كيف استثمر ج. إدجار هوفر قوة المكتبات في الشر

مقال آلانا محمد (كاتبة ومكتبية)

ترجمة: إسلام رمضان

موقع Literary Hub بتاريخ 4 مارس 2020

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


سابقًا، كان شخصية سياسية أثيرة لدى العامة يتحرون مشورتها في الأمور كلها: من الجريمة إلى تربية الأطفال، أما الآن فصار يعرّف بأنه: متعصبٌ أساء استخدام سلطته لسحق التطلعات التقدمية والتجسس على الخصوم السياسيين. إنه جون إدجار هوفر، المدير السابق للـ«إف بي آي» منذ تأسيسه في عام 1935 وحتى وفاته في عام 1972. قبل إنشاء الإف بي آي، ترأّس هوفر «القسم الراديكالي» في وزارة العدل، حيث نسَّق مداهمات بالمر [1] ضد مجموعات المهاجرين من الشيوعيين والاشتراكيين. شرع الإف بي آي تحت قيادته في تنفيذ برنامجه »كوينتلبرو»[2] بغرض تفكيك النشاط اليساري، برنامج عرف بأمور مذهلة مثل دفع مارتن لوثر كينج الابن إلى الانتحار ومحاولة ابتزازه بأدلة تخص علاقاته خارج إطار الزواج الشرعي. ومعذورٌ من يتخيل هوفر آلة قتلٍ مُعززةً بعلمٍ إلهي، يتجسس على النشطاء الذين يشتبه بأنهم يقوّضون حلمه الأمريكي.

لكن الحقيقة أن هوفر لم يكن إلهًا عليمًا، وإنما شغل المرتبة الثانية من حيث الأفضلية: أمين مكتبة لديه كتالوج بطاقات شامل. وفي حين أن أمناء المكتبات غالبًا ما يتحمسون لإضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة، إلا أن التحكم في المعلومات المبدأ الأساسي للمهنة، وهذا يفسر جزئيًا سبب إدراج المهنة اليوم على نطاق واسع ضمن علوم المعلومات. أدرك هوفر هذا منذ اللحظة التي التحق فيها بالعمل موظفًا في مكتبة الكونجرس في عام 1913، وكانت أول وظيفةٍ له في واشنطن. ابتكر هوفر كتالوج البطاقات من أجل الفهرسة، وهو ما كان حينها طريقةً حديثةً في تنظيم المكتبات. لاحقًا، ستساعده هذه الخبرة على فهرسة آلاف المواطنين الذين اعتبرهم راديكاليين، كما ستساعده على إخفاء الأدلة لتجنب المساءلة. تمثل طريقة هوفر في معالجة المعلومات كل ما يمكن أن يقع من انحرافات نتيجة لتوظيف مبادئ علم المكتبات في مناوءة الصالح العام.

كان كتالوج البطاقات الخاص بمكتبة الكونجرس اختراعًا جديدًا نسبيًا في عام 1913. وحتى تلك الحقبة، كانت المكتبات تنظم مجموعاتها بالطريقة التي تراها مناسبة. منذ عام 1815، ولمدة أربعةٍ وثمانين عامًا، اعتمدت المكتبات التصنيف الكلاسيكي الذي ورثته عن توماس جيفرسون، وهو تصنيف يقسم المجموعات إلى ثلاث فئات رئيسية: الذاكرة والمعرفة والخيال. صمم جيفرسون هذا النموذج بالرجوع إلى مخطط التصنيف الخاص بالسير فرانسيس بيكون، وترجم الذاكرة لتعني التاريخ، والمعرفة لتعني الفلسفة، والخيال ليعني الفنون الجميلة. أدخلت المكتبة تعديلات إضافية ليبلغ عدد الفئات الفرعية أربعةً وأربعين فئة تشمل كل شيء: من الشعر الرعوي إلى القانون الكنسي، لكن بقي النظام العام معمولًا به حتى عام 1899.

