بشرة فانون السوداء وأقنعة الاستعمار البيضاء

مقال لأحمد إيمان زكريا

عن كتاب «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» لفرانز فانون 

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


في ليلة ممطرة، يتحرك الدكتور دونالد شيرلي في وسط الطريق المظلم بعد أن ترك سيارته، فيصيح عليه توني السائق مطالبًا إياه بالتوقف، فينفجر دونالد في وجه توني ويقول له إنه ليس أسود بما يكفي وليس أبيض بما يكفي كي يرضى عنه الجميع. فيلم كتاب أخضر Green Book (إنتاج 2018)، يحكي قصة مستوحاة من أحداث حقيقية وقعت بين المؤلف الموسيقي وعازف البيانو دونالد شيرلي وعلاقته بسائقه الإيطالي توني فاليلونجا ورحلتهما في ستينيات القرن الماضي من أجل تقديم بعض العروض الموسيقية في أنحاء متنوعة في الولايات المتحدة.

يلقي هذا المشهد من الفيلم الضوء على إشكالية كبرى حول علاقة الرجل الغربي الأبيض بالرجل الأسود. فالأخير يرى نفسه أقل، ويعاني من مشكلة الاعتراف من قبل قومه السود، وكذلك لا يره الرجل الأبيض ليس إنسانًا مكتملاً، بل قد لا يكون إنسانًا بالنسبة للرجل الأبيض، مجرد أداة للترفيه والتسلية. فدونالد شيرلي الذي حصل على تعليم راقي جدًا في مجال الموسيقى ليس سوى رجل أسود، رغم ثقافته الواسعة ولغته المنمقة ونمط حياته الذي لا يختلف عن أي عائلة أرستقراطية بيضاء في الغرب. إلا أنه في النهاية يشعر بالدونية والاغتراب. 

هذه الإشكاليات التي يمكن مشاهدتها بوضوح في الفيلم تحدث عنها بالتفصيل الكاتب الفرنسي فرانز فانون في كتابه الأشهر (بشرة سوداء وأقنعة بيضاء) الذي صدر عام 1952 باللغة الفرنسية ثم صدرت ترجمته الإنجليزية في عام 1967.

يعتبر كتاب فانون من أهم الكتب التي نقدت مرحلة الكولونيالية وفككتها، كما يُعد واحد من الكتب البارزة في النقد الذاتي للذهنية السوداء، إذ انتمي فانون لإحدى المستعمرات التابعة للحكم الفرنسي في منطقة البحر الكاريبي، حيث وُلد وعاش في جزيرة المارتينيك التابعة لجزر الأنتيل الصغرى في شرق المحيط الأطلنطي. 

وينقل لنا فانون تجربته الذاتية، فهو يكتب أفكاره باعتباره جزءًا من هذه العقلية، رجل أسود مستعمَر ويعاني من العنصرية. كذلك يقدم لنا تجارب أخرى تتنوع ما بين نقد لتجارب ذاتية أخرى وتقكيك لمضامين ونصوص أدبية وسينمائية وشعرية معتمدًا على منهج التحليل النفسي في كتابه. 

الفكرة الكبرى التي يحاول فانون أن يقولها خلالها الكتاب إن الرجل الأسود يعاني من عقدة الدونية في علاقته بالرجل الأبيض، ومرجع ذلك الرجل الأبيض الذي صنع هذا الرجل الأسود الذي يكاد يكون دمية في يده. فإن الرجل الأسود المثالي -عند فانون- من صناعة تصورات الرجل الأبيض، وهو انعكاس لفكرة التنوير الأوروبية، وليس شخصًا حقيقيًا يمتلك تاريخًا أو حضارة، لكنه صورة مصنوعة في مخيلة الرجل الأوروبي الأبيض. كذلك فالرجل الأسود المثالي هو المتعلم بالتبعية تعليمًا أوروبيًا/فرنسيًا، يعيش صراعًا داخليًا على مستوى آخر، فهو لا يفهم جنسه/عرقه، وكذلك لا يفهمه جنسه/قومه/عرقه. وبالتالي فمصير الرجل الأسود مرهون بالرجل الأبيض دومًا في تشكيل وعيه وشخصيته ومصيره. 

