الحقيبة الخاطئة

قصة لـماييف بنشي*

ترجمة: محمد عبد العزيز

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الاخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

* ماييف بنشي (1939-2012) : قاصة وروائية ومسرحية أيرلندية. عُرِفت بتصويرها الفكاهي والمتعاطف لحياة البلدات الصغيرة في أيرلندا، ودقتها في رسم شخصياتها. تُرجِمتْ قصصها ورواياتها إلى نحو 37 لغة، وحصدت العديد من الجوائز منها: جائزة و. هـ. سميث للسرد، وجائزة الكتاب الأيرلندي للإنجاز الأدبي.


ماييف بينشي، عن irish times

سجلت آني دخولها المطار مبكرًا, إذ وصلت إلى المطار قبل موعدها بساعات.

لا شيء من هذا سيتسبب في إثارة عصبيتها!

بمجرد أن استلمت بطاقة الصعود للطائرة، ورأت حقيبتها الجديدة تتدحرج بالبطاقة الصغيرة التي تشير إلى أنها ذاهبة إلى مطار هيثرو بلندن، تنفست الصعداء، فكل شيء يحدث كما يجب، ولا شيء بإمكانه إيقافها. هكذا سيصبح لديها رفاهية تفقُد المعروضات في السوق الحرة بتمعُّنٍ لأول مرة، وربما تواتيها الجرأة وتجرب على رسغها بعض العطور الموجودة هناك. ربما تلقي نظرة على الكاميرات والساعات كذلك. لن تشتري شيئًا؛ ستتفرج فقط.

كان آلان متأخرًا، دائمًا ما يتأخر في تسجيل دخوله المطار، لكن ابتسامته اللطيفة تجعله يبدو دائمًا وكأنه يعتذر عن هذا التصرف الشنيع الذي بدر منه، لدرجة أنه لا أحد كان يتذمر أبدًا. أخبروه أن يذهب مباشرة إلى بوابة المغادرة، وهو ما فعله في النهاية، لكن لا يمكنك أن تتوقع منه المرور بالسوق الحرة دون أن يدخل ليشتري زجاجة فودكا، صح؟ لم تبدُ عليه أي بادرة قلق أو توتر، صحيح أنه كان آخر مَن دخل الطائرة، لكن لا بُدَّ أن يكون هناك دائمًا من يحمل لقب آخر واحد، صح؟ دَلَّ نفسه بسهولة على كرسيه، في درجة رجال الأعمال، بسهولة من اعتاد تلك الأمور لكثرة أسفاره.. وضع حقيبته وزجاجة الفودكا بعناية في المكان المخصص للحقائب، قبل أن يجلس ويربط حزام الأمان بطريقة تجعل كونه مربوطًا واضحة للمضيفة الجوية، ثم فتح نسخة من جريدة «التايم».

رحلة عمل أخرى قد بدأت.

ابتسمت آني في ارتياح عندما رأت حقيبتها على سِير الحقائب الدائري في مطار لندن، لأنها لسببٍ ما توقعت أن تُنسى، تمامًا كما توقعت من رجال المخابرات أن يستدعونها لسؤالها عن نوعية العمل الذي أتت للندن من أجله.

تمامًا كما توقعت من رجال الجمارك أن يمزقوا حقيبتها إربًا، باحثين عن شحنة الهيروين التي تخفيها.

كانت ذات طبيعة خوَّافة، لكنها كانت تعرف هذا، وكانت تقول إن هذا ليس أمرًا سيئًا، لأنه يتسبب في الكثير من المفاجآت اللطيفة عندما لا تتحقق مخاوفها. أخذت حقيبتها ومرَّت سالمة عبر بوابة الجمارك.

تتبعت اللافتات التي تقود إلى مترو الأنفاق، ودلفت إلى القطار الذي شعرت به كأنه مصعد في مبنى الأمم المتحدة. كانت ترى أمامها أناسًا من كل الجنسيات التي ظهرت في الكون، وكل حقيبة من حقائبهم كانت تحمل بطاقة مختلفة عن الأخرى. أغلقت عينيها في سعادة، بينما شق القطار طريقه نحو لندن.

وصل آلان بسهولة، وأخذ حقيبته في آخر لحظة قبل أن تمر من أمامه مُكمِلة طريقها، لأنه انشغل بمساعدة عائلة لم تكن قادرة على الإمساك بكل حقائبها التي وصلت على السِير مرة واحدة.

