اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.
قائمة مكروم | الحس المشترك
نُشر بموقع الجارديان 18 سبتمبر 2017
ترجمة: حسين الحاج
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
لطالما كانت الثورة اﻷمريكية ثورة خطابية مثلما كانت ثورة سياسية، حوَّل اﻵباء المؤسسون فيها حالة المعارضة الحانقة إلى نوبة من الغضب الثوري في الصحف بقدر ما كانت في ساحات المعارك. يعتبر تحفيز توماس جيفرسون للنضال في إعلان الاستقلال تحفة من روائع النثر اﻹنجليزي.
وإذا كانت هناك عاصفة، فلا بد أولًا من ضرب الصواعق. أحدث الانفجار الضروري كتاب صغير ألفه «إنجليزي» مجهول، وطبعه روبرت بيل في دار طباعة في الشارع الثالث بفيلادلفيا في التاسع من يناير 1776. كان ذلك الكتاب المسمى بـ «الحس المشترك» أكثر المنشورات اﻷمريكية مبيعًا في القرن الثامن عشر. وبلمح البصر، وزع منه أكثر من 120,000 نسخة، وطبع حوالي 25 طبعة في عام 1776 وحده، وكانت أفكاره مدار حديث الساحل الشرقي. تساءلت جريدة فيلادلفيا إيفنينج بوست على صفحاتها، «من مؤلف الحس العام؟ إنه يستحق تمثالاً من ذهب».
يعتبر توماس بين الذي كشف، بصفته مؤلف هذا المنشور العظيم، شخصية بارزة في ابتكار التقليد اﻷنجلو-أمريكي لكونه رجلًا ذا لغة تحررية قوية وغريزة سياسية طموحة. لقد صنع اسمه عن طريق «برطنة البريطانيين»، أي تضخيم أكثر الصفات تميزًا وترويجها بصفتها أساس التمرد. بينما كان بين مهاجرًا سيء الحظ حط في فيلادلفيا بآمال قليلة، كتب «الحس المشترك» في أسابيع قليلة محمومة (وأستعار العنوان من ثوري آخر يدعى بنيامين راش).
نادرًا ما حقق كتابًا مثل هذا التأثير الفوري، وربما كان ذلك ﻷنه نشر في نفس اليوم الذي تعهد فيه جورج الثالث إلى البرلمان أن يضع «حدًا سريعًا لهذه الفوضى» المنتشرة في ثلاثة عشر مستعمرة.
يعتبر «الحس المشترك» نموذجًا للعرض الصحفي الشعبي الذي يكتب كي يفهمه جميع القراء. بجرأة تحبس اﻷنفاس، يصف بين جورج الثالث بأنه «همجي ملكي» مسؤول عن جميع علل أمريكا، لكن موقفه تجاه الملكية في العموم قاس بصورة مسلية:
«لقد عرفت إنجلترا منذ الفتح النورماندي بعض الملوك الصالحين القلائل، لكن هذه القلة تئن تحت وطأة عدد أكبر بكثير من الملوك الفاسدين، غير أنه ما من إنسان عاقل يستطيع القول إن ادعاءه أنه من نسل ويليام الفاتح هو إدعاء مشرف، فنزول وغد فرنسي مع عصابة مسلحة من قطاع الطرق إلى اﻷرض اﻹنجليزية وإعلان نفسه ملكًا على إنجلترا دول قبول من أهلها هو بصراحة تامة صنيع غير مسبوق في غاية الخسة والنذالة، وهو بكل تأكيد صنيع لا تقره السماء».