ويكشف فانون الخلل في العقلية السوداء منذ البداية فيقول «إن الرجل الأسود الذي يريد أن يتحول للعرق الأبيض بائس مثله مثل الشخص الذي يدعو لكراهية ذوي البشرة البيضاء.» (ص.2) ويضيف «إن الرجل الأسود يريد أن يكون أبيض، والرجل الأبيض يستعبد من أجل الوصول لمستوى إنساني.» (ص.3) واعتبر فانون أن كلا الرجلين منغلقين في عالمهما المرتبط بلونهما، الأسود في عالمه الأسود والأبيض في عالمه الأبيض، ويعزو ذلك إلى النرجسية التي أصابت كليهما. 

ويعلنها صراحة قائلًا «توجد حقيقة: الرجال البيض يعتبرون أنفسهم أعلى من الرجال السود. ويوجد حقيقة أخرى: الرجال السود يريدون أن يثبتوا للرجل الأبيض، بأي تكلفة، مدى ثراء فكرهم، وأنهم يستوون من جهة المستوى الثقافي.»(ص.3)

خلال صفحات الكتاب، يعرض فانون أفكاره في فلك ثنائي ضدي طول الوقت (أبيض/أسود)، (مستعمِر/مستعمَر)، (إنساني/حيواني)، (فرد/مجتمع)، (التحضر والمدنية/الوحشية)، (الأوروبي/غير الأوروبي)، (الذات/الآخر). (الفوقية/الدونية)، (الهامش/ المركز)، (السيد/العبد)، (صراع نفسي/صراع مجتمعي). (نور/ظلام)، (الخير/الشر).

واحدة من بين النقاط المركزية التي يسعى فانون لتحقيقها هي التحرر من قبضة الاستعمار الأوروبي، والتخلص من فكرة أن الحضارة الأوروبية عالمية تتحكم في دفة المصير الإنساني وتوجهه. وقد رأي أن مفهوم (الكونية Universalism) في التحرر من الاستعمار لا يقصد المعنى الأوروبي، بل المعنى الأشمل والأوسع، الإنساني، بغض النظر عن اللون أو العرق.. إلخ. هذا الطرح الواسع يظهر في مقترح فانون بأن يتحرر الرجل الملون من ذاته السوداء. ويتجلى ذلك في أولى صفحات الكتاب عندما قال: 

«نحو إنسانية جديدة ..

وتفاهم بين الرجال/البشر..

وإخواننا ذوي البشرة الملونة..

أيتها اﻹنسانية، أنا أؤمن بكِ..»

اللغة تصنع الثقافة

أفرد فانون فصلًا كاملًا في كتابه حول اللغة وتأثيرها في تشكيل الثقافة والوعي الفردي والجماعي، يرى فانون أن هناك فئتين مستهدفتين في تحليله، السود المخدوعون والبيض المخدوعون والمخادعون، وكلاهما مغترب alienated، ومفهوم الاغتراب alientation أحد المفاهيم الغامضة في العلوم الاجتماعية، وقد تحدث عنه عدد من المفكرين مثل إيميل دوركهايم وماكس فيبر وكارل ماركس وغيرهم، وهو يرتبط بشعور الإنسان بالانفصال أو الغربة عن واقعه أو ذاته وأفكاره في سياق ما. فهو يشعر إنه لا يستطيع التحكم في مصيره، لا يملك القوة لمواجهة الكيانات الأخرى التي قد تحدد هذا المصير مثل الحظ أو المؤسسات التي تصنع القواعد، وهذا ينتج عنه شعور بعدم وجود عامل مشترك بين الإنسان المغترب والمجتمع، وأنه لا معنى للحياة بالنسبة له. مما يضعه في حالة من العزلة الاجتماعية، فيبحث عن مجموعة تشبهه، وهي في أحيان كثيرة تكون مجموعة صغيرة (أقلية). فالرجل الأسود لديه وجهان في تعامله مع العالم، الوجه الأول مع رفاقه السود والوجه الثاني مع الرجل الأبيض، وهذا يؤثر بالتبعية على طريقة تعامله فيخلق تناقضًا حادًا، ويعزو فانون الأمر إلى ما يسمى (بالخضوع الكولونيالي). 

يتصور الرجل الأسود من جزر الأنتيل نفسه أكثر بياضًا من السود اﻵخرين، أو بمعنى آخر، هو أكثر اقترابًا في درجة بياضه من الفرنسي، لماذا؟ لأنه يجيد الفرنسية أكثر من السنغالي أو المالاغاشي الذي يتحدث نفس اللغة، لكن الأخيرين لا يتقناها بنفس الدقة. 