حقيبة وراء الأخرى، التقط آلان مِتاع العائلة من على السير المتحرك باحترافيةٍ، وعندما وجد أن إحدى الحقائب التي أخرجها ليست لهم، قذفها مجددًا ببساطة وفي هدوءٍ على السِير. ابتسمت له المرأة ممتنةً، فقد كان لآلان طريقة مميزة تجعله يبدو أكثر كفاءة من معظم الأزواج في مثل تلك المواقف.

اشترى جريدة «إيـﭭيننج ستاندرد» من كشك الجرائد، وأوقف تاكسيًا. كان قد سأل سائق التاكسي قبل أن يركب إذا كان بالإمكان أن يأخذ وصلًا في نهاية الرحلة، بما أنها رحلة عمل. وبما أن الكثير من السائقين يتذمرون، فهو يُفضل أن يسأل قبل أن يركب.

«من الأفضل دائمًا أن تقول ما تريده منذ البداية، وأن تقوله بلطف!»

كان هذا شعار آلان دائمًا، وسر نجاحه. كانت الشمس قد غربت، فألقى نظرة سريعة على الطرق السريعة والمنازل البعيدة بحدائقها الأنيقة. كان لطيفًا أن يعود إلى لندن، حيث لا يعرف أحدًا ولا يعرفه أحدٌ.

أخذت آني القطارَ إلى طريق «جلوستر»، وسارت بخطوات سريعة سعيدة نحو الفندق الذي نزلت فيه عدة مرات من قَبل. كانت الحقيبة الجديدة خفيفة الوزن، وغالية، لكن لا يهم، فهي ستبقى للأبد. كانت حقيبة جميلة للغاية، لدرجة أن آني اشترت اثنين من الحروف الأبجدية التي تُلصَق على الحقائب، ولصقتها علي حقيبتها:

«آ. ج.»

في البداية تساءلت عما إذا كانت فعلتها غبية؛ ألا يمكن أن يعرف الناس أنهما ليسا متزوجين لو كانت الحروف الأولى من اسميْـهما، الملصوقة على الحقائب، مختلفة؟ لكنه ضحك من أفكارها هذه، وربت على أنفها، مخبرًا إياها إنها ظريفة للغاية وخوَّافة للغاية. كانت آني توافقه على هذا، وهي تتذكر أن معظم الناس لا يبالون بتلك الأمور أصلًا هذه الأيام. معظمهم على الأقل.

اصطحب التاكسي آلان حتى منطقة «نايتس بريدج»، وحتى الفندق، حيث تذكره العاملون هناك، أو على الأقل تظاهروا بتذكُره، كان يقول اسمه من البداية دائمًا، تحسُّبًا لمثل هذه المواقف.

رحب به الحارس مبتسمًا: «بالطبع يا سيد جرين، مرحبًا بك في فندقنا مرة أخرى».

طوى آلان الوَصْل الذي أخذه من سائق التاكسي، ودسَّه في محفظته، قبل أن يتبع الحارس نحو مكتب الاستقبال، حيث بادر هناك بلفتةٍ أنيقة عندما أطرى على جمال موظفة الاستقبال بملحوظةٍ تركتها تعبث بخصلة من شعرها مبتسمة، وهي تتساءل لماذا لا يفكر الرجال اللطفاء من نوعية السيد آلان هذا في طلب الخروج معها أبدًا، بينما الرجال المقززين مَن يسيل لعابهم عليها دائمًا!

صعد آلان إلى حجرته، وأخرج زجاجة التونيك من البار الصغير، لكنه عندما تفقَّد المعلومات المكتوبة عليها وجد أنها عالية السعرات، فأعادها للبار وأخذ زجاجة الصودا بدلًا منها. كان آلان حريصًا في كل شيء.

فتحت آني حقيبتها في الحجرة الصغيرة التي استقرت فيها بأحد الفنادق، حيث قررت أن تقضي ليلةً واحدة. ستُعلِّق ثوبها لتتأكد من أن أي تجعُّدات به ستختفي، ثم ستأخذ حمامًا دافئًا مستخدمةً كل تلك المستحضرات الجميلة وزيوت الاستحمام الموجودة بالحمام، حتي لا تبدو غدًا وكأنها لم تُستعمَل مطلقًا.