حينها، كان أمناء المكتبات مثل ميلفيل ديوي وتشارلز كاتر أمين مكتبة بوسطن أناثايوم، ينادون بكتالوج بطاقات موحد يُعتمد في المكتبات كلها، لكن بالمقابل عارضهم أمين مكتبة الكونجرس آينسورث سبوفورد وأصر على أن يظل تنظيم كل مكتبة شأنًا داخليًا. كان سبوفورد مشهورًا بمعرفته الفوتوغرافية العميقة بتشكيلة المكتبة الضخمة، لكن الأنظمة العتيقة للمكتبة تعمدّت أن يكون استخدام المجموعة صعبًا بالنسبة للزائرين. بالنسبة للمستخدمين، أمل كل من ديوي وكاتر أن يضفي كتالوج البطاقات المستند إلى الموضوع طابعًا ديموقراطيًا على المعلومات، بحيث يصبح عرضها وتحديثها وتصفحها أيسر. في الحقيقة، حاول مصممو الكتالوجات خلال الثورة الفرنسية أن يستخدموا أوراق اللعب لإنشاء نظام مكتبة؛ تحديدًا لسهولة الوصول إليها.

أخيرًا، اعتمدت مكتبة الكونجرس الطريقة الفرنسية في عام 1901. عندما انضم هوفر إلى المكتبة في عام 1913، كانت لهم الريادة في تنظيم المعلومات، وينتجون حوالي 700 ألف بطاقة سنويًا يوزعونها على المكتبات عبر أمريكا. رغم هذا، بحلول عام 1917، أنهى هوفر دراسته في كلية الحقوق واحتاج إلى وظيفةٍ جديدة.

بحلول هذا الوقت، فرُض التجنيد لأجل الحرب العالمية الأولى. تقدم هوفر للالتحاق بالخدمة العسكرية، لكن في ظل وجود والدٍ مريضٍ طريح الفراش، احتاج هوفر البقاء بالمنزل ليعتني بأسرته. ساعده عمه على الحصول على وظيفة تعفيه من التجنيد في قسم طوارئ الحرب بوزارة العدل. هناك، سينتهي به المطاف مشرفًا على دائرة «العدو الأجنبي»، حيث أصبح معنيًا بملاحقة المهاجرين الألمان على الأراضي الأمريكية. كانت وزارة العدل قد احتفظت بملفات سرية تخص المهاجرين المنخرطين في أنشطة سياسية راديكالية منذ عام 1903، وسيجري تعريف هوفر، في وظيفته الجديدة، بكافة طرق التجسس والتكتم. بنهاية الحرب، طلب أن يبقى في وزارة العدل، وبحلول أغسطس 1919 عُيِّن هوفر رئيسًا للقسم الراديكالي حديث الإنشاء.

كانت وزارة العدل تمتلك بالفعل مخططًا تنظيميًا يضم ملفاتها عن المشتبه بهم، والتي قدمها هوفر أثناء عمله بدائرة العدو الأجنبي. لكن بصفته رئيسًا للقسم الراديكالي، تمكن هوفر من تحسين هذا النظام مستفيدًا من خبرته السابقة في فهرسة المكتبة. وبدلًا من عناوين الكتب وأسماء المؤلفين، استحدث هوفر نظامًا منضبطًا يحوي كل الأنشطة التخريبية. حملت كل بطاقة من بطاقات هوفر الكود الخاص بها وقائمة بالانتماءات المحتملة، حتى يكون في مقدوره أن يطلع على الملفات التي تخص أي راديكالي، ومن ثم إرفاقها مع الأفراد والتنظيمات والمنشورات الأخرى. وفي حين أن أدبيات الإف بي آي تنفي أن عمل هوفر في مكتبة الكونجرس كان ملهمًا له، إلا أن المؤرخ «كينيث أكيرمان» يلاحظ أن كتالوجات هوفر تشبه إلى حدٍ كبير كتالوج البطاقات الخاص بالمكتبة. وفي رسالة تحمل تاريخ عام 1951، كتب هوفر نفسه أن المكتبة «منحتني أساسًا ممتازًا لعملي في الإف بي آي، حيث كان ترتيب المعلومات والأدلة ضروريًا».

رأى هوفر أيضًا أن من الضروري تعقب المواطنين الذين لم ينخرطوا مباشرة في مجموعات المهاجرين الشيوعية والاشتراكية. مثلًا، المحامي «إسحق شور» الذي درب بعض المهاجرين -الذين اعتقلوا خلال إحدى مداهمات بالمر في عام 1919- على الصمت والإضراب عن الطعام. ولأنه يربك خطط هوفر لترحيل المهاجرين، أضيف «شور» إلى الكتالوج، تحمل بطاقته الكود، (OG 377465)، وهو تصنيف للتجسس على المهاجرين الألمان يعود إلى عهد الحرب العالمية الأولى. في الواقع، حصل رئيس هوفر السابق، الذي وافق على إنشاء الملفات الألمانية الأصلية القديمة، حصل هو الآخر على بطاقة تحمل الكود (OG 384125)، وذلك عندما أعلن أنه ضد جهود هوفر المتحمسة للاعتقال.