والمراد بهذه الفكرة أن اللغة ومستوى إجادتها ترتقي بمستوى الرجل الأسود وتجعله في مكانة أقرب للإنسان الحقيقي، والإنسان الحقيقي المقصود هنا هو الرجل الغربي الأبيض الفرنسي. وعليه، فاللغة في رؤية فانون صنعت عقدة النقص (الدونية) لدى الشعوب المستعمَرة، لأنها مفروضة من الأمة المستعمِرة، «معايير البلد الأم الثقافية»، فهي التي رفعت من قدره الذي كان منحطًا، حد منزلة حيوان الغابة. إن اللغة ترفع من قدر الرجل الأسود فتجعله أقرب للوطن الأم، فرنسا، وكلما اقترب الزنجي -وفق تعبير فانون- من معرفة وطنه الأم أكثر صار شبه إله. 

وهنا يشير فانون إلى أن اللغة التي يتحدثها المواطن القادم من جزيرة المارتينيك لا ترقى لنفس مستوى فرنسية الفرنسي، والمارتينيكي يعلم في داخله أن هناك صورة ذهنية-نمطية - عن لغته غير الجيدة في العقلية الفرنسية.

هذه العقدة تتجلى في مظاهر أخرى من بينها محاولات المواطن الأنتيلي/المارتينيكي تجنب الحديث بلغته المحلية، والتي تعتبر لغة مُولَدة أو ما تسمى باللغة الكريولية * Creole، لأنها تعزز لديه عقدة الدونية، فهذه اللغة تثير سخرية الرجل الأبيض. هذا التجنب يصل لدرجة أن بعض الأسر في مارتينيك يمنعون أطفالهم من الحديث باللغة المولدة، ويسخرون منهم حال نطقوا بها، فتصبح الفرنسية لغة الحديث والأفكار والمشاعر. وعندما يتحدث شخص ما مع مواطن أنتيلي باللغة المولدة يشعر بالغضب، لأنه يوضع في مساحة تصنيف وحكم أنه أقل من الآخر. 

يتبدى هذا التشكل/التغير الثقافي عبر اللغة من خلال تجربة السود الذين يسافرون ويدرسون في فرنسا فتكتمل لديهم دورة المعرفة والوعي والثقافة -وفق التصور الأوروبي- من خلال الحياة هناك، فيعودون إلى البلد الأصلي «بنفوس ذات كبرياء منتفخ».

هذا التشكل الثقافي يخلق تحديًا داخل المجتمع المارتينيكي نفسه، فالعائد من فرنسا يمثل تهديدًا لهم، لأنه يتحدث بلباقة الفرنسيين ويتقن الفرنسية، فيخافه المواطنون المحليون، ويبدأون في مراقبته، لأنه صارًا رجلًا أبيض بالنسبة لهم. إن الرجل المثقف في فرنسا وفق فانون يصفه الناس أنه يتحدث مثل الكتاب، في حين يصفه المارتينيكيون في بلدهم أنه يتحدث مثل الرجل الأبيض. وتظهر ملامح هذا التحدي داخل المجتمع الأنتيلي، من خلال شعور أهل البلد أن ابنهم القادم من فرنسا لم يعد هو الذي كان يعيش معهم، ويختبرون ذلك منذ لحظة وصوله لبلده الأصلي وهو على متن الباخرة. فعندما يقول الوافد إنه سعيد بالعودة إلا أنه يشعر بارتفاع درجة الحرارة في مارتينيك مثلًا ولا يستطيع تحملها، هنا يعلم أهله أنه صار أوروبيًا جاء لزيارتهم.

يواصل فانون عرض عقدة النقص (الدونية) لدى السود، ويحدد فئة منهم، وهم الأكثر تعليمًا، لأنهم يتبنون النمط الأوروبي الفرنسي بكليته، يتماهون معه أو يُضاهونه ويتبنون أفكاره ، فيرتدي الملابس الأوروبية، ويؤثث منزله على النمط الأوروبي، ويستخدم لغة منمقة وأكثر تعقيدًا عند الحديث مع الآخرين. كل هذه المظاهر تساعده على الشعور بالإنجاز والمساواة مع الأوروبي. وهذا يصنع طبقة أخرى من عقدة النقص لدى المواطن الأنتيلي ترتبط بمستويين أحدهما أعلى منه، الفرنسي، وآخر أقل منه، مثل السنغالي.