أدارت المفتاح، ثم رفعت لسانَ قفل الحقيبة، فلم تجد أية أثواب أو  أحذية!

لم تجد ثوبا النوم الجديديْن اللذين اشترتهما، ولا حقيبة مستحضرات التجميل ماركة «ﭼـيرلان» بالداخل.

كل ما وجدته كان ملفات، صناديق، قمصانًا رجالية، ثيابًا داخلية رجالية، وشرابات رجالية كذلك، ثم المزيد من الملفات.

تسارعت دقات قلبها فجأة، وكل دقة منها تسببت في ألمٍ ممض في عظام صدرها.

حدث الأمر كما توقعت أن يحدث يومًا ما؛ لقد أخذت حقيبة أخرى.

نظرت في رعب نحو الحروف الأولى الملصقة على الحقيبة، وكانت نفس حروفها.

شخصٌ آخر يدعي «آ. ج.» أيضًا مَن أخذ حقيبتها.

«أوه يا إلهي!» بكت آني جرانت، «لماذا يحدث لي هذا؟ لماذا؟ أنا لست سيئة إلي هذا الحد، ولم أضر أي شخص». سقطت دموعها فوق الحقيبة.

فتح آلان حقيبته أوتوماتيكيًا. سيضع أوراقه على المنضدة الكبيرة، قبل أن يُعلِّق بدلته. كانت ماري تجيد إعداد الحقائب. علَّمها كيفية ذلك في مرحلة مبكرة، عندما وجد أن كل ما تعرفه المسكينة عن إعداد الحقائب هو أن تلقي بكل شيء داخل الحقيبة كيفما اتفق، لكنه شرح لها بكل صبر، أن ما فائدة أن تقوم بكيِّ كل تلك القمصان بتلك الدقة لو لم تخرج من الحقيبة بنفس النظام والهندمة اللتان دخلت بهما؟ نظر آلان نحو أول طبقة من الملابس ظهرت أمامه غير مُصدِّقٍ. فساتين نسائية، ملابس داخلية نسائية مرتبة في نظام، أحذية في أكياس بلاستيكية، بالإضافة إلى حقيبة مستحضرات فاخرة المنظر، مع بعض البقع عليها من الخارج جراء انسكاب أحد المستحضرات بداخلها.

يا للإله القدير.. لقد أخذ حقيبة أخرى!

كانت تحمل نفس حروف اسمه الأولى «آ. ج».

كان يفكر في أن يحصل على حروف أكثر أناقة ليلصقها علي حقيبته، لأنه شعر أن تلك الحروف عادية الشكل. اللعنة، لماذا لم يفعل هذا؟ للحظة فكر فيما لو كانت هذه مزحة من ماري، فقد كانت مكتئبة مؤخرًا وترغب في الذهاب معه إلى رحلات عمله هذه. أيمكن أن تكون قد أعدت حقيبة لنفسها؟ لكن هذا غباء؛ هذه ليست أغراض ماري، هذه الأغراض لسيدة أخري.

اللعنة!

اللعنة!

اللعنة!

كررها آلان لنفسه مرارًا وتكرارًا بصوتٍ عال. يا له من توقيت!

يا له من توقيت مثالي لكي يحدث له هذا، ويفقد حقيبته في هذه الرحلة بالذات دونًا عن كل رحلات عمله السابقة!

استغرق الأمر من «آني» سبعين دقيقةً من البكاء على التليفون، وبعض الجهود من جانب شركة الطيران وإدارة الفندق، لمنعها من الذهاب للمطار، قبل أن تهدأ وتدرك أنها سيتوجب عليها الانتظار حتى الصباح التالي. طمأنها بعض الموظفين في شركة الطيران والفندق، قائلين إن حقيبتها بالتأكيد ستظهر في الصباح التالي. لم تكتشف عنوانًا لمراسلة السيد جرين اللعين هذا إلا عنوان مكتب، مكتوبًا بخط واضح وملصوقًا على سطح الحقيبة من الداخل، وبالتأكيد مكتبه هذا مغلق منذ ساعات.

غدًا؛ كررت أصواتُ من حولها، كما لو كان في نصيحتهم هذه أية فائدة.

في الغد سيكون مَن تنتظره قد وصل بالفعل ومتوقعًا منها أن تكون قد وصلت ومعها أشياءها. كان من المفترض أن يذهبا لقضاء إجازة الأسبوع متجوليْن بسيارته. المرة الأولى التي ستنفرد به فيها على الإطلاق. كان قادمًا من نيويورك، وسيستأجر سيارة في مطار هيثرو.