بحلول عام 1921، كان هوفر قد راكم 450 ألف بطاقة، وخصص موظفين للحفاظ عليها. خبرة هوفر المكتبية علمته أيضًا كيفية إخفاء الأدلة. أدرك هوفر أنه إذا ميّز بطاقةً برقم تصنيفي خاطىء بغرض التضليل، فإن نتيجة الأمر مساوية لما يحدث لو أن أمين مكتبة وضع كتابًا في غير رفه: إن وُجد زائر فإنه لن يتمكن من الوصول إلى الكتاب في تشكيلة المكتبة الهائلة؛ تكتيك لن يحيد عنه هوفر خلال مسيرته المهنية. ولمّا كانت الإف بي آي وكالة حكومية، فإن أي وثيقة رسمية تمر عبر قسم السجلات المركزية التابع لها تخضع نظريًا للفحص من قبل جهات عديدة، مثل وزارة العدل، إضافة إلى الكشف عنها في أوضاعٍ مُلزمة، مثل المحاكمات. وعن طريق أرشفة هذه المعلومات المخزية بطريقة مضللة ومنحها أكوادًا مزيفة، استطاع هوفر أن يصعِّب على أي هيئة رقابية اكتشاف حقيقة ممارساته. وعندما ناهض فيليكس فرانكفورتر –قاضي المحكمة العليا مستقبلًا- مداهمات بالمر، احتفظ هوفر باسمه جانبًا ضمن مجموعة «الائتلاف الحكومي الشعبي الوطني»؛ ائتلاف المحامين الذين ناهضوا المداهمات. ومماثلًا للأمين السابق لمكتبة الكونجرس «آينسورث سبوفورد» المُلمّ بالتشكيلة الهائلة للمكتبة، فإن هوفر وحده من كان يعرف كيف يستخرج اسم «فرانكفورتر» من بين آلاف الأسماء. ستتطور هذه الأخطاء التصنيفية بريئة المظهر إلى سلسلة من السياسات الخبيثة التي ما أوجدت إلا لإخفاء نشاط غير قانوني.

كان هذا صحيحًا خصوصًا بعد محاكمة جوديث كوبلون عام 1949؛ وذلك عندما اتُّهمت كوبلون بتمرير وثائق حساسة تخص الإف بي آي –تضم هذه الوثائق ما دعاه هوفر «المذكرات الوردية»- إلى جاسوس روسي. أُحدثت سياسة «المذكرات الوردية» لحفظ طلبات التجسس التي يرسلها وكلاء محدَّدون إلى رؤسائهم المباشرين، وذلك خارج السياق الرسمي لملفات الإف بي آي، مع التشديد على إتلاف تلك الطلبات، المكتوبة على ورق وردي، بمجرد مرور ستة أشهرٍ على قراءتها، وكلما كان ذلك أسرع، كان أفضل. في المحكمة، كشفت هذه المذكرات أن الإف بي آي كان يتجسس على مواطنين أمريكيين يُشتبه بأنهم شيوعيون. بالنسبة للرأي العام الأمريكي، كشفت محاكمة كوبلون إلى أي مدى كان الإف بي آي متورطًا في التنصت على المكالمات الهاتفية. لكن الأسوأ أنها كشفت شعور وكلاء الإف بي آي الذين جرى تشجيعهم على إخفاء المعلومات عن كلٍ من وزارة العدل والمحكمة؛ لقد شهد وكلاء الإف بي آي زورًا بأنهم ينكرون أي معرفةٍ بشأن التنصت على المكالمات الهاتفية، مما دفع المحكمة إلى إسقاط تهم التآمر والتجسس عن كوبلون. تحت وطأة شعوره بالحرج، اتجه هوفر إلى استحداث سياسات معلوماتية الغرض منها التعمية على المجال التجسسي للإف بي آي، راغبًا كعادته في إخفاء أي توثيق للأساليب غير القانونية من خلال الحيل البيروقراطية للإف بي آي.