بعد إظهار مواقفه، يأخذ بين الخطوة المنطقية في الدعوة إلى الحرب وإلى الاستقلال، يسأل، «لماذا نتردد؟ (...) إن الشمس لم تشرق قط على قضية أكثر أهمية من تلك؛ (...) فدعونا بالله عليكم نصل إلى الانفصال النهائي (...) فدماء القتلى وصوت الطبيعة المنتحب يصيحان: (حان وقت الفراق)». في بضعة عبارات حسنة، وبعين ترى التجربة الحية، حول بين جدال ثقيل مثل الرصاص إلى ذهب خالص:
«لقد سمعت البعض يؤكد أنه طالما أن أمريكا ازدهرت تحت مظلة ارتباطها السابق ببريطانيا العظمى فإن نفس اﻹرتباط يكون ضروريًا من أجل رخائها المستقبلي، وسيكون لهذا اﻹرتباط دائمًا نفس التأثير. ولا شيء يمكن أن يكون أكثر تدليسًا وخداعًا من حجة كهذه. فبهذا يمكن أن نؤكد أيضًا أنه طالما أن الطفل نما على رضاعة اللبن فإنه لا ينبغي له أبدًا أن يتناول اللحم، أو أن السنوات العشرين اﻷولى من حياتنا يجب أن تكون سابقة تحتذى في السنوات العشرين التالية».
لم يدع «بين» الحقائق أن تقف في طريق صياغة متقدة جديدة للوجدان الشعبي:
«إن بمقدورنا كتابة تاريخ العالم من جديد. فلم تكن البشرية في وضع مشابه للوضع الحالي منذ زمن النبي نوح. لقد حان الوقت لميلاد عالم جديد، ولتنال سلالة من البشر -ربما يماثل عددها عدد جميع سكان أوروبا- حظها من الحرية في غضون بضعة أشهر».
عندما وجد بين صوته، هاجم بعد ذلك العبودية، وناصر تحرر المرأة، ودافع عن العديد من القضايا التقدمية. في 1787، عاد إلى إنجلترا، عبر فرنسا الثورية، وتابع تحريك هجوم قاس على إدموند بيرك في كتاب حقوق اﻹنسان، الذي يصنف باعتباره أحد أقيم أعماله.
كان بين عضوًا في حلقة راديكالية من المفكرين اﻷحرار التي ضمت ويليام بليك وويليام جودين وماري ولستونكرافت (الكتاب رقم 76 في هذه السلسلة). ودائمًا ما حظى بكراهية وخوف البريطانيين المحافظين. حرقت مؤلفاته بصورة متكررة علانية، وعاش حياة متقلقلة مستبقًا السلطات بخطوة واحدة، أما في الروح اﻷمريكية، فلطالما كان بين سيد الانتقالية.
أصبحت كتابات بين المؤثرة مراجع للراديكالية اﻹنجليزية، ودائما ما قدرها اليساريون. أعطى اتصاله بالثورتين الفرنسية واﻷمريكية موقفًا فريدًا بصفته نصير سياسات التنوير، وعاش نثره -اﻷكثر جماهيرية وعامية من بيرك، الذي احتقر تعالي نثره- بصفته نقد نموذجي ونشط من الجدل التحرري.
اقتباس أساسي
«المجتمع في كل دولة نعمة، لكن الحكومة حتى في أفضل أحوالها ليست إلا شرًا لا مناص منه، وفي أسوأ حالاتها كيان لا يُطاق، ﻷننا عندما نعاني -أو تعرضنا الحكومة لنفس المنغصات التي نتوقع التعرض لها في بلد بلا حكومة- يتضاعف شعورنا بالفاجعة لظننا بأننا نزودها بالوسائل التي تعذبنا بها. فالحكومة، مثل الكساء، علامة على فقدان البراءة، فقصور الملوك تُبنى على أنقاض أكواخ الفردوس».
كتب أخرى للمقارنة: تأملات حول الثورة في فرنسا لإدموند بيرك (1790)، حقوق اﻹنسان لتوماس بين (1791)، عصر العقل لتوماس بين (1793). (*) الاقتباسات من الكتاب منقولة من ترجمة محمد إبراهيم الجندي الصادرة عن مؤسسة هنداوي