كان قد أخبر رئيسه بالعمل أن المفاوضات ستأخذ وقتًا أطول، وأخبر زوجته أن... لماذا تهتم بحق السماء بمَ أخبر زوجته؟

لكنه بالتأكيد لن يحب أن يقضي أول أيام عطلتهما معًا في مفاوضاتٍ لا نهائية في المطار، باحثًا عن أشيائها. ألا توجد طريقة تمكنها من معرفة أين يسكن الأبله الذي أخذ حقيبتها؟ لو اتصلت بمنزله، فربما تخبرها زوجته أين سيقيم. هذا طبعًا بافتراض أن زوجته تعرف. لو كانت الزوجات يعرفن أصلًا أي شيء!

احتاج آلان إلى خمس دقائق فقط ليصل للشخص المقصود، والذي أخبره في خمولٍ وهو يقاوم النعاس أن الوقت ليس مناسبًا لمثل تلك الأسئلة، وأن الصباح سيكون أنسب كثيرًا. نعم. الكلام سهل، لكن مَن يحدِّثه هذا ليس وراءه اجتماعًا في السابعة والنصف صباحًا علي مائدة الإفطار، قبل حتى أن تفتح المحلات أبوابها. أين سيمكنه إذن أن يحصل على قميصٍ نظيف، وما فائدة الاجتماع أصلًا لو لم تكن أوراقه معه؟ فليلعن الله تلك المرأة ويلعن جِراب هاتفها المحمول، ومناديلها، وملابسها التي لم يرتدها جسدٌ من قبل. تأمل ألبوم صورها، وذلك الكشكول الذي احتوى على بضعة مقاطع مما بدا له أشبه بمسرحية.

كانت مكتوبة بخط صغير وكأنه شفرة لعينة!

تتابعت المسرحية على مدى الكشكول، صفحة وراء الأخرى، قبل أن يجد أخيرًا صفحةً مكتوبٌ فيها عنوان  آنسة «بيسي آ.  جرانت»، أيًا كانت، وكان متأكدًا من أنها آنسة وليست متزوجة، لأنه وجد بالحقيبة خطابًا موجهًا لها وكان مكتوبًا فيه: إلى الأستاذة بيسي، وهذا هو اللقب الذي تستخدمه الفتيات الوحيدات في أغلب الأحيان.

لكن لسوء الحظ لم يكن به عنوان، وإلا لاتصل بدليل التليفون الأيرلندي، وتمكن من العثور على والديْ الفتاة، وسؤالهما عن المكان الذي تتواجد به ابنتهما في تلك اللحظة. هذا طبعًا لو كانت قد أخبرتهما بمكان ذهابها من الأصل، فذلك الطراز الغريب الأطوار من الفتيات، والذي يحمل معه ألبومًا للصور، وملابس لم تُستَخدَم بعد، ومسرحيات مكتوبة بذلك الخط الصغير المنمنم، غالبًا لا يخبر أهله بأي شيء على الإطلاق.

كان مدير الفندق الصغير القريب من جلوستر حزينًا من أجل الآنسة جرانت اللطيفة، التي اعتادت أن تأتي لتقضي ليلةً بفندقه دائمًا، قبل أن تمضي في رحلاتها الطويلة عبر القارة. كانت مدرسة، وكانت دائمًا في غاية الأدب في تعاملها مع الجميع. أعد لها كوبًا من الشاي، وبعض شطائر البندورة، وأخذها إليها في حجرتها. بكت وهي تشكره كما لو كان قد سحبها إلى قارب إنقاذ.

نصحها: «فتشي في أشيائه، فربما تجدين ما يَدلَّكِ على المكان الذي سيقيم فيه!»، فاستمعت آني المتشككة إلى نصيحته، وعبثت في أشياء الرجل وهي تتناول شطائر البندورة وكوب الشاي، فأخرجت كل أوراقه وملفاته، وأخذتها معها على سريرها الصغير وشرعت في القراءة والبحث.

ومن تلك الأوراق عرفتْ الخطط التي يعدها السيد جرين منذ سنتين، وهي الخطط التي من المفترض أن تكفل له أن يمتلك وكالةً خاصة به بحلول الغد، لو سارت الأمور كما يتمنى.

