ڤيتجنشتاين في مواجهة هيراقليطس: هل يمكنك أن تخطو إلى نفس النهر مرتين؟

مقال لداڤيد إيجان* 

نشر على aeon، أغسطس 2019

ترجمة: سارة شاهين

* داڤيد إيجان مساعد أستاذ زائر في قسم الفلسفة في كلية هانتر جامعة مدينة نيويورك. وهو مؤلف كتاب «البحث عن فلسفة أصيلة: ڤيتجنشتاين وهايدجر والحياة اليومية» (2019)

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها


«لست متدينًا، لكني لا أملك إلا أن أرى كل مشكلة من وجهة نظر دينية»، هكذا أخبر الفيلسوف لودفيج ڤيتجنشتاين أحد أصدقائه ذات مرة، هذه المشكلات التي يدّعي رؤيتها من وجهة نظر دينيّة غالبًا ما تكون أمورًا تقنية متعلقة بالمنطق واللغة. تدرب ڤيتجنشاتين كمهندس قبل أن يتجه إلى الفلسفة، وهو يستخدم تشبيهات دنيوية من قبيل المحركات، والروافع، والماكينات. إذا صادفت كلمة «وجود متسامٍ» في كتابات ڤيتجنشتاين، فمن المرجح أن تجد كلمات مثل «سوء تفاهم»، أو «هراء» قريبة منها. 

حينما يضطلع بالرد على الفلاسفة الذين يوجهون أبصارهم نحو الألغاز الكبرى، فبمقدور ڤيتجنشتاين أن يكون معارضًا عنيدًا. خذ مثلًا: «الرجل الذي قال إن المرء لا يمكنه أن يخطو إلى نفس النهر مرتين كان مخطئًا؛ لأن المرء بإمكانه أن يخطو إلى نفس النهر مرتين». يبدو ڤيتجنشتاين -في تصريحات فظة كهذه- أقرب إلى مفسر حرفي قاس منه إلى مفكر ديني. لكن الفحص الدقيق لتلك الملاحظة بإمكانه أن يرينا، ليس فقط ما يعنيه ڤيتجنشتاين «بوجهة نظر دينية»، لكنه سيكشف عن ڤيتجنشتاين المفكر الديني صاحب الأصالة المذهلة. 

«الرجل» الذي ألقى تلك الملاحظة بشأن الأنهار هو هيراقليطس، فيلسوف ما قبل سقراطي، وما بعد حداثي في الوقت نفسه، تنسب إليه أقوال لا تخصه على مواقع الروحانية المعاصرة، ويقتطع الجميع أقواله من سياقها، حيث لم يتبقَ من أعماله سوى شذرات متفرقة. ما هو الشئ الذي يعتقد هيراقليطس أن ليس بإمكاننا فعله؟ من الواضح أن بإمكاني إدخال قدمي في النهر وإخراجها، ثم إدخالها مجددًا. هل يبقى النهر كما هو من لحظةٍ لأخرى -الماء المتدفق على قدميّ يتجه نحو المحيط، ثم تأتي مياه جديدة خالطت النهر عند منبعه- وهل أبقى أنا نفس الشخص؟ 

هناك قراءة معينة لهيراقليطس تفترض احتواء كلامه على رسالة صوفية؛ نستخدم تلك الكلمة الثابتة: نهر، لنتحدث عن شئ في حالة تدفق دائم، وقد يؤدي بنا ذلك للاعتقاد أن الأمور أكثر ثباتًا مما هي عليه بالفعل – في الواقع، قد نعتقد أن الأشياء الثابتة موجودة من الأساس. لغتنا المعتمدة على الأسماء ليست قادرة على وصف الوجود الذي يتدفق بلا انقطاع. يخبرنا هيراقليطس أن اللغة أداة لا تفي بمهمة تخطيط الواقع. 