طالب هوفر الوكلاء بتخزين طلبات الاقتحام وبقية الطلبات المتعلقة بأنشطة غير قانونية في المكاتب الفرعية للإف بي آي، حيث سيجري إتلافها بانتظام للإفلات من المساءلة. لكن هذا التكتيك سيمثل أيضًا نهاية هوفر؛ فعندما اقتحمت «لجنة المواطنين لتفتيش الإف بي آي مكتبًا ميدانيًا صغيرًا في ولاية بنسلفانيا عام 1971، عثرت على كنز ثمين من الوثائق التي فضحت حجم الممارسات غير القانونية للإف بي آي، كما أمدتهم بمعلومات كافية لإذكاء سخط الرأي العام من أجل المطالبة بالمزيد من الشفافية الحكومية.

اليوم، ما زالت الشفافية تخضع لبعض القيود. وبينما أتيحت بعض ملفات هوفر السابقة للعرض في مكتبة الكونجرس، فإن بعضها الآخر صُنِّف تحت بند «شخصي وسري»؛ حتى لا يقوم قسم السجلات المركزية بفهرستها. ولاحقًا، دمرت هيلين غاندي –سكرتيرة هوفر الأقدم- هذه الملفات. أما الملفات التي نجت من الإتلاف على يد موظفي الإف بي آي الذين أعوزتهم الدقة، فهي تعرض لمحات عن المدى الذي بلغته ممارسات هوفر غير المشروعة؛ أحد هذه الملفات يكشف عن تجسس واسع النطاق على رجل أعمال تباهى مرةً بأنه يملك دليلًا على مثلية هوفر.

رغم ذلك، ما زالت بيروقراطية هوفر المحتالة قادرةً على العمل. نحن لا نعرف إلا النذر اليسير عن المخازي التي ارتبطت باسمه. نحن نعرفُ أن المداهمات التي تسببت في اعتقال مئات من المهاجرين تُدعى «مداهمات بالمر»، رغم أن هوفر هو من دبَّرها؛ على نفس المنوال، يلاحظ جون سبارديلاتي أنه كان من الممكن أن ندعو المكارثية بـ«الهوفرية» لتعبر الأخيرة عن توجهات الإف بي آي خلف الكواليس. بفضل عمله الدؤوب في تكديس العديد من الملفات وحجبها، لا يزال هوفر يباشر إدارة سجله التاريخي من وراء القبر-تمامًا كما يفعل أي خبير معلومات متفانٍ في عمله.


[1]في 2 يونيه عام 1919 قام أناركي إيطالي يُدعى «كارلو فالدينوتشي» بتفجير منزل المدعي العام المعين حديثًا «ميتشل بالمر»، أسفر التفجير عن مقتل فالدينوتشي نفسه لأن القنبلة انفجرت قبل موعدها. التفجير الذي كان حلقة من سلسلة هجمات على القضاة والسياسيين ورجال الأعمال، جاء في وقت تعاني فيه أمريكا من وباء الإنفلونزا الإسبانية، إلى جوار خوفها من الثورة البلشفية التي اندلعت في روسيا. أنشأ بالمر قسمًا لجمع المعلومات عن الأناركيين والشيوعيين كان على رأسه محامٍ شاب اسمه «إدجار هوفر». بدأت وزارة العدل بالقبض على المتطرفين والأجانب المشتبه بهم الذين حددتهم مجموعة هوفر، بما في ذلك القادة المعروفين «إيما غولدمان» و«ألكسندر بيركمان»، بموجب القوانين التي تم تمريرها، مثل قانون الفتنة. في ديسمبر، تم وضع عدد من المتطرفين على متن سفينة أطلقت عليها الصحافة اسم «السفينة الحمراء» أو«السفينة السوفيتية» وتم ترحيلهم إلى روسيا. وبحلول أوائل يناير 1920، نُظمت مداهمات متزامنة في المدن الكبرى، حيث دعت الشرطة المحلية إلى اعتقال الآلاف من الأناركيين المشتبه بهم.

[2]بدأ تنفيذه في عام 1956 لتعطيل أنشطة الحزب الشيوعي في الولايات المتحدة. في الستينيات، توسع ليشمل عددًا من المجموعات المحلية الأخرى، مثل كو كلوكس كلان، حزب العمال الاشتراكي، حزب الفهود السود. أُنهيت جميع عملياته في عام 1971.