السيد آ. جرين سيعود إلى دبلن رئيسًا للشركة التي يعمل بها.

كانت حججه مقنعة للغاية، لدرجة أن عميلهم من ما وراء البحار سيكون غبيًا لو لم يقبل عرض السيد آ. جرين.

كانت هناك نسخ من جوابات معنونة بـ«من أجل عينيكِ فقط»، كما كانت هناك ملفات مليئة بكلمات بخطوط سوداء عريضة أسفلها «لا تأخذها إلى المكتب»، بالإضافة إلى الكثير من المراسلات المنتقاة بعناية لتُظهِر شخصية رئيس آلان الحالي أمام الأشخاص الذين قاموا بدفع تكاليف رحلته إلى لندن في أسوأ صورة ممكنة.

تنهدت آن، مُفترضَةً أن هذا هو الطبيعي في عالم الأعمال. إنك في المدرسة لا تقوم بإعداد الخطط ضد مدرسة الجغرافيا أو تحاول إيقاع مدير المدرسة مع مدرسة الرسم، لكن هناك من يقومون بتلك المهمة بنجاح.

في بعض الأحيان كانت هناك نسخ من الرسائل التي رآها رئيسه، إلي جانب نسخ من الرسائل التي لم يرَها رئيسه على الإطلاق.

كانت لعبة شديدة الذكاء، تعتمد على جزء الحقيقة الذي تظهره، والجزء الذي تتعمد إخفاءه. ولو اطلعت على المقتطفات المختارة كاملة، والتي حتى الآن لا تصب إلا في مصلحة آلان كما هو واضح أمامها، فإن قضيته مقنعة للغاية، ويجب أن تعترف لهذا الشيطان بذلك.

قررت آن أن آلان هذا وغد يستحق ما حدث له من ضياع حقيبته وصفقته، وتمنت ألا يستطيع العثور على أشياءه أبدًا. لكن في تلك الحالة كيف ستستعيد أشياءها؟ يا للسماء؛ فلنفترض أنه قرأ مذكراتها الخاصة!

قرر آلان جرين أخيرًا أنه لا يستطيع تحمل مذاق الصودا عديمة النكهة، وفتح زجاجة من ماء التونيك قليلة السعرات، أخذها من البار الصغير، مقررًا أن بوسعه فعل هذا من وقتٍ لآخر. فلينظر للأمر على أنه إحدى المشاكل التي تواجهه في العمل. لقد ترك اسمه مع شركة الطيران في حالة اتصال تلك الفتاة بهم، وهو ما ستفعله تلك الغبية بالتأكيد. لماذا لم تتصل حتى الآن أصلًا؟ هل هي غبية إلى تلك الدرجة؟ لا بُدَّ أن آني جرانت هذه فتاة غبية من النوع الذي يجلس في البار مع مدرس لا يقل غباءً، ولا يكفَّان عن النقاش حول المسرحيات وآليات كتابة مسرحية طويلة يدويًا و...

أي نوع من المسرحيات هذه على أية حال؟ شرع في قراءتها، ليجد أنها تحكي عن حياتها الرومانسية. لم تكن مسرحية، وإنما كانت مذكرات الفتاة!

كانت أكثر من مجرد مذكرات؛ كانت الفتاة تحكي خطةً تعدَّها، وعن عشرات السيناريوهات المحتملة لما يمكن أن يحدث في تلك الإجازة.

كان هناك مشهدًا يقول لها الرجل فيه إنه لم يعد بوسعه رؤيتها أكثر من هذا، وإن زوجته قد وجهت له إنذار أخيرًا. تلك المجنونة المدعوة آ. جرانت قد أعدَّت السطور الخاصة بدورها لذلك المشهد، وبأكثر من طريقة! في بعض المحاولات كانت تظهر فتاةً لا مبالية قويةَ الشخصية، وفي البعض الآخر كانت كلماتها تنطق بالحب والشغف، بينما في محاولات أخرى كانت كلماتها تَقطر تهديدًا من نوعية أنها ستقتل نفسها! المجنونة كتبت كل شيء كأنه مسرحية، حتى أن المشهد المكتوب تضمَّن توجيهات المخرج للممثلين!

استنتج آلان أن آيمي هذه مجنونة غير مستقرة نفسيًا، وأنه أيًا كان الفتى المسكين الذي ستقابله، فيجب أن يحذره أحدهم مما ينتظره معها.