الشئ الذي يجده ڤيتجنشتاين مثيرًا بشأن العديد من آرائنا الفلسفية هو أنها تبدو شديدة الأهمية، لكن ليس واضحًا ما إذا كانت تحدث فرقًا في أي شئ. تخيل هيراقليطس وهو يمضي ظهيرة على شاطئ النهر (أو على شاطئ ذلك التدفق دائم التغير من اللحظات الشبيهة بالنهر، إذا أحببت)، مع صديقه بارمنيدس، الذي يعتقد أن التغير مستحيل الحدوث. قد يخوضان نقاشًا ملتهبًا عما إذا كان ما يطلق عليه نهر، هو في الحقيقة كيان واحد، أو متعدد، لكنهما -وبعد انتهاء النقاش- بإمكانهما السباحة، أو الحصول على مشروب منعش، أو ارتداء بناطيل الصيد واستخدام الذباب كطعم. إن واحدًا من هذه الأنشطة لن تناله الاعتقادات الميتافيزيقية للخصمين بأقل مقدار من التغير. 

يرى ڤيتجنشتاين أننا سنتفهم خصومات كهذه إذا ما اعتبرنا الأشياء التي يقولها الناس حركاتٍ في لعبة -مثلما تغير كل حركة في الشطرنج مسار اللعبة- فيما يطلق عليه «ألعاب اللغة». الغرض من الكلام، مماثل للغرض من تحريك قطع الشطرنج: أن تفعل شيئًا. لكن الحركة لا تعتبر تلك الحركة في تلك اللعبة إلا بعد قدر معين من التهيئة. كي تعطي معنىً للعبة الشطرنج، عليك أن تميز بين الحصان والفيل، وتعرف كيف تتحرك كل قطعة، وما إلى ذلك. وضع قطع الشطرنج على اللوح في بداية اللعبة ليس تتابعًا من الحركات. إنه ما نفعله لكي تصبح اللعبة ممكنة من الأساس. 

واحدة من الطرق التي تتسبب فيها اللغة بإرباكنا -بحسب ڤيتجنشتاين- هي أن عمليات تقرير القواعد وتحديد الأماكن تحدث عبر نفس الوسيط الذي تستخدمه الحركات الفعلية في ألعاب اللغة– ألا وهو الكلمات. جملتا «يفيض النهر على ضفتيه»، و«كلمة نهر هي اسم» سليمتان لغويًا، لكن الجملة الأولى فقط تعتبر حركة في لعبة لغوية. الجملة الثانية تقرر قاعدة من قواعد استخدام اللغة: وهي مشابهة لقول «فيل الشطرنج يتحرك بطريقة مائلة»، فهي توضيح للطريقة التي يتحرك بها الفيل في الشطرنج أكثر من كونها حركة في لعبة من ألعاب اللغة. 

يريد ڤيتجنشتاين أن يوضح لنا أن ما اختلف هيراقليطس وبارمينيدس بشأنه ليس حقيقة متعلقة بالنهر، بل قواعد التحدث عن النهر. يقترح هيراقليطس لعبة لغوية جديدة: في هذه اللعبة قاعدة تنص على أن استخدام كلمة نهر يمنعنا من قول إننا نخطو إلى نفس النهر مرتين، تمامًا كما تمنعنا لعبتنا اللغوية من قول إن اللحظة ذاتها تحدث في زمنين مختلفين. لا بأس أن تقترح قواعد بديلة، بشرط أن تدرك أنك تقترح قواعد بديلة. إذا قلت «يتحرك الشاه بنفس الطريقة التي يتحرك بها الوزير»، فإما أنك تقول معلومة خاطئة عن الشطرنج المتعارف عليه، او أنك تقترح نسخة جديدة من الشطرنج – والتي قد تكون جيدة وقد لا تكون. مشكلة هيراقليطس هي تصوره أنه يتحدث عن الأنهار، وليس عن القواعد– وفي هذه الحالة، فهو ببساطة، مجانب للصواب. فطبقًا لڤيتجنشتاين، فمشكلتنا التي اعتدنا تكرارها عند اشتغالنا بالفلسفة، هي أننا نعتقد أننا نفعل شيئًا، بينما نحن في الواقع نفعل شيئًا آخر. 

