كوسيلة للجماعات الصغيرة من الناس كي يتعاملوا مع بعضهم، لكن حكم مدينة أو بلد مسألة أخرى تمامًا. وبالتأكيد هذا صحيح، حتى إذا قمت بلامركزة المجتمع ووضعت كل ما تقدر عليه من سلطة في يد الجماعات الصغيرة، سيظل هناك الكثير من الأشياء التي يجب تنسيقها بدءًا من إدارة السكك الحديدية إلى اتخاذ القرار بشأن الاتجاهات في البحوث الطبية. لكن ليس لأن الأمور معقدة، لا يعني أن ليس هناك وسيلة ديمقراطية لإدارتها، قد تصبح أكثر تعقيدًا فقط. لقد ابتكر الأناركيون في الواقع أفكارًا ورؤى مختلفة حول كيف يمكن لمجتمع معقد أن يدير نفسه، كي نشرح تلك الأفكار علينا أن نذهب بعيدًا عن إطار مثل هذه المقدمة الصغيرة. يكفي فقط أن أقول، أولًا: إن العديد من الناس قضوا الكثير من الوقت في ابتكار نماذج كيف يمكن أن يعمل مجتمع صحي ديمقراطي حقيقي، لكن ثانيًا بنفس القدر من الأهمية: لا يوجد أناركي يدعي أنه حاصل على برنامج عمل مثالي. آخر شيء نريده هو أن نفرض نموذجًا جاهزًا على المجتمع في أي حال. الحقيقة أننا ربما لن نستطيع تخيل نصف المشكلات التي ستظهر عندما نحاول أن نبتكر مجتمع ديمقراطي، مع ذلك إننا على ثقة أن هذه المشكلات يمكن حلها ببراعة الإنسان شرط أنه يظل ضمن روح مبادئنا الأساسية التي هي في التحليل الأخير مجرد المبادئ الأساسية للأخلاق الإنسانية.