شعر آلان بالسرور لأنها فقدت قائمةَ السيناريوهات المجنونة التي أعدتها هذه، كما شعر بالسرور لأنها فقدت كل مستحضرات التجميل الخاصة بها وملابسها الأنيقة، وستُضْطَر إلى مقابلة ذلك الفتى كما هي.

أدرك أنها على الأرجح قد أجرت عمليةٍ تجميلية، وغسلت ملابسها الداخلية وبقية أشيائها بعناية، كما يقوم هو بغسل ياقات وأساور قمصانه، ونعال جواربه، ثم خطر بباله أنها على الأرجح قد قرأت ملفات العمل الخاصة به.

تذكرت آني فجأة أنها لم تخبر الرجل الموجود في المطار بالمكان الذي تقيم فيه. كانت مستاءة للغاية. فلنفترض أن السيد كونيفينج جرين هذا قد اتصل مُبلِغًا بمكان وجوده؛ فلن يستطيعوا الوصول إليها لأنها لم تخبرهم أي شيء. اتصلت بهم مرة أخرى، سائلةً عما إذا كان السيد جرين قد اتصل بهم، لتجد أنه قد فعل وترك رقمه.

أخذت الرقم، وعندما اتصلت رد عليها بعد الرنة الثانية، وأخبرها أنه سيأتي فورًا بحقيبتها. أخبرها أن هذا دوره كرجل. أخبرها أنه خطأ بسيط، ولا بُدَّ أن ثمَّة ملايين مِمَّن تبدأ أسماؤهم بنفس الحرفين: «أ. ج». وأنهى مكالمته بأنه سيأتي حالًا.

أمسك باب التاكسي وهو يتأملها، ليجدها فتاةً رقيقةً ناعمة، مما أثار دهشته. تذكر أنه رأى هذا الوجه للحظاتٍ في مطار لندن، وأنها لو كانت تقف في طابور انتظار التاكسي أمامه، لعَرَضَ عليها أن يتشاركا في تاكسي واحد.

لكنه بعد هذا تذكر الأسرار التي وشَتْ بها مذكراتها، فشعر بجسده يقشعر ارتياحًا وهو يهرب منها.

فوجئت هي الأخرى بحسن مظهره، فقد توقعت مما عرفته عنه أنه ولا بُدَّ سيبدو مثل ثعلب، بوجهٍ صغير مدبب، حاد القسمات، خبيث الملامح، لكنه على العكس بدا عادي المظهر، ويكاد يكون لطيفًا. تذكرت أنها رأت ذلك الوجه على متن الطائرة، في درجة رجال الأعمال، وهو يتبادل الضحكات مع المضيفة الجوية.

«حقيبتك لدي هنا!» قالت له، «للأسف فقد أصبحت تفتقر إلى الترتيب، لأنني كنت أبحث عن أي شيء قد يدلَّني على مكان وجودك».

ابتسم لها مجيبًا: «حقيبتك أيضًا حدث لها نفس الشيء! لكن لم تناسبني أي من مستحضرات التجميل الخاصة بكِ، لهذا ستجدينها كاملة غير منقوصة».

ابتسما لبعضهما البعض، في ما بدا أشبه بالمودة.

نظر لها للحظة. كانت الساعة لا تزال الحادية عشرة مساءً، وفي لندن كان هذا يعني أن السهرة قد بدأت للتو. كانت تبدو جذابة على نحوٍ لطيف.

تمنَّت لو لم يذهب على الفور. ماذا لو ألمحتْ إلى الذهاب لاحتساء بعض النبيذ على سبيل الاحتفال بالعثور على الحقيبتين؟

تذكَّرتْ كيف وصف رئيسه بأنه على مشارف الشيخوخة، وكيف أفرد فصلًا كاملًا في إثبات أن رئيسه هذا سكير.

تذكَّر كيف أقدمت على التهديد بالانتحار، وبإرسال رسائل إلى زوجة شخصٍ ما، أطفاله، وزملائه.

تصافحا بالأيدي، وفي نفس اللحظة تقريبًا أخبرا بعضهما بأنهما لم يقرآ شيئًا من الأوراق الموجودة بالحقيبة أو أي شيء، وفي تلك اللحظة أدركا أن كلاهما قد فعل ذلك بكل تأكيد.