لكن إذا رفضنا تلك الملاحظة بشأن الأنهار واعتبرناها خطأ غبيًا وساذجًا، فلن نتعلم منها شيئًا. «بطريقةٍ ما، لا يستطيع الواحد أن يكون حذرًا للغاية وهو يتعامل مع الأخطاء الفلسفية، فهي تحتوي على قدر كبير من الحقيقة»، يحذرنا ڤيتجنشتاين. ربما لن تؤدي خلافات هيراقليطس وبارمنيدس الميتافيزيقية بهما إلى فعل شئ مختلف، لكن هذه الخلافات تفصح بعمق عن مواقف مختلفة من  كل شئ. قد يكون ذلك الموقف عميقًا أو سطحيًا، جريئًا أو هيابًا، ممتنًا أو متذمرًا لكنه ليس صحيحًا أو خاطئًا. وبالمثل، فقواعد اللعبة ليست صائبة أو خاطئة –بل هي المقياس الذي يحدد ما إذا كانت التحركات داخل اللعبة صحيحة أو خاطئة- لكن نوع الألعاب الذي تعتقده جديرًا باللعب، وماهية علاقتك بالقواعد بينما تلعب وفقها، يكشف الكثير بشأنك. 

ما الذي يجعلنا -مثل هيراقليطس- نميل لاعتبار هذا «التعبير عن الموقف» كحقيقة ميتافيزيقية؟ تذكر أن هيراقليطس يريد إصلاح ألعابنا اللغوية لأنه يرى أنها لا تصور الأشياء كما هي عليه في الواقع. لكن فكر فيما عليك فعله إذا ما أردت تقييم كفاءة ألعابنا اللغوية في تصوير حقيقة مطلقة ما. سيتوجب عليك المقارنة بين شيئين : لعبتنا اللغوية، والحقيقة التي يفترض أن تصورها تلك اللعبة. بكلمات أخرى، عليك أن تقارن الحقيقة كما نمثلها لأنفسنا، بالحقيقة الخالصة من كل تمثيل. وهذه عملية مستحيلة: كيف ستصور لنفسك ما تبدو عليه الأشياء بدون أي تصوير؟

مجرد افتراضنا أن بإمكاننا فعل ذلك يفصح عن توق الإنسان العميق للخروج من قيوده الجسدية. ربما يشعرنا وجودنا الجسدي المحدود زمنيًا بالاختناق. هناك ضرب من النزعات الدينية تطمح للتحرر من تلك العوائق: تسعى لأن تتسامى أرواحنا الفانية وتتصل باللامتناهي. لكن نزعة ڤيتجنشتاين الدينية تدفعنا في الاتجاه المقابل: فهو لا يحاول أن يشبع رغبتنا في التسامي، لكنه يسعى لفصمنا تمامًا عن تلك الرغبة. التحرر الذي يمنحنا إياه ليس تحررًا من ذواتنا المحدودة، بل تحررًا لذواتنا المحدودة. 

تأتي ملاحظة ڤيتجنشتاين عن هيراقليطس من مخطوطة كتبها في أوائل الثلاثينات، حينها كان قد بدأ للتو في تشكيل الفلسفة الناضجة التي ستنشر بعد وفاته في كتاب «تحقيقات فلسفية». بعضٌ مما يجعل هذا العمل المتأخر مميزًا، هي الطريقة التي يندمج بها ڤيتجنشتاين الذي يرى كل مشكلة من وجهة نظر دينية، بالمهندس صاحب العقلية العملية. فالتكهنات الميتافيزيقية، بالنسبة لڤيتجنشتاين، مماثلة لمحركات شردت عن ميكانيزمات اللغة، وصارت تدور بسرعة شديدة، خارجة عن السيطرة. يريد ڤيتجنشتاين المهندس أن تعمل الميكانزمات بسلاسة. في هذا الموضع بالذات يكمن الإدراك الروحي: هدفنا، إذا ما فهمناه جيدًا ليس التسامي، لكنه الحضور بكافة الجوارح. وفي هذا الشأن، يقترح مقاربة تقنية غريبة لتلك الرغبة التي تحدث عنها الصوفيون بداية من المعلم إيكهارت، وحتى آباء الزن: ألا ترتقي لحالة من الكمال، بل أن تعرف أنك بالفعل، في مكانك الحالي، وفي هذه اللحظة، تمتلك كل ما تحتاجه من كمال.