امرأة سوداء تشتهي رجلًا أبيض

في الفلسفة المانوية، يتكون العالم من جزئين - ثنائية (النور/الظلام).** النور يمثل الخير والظلام تمثيل للشر، هذه الثنائية تنعكس على الرجل الأبيض والأسود، فالأوروبي الأبيض هو تجسيد للنور والأسود انعكاس للظلام. فالإله الرحيم الطيب دون شك أبيض. كما أن الإنسان الأبيض مولود حاملًا للكرامة، دون حاجة لإثبات ذلك، وهو ما لا يتحقق مع الإنسان الأسود.

هذه الضدية يستعرضها فانون بعد ذلك من مربع العلاقات المكون من المرأة الملونة/السوداء وعلاقتها بالرجل الأبيض، وعلاقة الرجل الملون/الأسود بالمرأة البيضاء، ويقوم بتفكيكها على نحو ثقافي نفسي. فالمرأة السوداء تتمنى أن ترتبط برجل أبيض لكنها تعلم في قرارة نفسها أنها أقل منه وأنه لا يحترمها -حتى لو أحبها- قدر احترامه للمرأة البيضاء. ومع علم المرأة السوداء أن حياتها ليست سهلة بسبب تكوينها الفسيولوجي، وعدم قدرتها على جعل العالم حولها أسود، «فما تستطيع فعله هو أن تبيض جسدها وعقلها» الصراع هنا داخلي-خارجي.

إن المرأة السوداء تحب الرجل الأبيض لأنه ذو بشرة بيضاء وعيون زرقاء وشعر أشقر، وتحلم بالتحول لامرأة بيضاء. فالانتماء لسلالة بيضاء يعني أنها إنسانة، أنها لم تولد في الأحراش والغابات، وليست مولودة مع الحيوانات. فهي ترغب في تبييض ذاتها نفسيًا وثقافيًا وفسيولوجيًا.

تجلت نفس الثنائية في علاقة المرأة السوداء بالرجل الأسود، فالمرأة المارتينيكية لن تسمح لنفسها أن تدخل في علاقة مع رجل من نفس عرقها، وعلى الرغم من أن الرجل الأسود قد يكون كفئًا لها إلا أنها تفضل الرجل الأبيض.

وهذا يبنى مستوى جديد يقدمه فانون داخل عالم المرأة الملونة يتعلق بعالمين فرعيين، عالم المرأة السوداء/الزنجية وعالم المرأة الهجينة/القمحية/بنية اللون The Negress and The Mulatto. في نظر فانون يود النموذجان أن يرتقيا ويصبحا امرأة بيضاء، لكن التحدي الأكبر للمرأة الهجينة أنه لا يجب أن تنزلق للخلف وتصبح في مكانة أقل، سوداء، مخاطرة قد تقع حال زواجها من رجل زنجي، وهذا شيء غير معقول. فهي تحتقر الرجل الأسود لأنه يفتقد الكياسة واللباقة والمكانة التي يمتلكها الرجل الأييض، فالزنجي وحشي في النهاية.

فوقية بيضاء واتكالية سوداء

بروسبرو وكالبان، شخصيتان في مسرحية العاصفة لويليام شكسبير. الأول رجل أبيض والثاني عبد أسود دميم الخِلقة. اعتمد أحد الكتاب الفرنسيين، أوكتاف مانوني، على استخدام هذه الثنائية لتحليل العقلية الكولونيالية، في كتابه «بروسبرو وكالبان: سيكولوجيا الاستعمار». 

أفرد فانون فصلًا في كتابه للرد على مانوني، فالأخير لا يرى أن عنصرية الأوروبيين ضد غير البيض منبعها الحضارة الأوروبية، لكنها تأتي من بعض الأشخاص الأوروبيين العاملين في مثل هذه البلاد المستعمَرة مثل صغار التجار أو الأشخاص الذين لم يستطيعوا النجاح في أوروبا. إلا أن فانون كان رده على مانوني أن الرجل الأبيض في المستعمرات يمثل أقلية عددية، لكنه يشعر دومًا بالفوقية تجاه الأغلبية الساحقة من السكان السود، واستشهد في ذلك أن 200 رجل أبيض في جزيرة مارتينيك يشعرون بالفوقية والسيادة على أكثر من 300 ألف شخص مارتينيكي أسود، وكذلك في جنوب أفريقيا حيث يسود 2 مليون رجل أبيض على ثقافة قوامها 13 مليون جنوب أفريقي محلي، والعكس لا يحدث، فالأسود في أوروبا لا يستطيع أن يشعر بهذه الفوقية تجاه الرجل الأبيض.

ويرى فانون أن التمييز والعنصرية التي مارسها الرجل الأبيض ضد الأسود صنعت منه كائنًا طفيليًا في علاقته بالعالم المحيط، متوحش، لا فائدة منه، وعليه، فالحل الوحيد للخروج من هذه المعضلة أن يتحول لرجل أبيض، إلا أن مانوني يعتقد أن هذا غير ممكن، لماذا؟ لأن الرجل الأسود تستقر في أعماقه عقدة الاعتمادية/الاتكالية على الرجل الأبيض، ولا يستطيع فعل شيء بدون أمره.

في هذا السياق رد فانون على مانوني قائلًا إن الرجل الأبيض يفعل هذه الممارسات لأن لديه عقدة السلطة والقيادة. ويرى الأسود الاعتمادي/الاتكالي في الأبيض السلطوي السيد المنتظر المخُلص. لذا اعتبر فانون أن دوره في هذه الحالة أن يوقظ وعي مريضه (الأسود) بحيث يتخلى عن هلاوس التبييض ويسعى لتغيير البنية الاجتماعية. ويقول فانون «إن المرء العنصري هو الذي يخلق من دونه».

يحتقر الرجل الأبيض الأسود ويشعر بالخوف منه نتيجة لتصورات كونها الغرب عن اﻵخر. هنا يربط فانون بين رؤية اﻵخر له وتصوراته من خلال الأساطير والحكايات والتاريخ والتاريخية أو التحقق التاريخي Historicity. فقصص مثل كتاب اﻷدغال أو كوخ العم توم، صنعت هذه التصورات في الذهنية الغربية تجاه الرجل الأسود. واعتبر الكاتب أن مثل هذه التصورات حمَّلته بعبء كبير جعله مسؤولًا عن ثلاثة أشياء، جسده وعرقه وأسلافه، وكأنه صار ثلاثة أشخاص في جسد واحد. وكأنه يدفع ثمن لون بشرته السوداء بالنيابة عن كل من يمتلك نفس لون البشرة. ونتيجة ذلك أن قدرته على التحرر من هذه القيود والعقد المزروعة فيه بسبب تلك التصورات، صارت أمرًا مستحيلًا، فكان لزامًا على المرء الأسود أن يُعرف نفسه لهذا العالم دون خوف أو مواربة.

تحدث فانون أيضًا عن التصورات الموجودة لدى الكثير من السود الذين يحلمون بتكوين وطن أو أمة سوداء، لكنه لم ير جدوى لهذه الأفكار، خاصة إنه يرى نفسه رجلًا فرنسيًا مهتمًا بكل ماله علاقة بفرنسا ولا تعنيه مسألة الأمة السوداء. 

يختتم فانون كتابه بطرح رؤيته للعالم من خلال قيم عالمية تعددية، ترفض الثنائيات. وينأى بنفسه أن يقوم بدور المنقذ لرفيقه الأسود أو أن ينسحق في ماضٍ لن يصنع الحاضر أو المستقبل ما دام محملًا بعقد الذنب والنقص. وأن جلده الأسود الذي لم يختره لن يحدد مصيره أو اختياراته في الحياة. وأن كل رجل يسعى لانتصار قيم الكرامة هو أخ له في الإنسانية. ويقول «أنا لست عبد العبودية التي سلبت إنسانية أسلافي». ويرى أنه من الممكن الفخر والتباهي بحضارة الرجل الأسود في القرون الماضية، لكنه تساءل عن مدى تأثير هذا الماضي على أطفال جزر الأنتيل المعاصرين وعلى تكوينهم النفسي والعقلي بشكل إيجابي.


* هي لغة تستحدثها مجموعة بشرية ما من خلال المزج بين مجموعة لغات، فتولد لغة جديدة في مدة زمنية ليست طويلة. وللغة الكريولية قواعدها النحوية والتي يتعلمها النشء ويتحدثون بها منذ الصغر.

** فلسفة/ديانة أسسها ماني أو مانيكيوس في القرن الثالث الميلادي في بابل، وترى أن العالم مركب من أصلين قديمين أحدهما النور والآخر الظلمة (مبدأ الديانة الزرداشتية)